ثم بين - سبحانه - ما رد به الخضر على موسى فى اعتراضه على الحادثة الثانية فقال - تعالى - : { وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً . . . }
أى : { وأما الغلام } الذى سبق لى أن قتلته ، واعترضت على فى قتله يا موسى { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } ولم يكن هو كذلك فقد أعلمنى الله - تعالى - أنه طبع كافرا .
{ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } ، والخشية : الخوف الذى يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون عن علم بما يخشى منه .
و { يرهقهما } من الإِرهاق وهو أن يُحمَّل الإِنسان ما لا يطيقه .
أى : فخشينا لو بقى حيا هذا الغلام أن يوقع أبويه فى الطغيان والكفر ، لشدة محبتهما له ، وحرصهما على إرضائه .
( وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا . فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ) . .
فهذا الغلام الذي لا يبدو في حاضره ومظهره أنه يستحق القتل ، قد كشف ستر الغيب عن حقيقته للعبد الصالح ، فإذا هو في طبيعته كافر طاغ ، تكمن في نفسه بذور الكفر والطغيان ، وتزيد على الزمن بروزا وتحققا . . فلو عاش لأرهق والديه المؤمنين بكفره وطغيانه ، وقادهما بدافع حبهما له أن يتبعاه في طريقه .
قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جَيْسُور . وفي الحديث عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا " . رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، به ؛ ولهذا قال : { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا } أي : يحملهما حبه على متابعته على الكفر .
قال قتادة : قد فرح به أبواه حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما ، فليرض{[18364]} امرؤ بقضاء الله ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه{[18365]} فيما يحب .
وصح في الحديث : " لا يقضي الله للمؤمن قضاء{[18366]} إلا كان خيرًا له " . وقال تعالى : { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [ البقرة : 216 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } .
يقول تعالى ذكره : وأما الغلام ، فإنه كان كافرا ، وكان أبواه مؤمنين ، فعلمنا أنه يرهقهما . يقول : يغشيهما طغيانا ، وهو الاستكبار على الله ، وكفرا به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . وقد ذُكر ذلك في بعض الحروف . وأما الغلام فكان كافرا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : «وأمّا الغُلامُ فَكانَ كافِرا » في حرف أُبيّ ، وكان أبواه مؤمنين فأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْرا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَأمّا الغُلامُ فَكانَ أبَوَاه مُوْمِنَيْنِ وكان كافرا بعض القراءة . وقوله : فَخَشِينا وهي في مصحف عبد الله : «فخَافَ رَبّكَ أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانا وكُفْرا » .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، قال : حدثنا عبد الجبار بن عباس الهمْداني ، عنا بن إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الغُلامُ الّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ طُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كافِرا » .
والخشية والخوف توجههما العرب إلى معنى الظنّ ، وتوجه هذه الحروف إلى معنى العلم بالشيء الذي يُدرك من غير جهة الحسّ والعيان . وقد بيّنا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته .
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : معنى قوله خَشِينا في هذا الموضع : كرهنا ، لأنّ الله لا يخشَى . وقال في بعض القراءات : فخاف ربكُ ، قال : وهو مثل خفت الرجلين أن يعولا ، وهو لا يخاف من ذلك أكثر من أنه يكرهه لهما .
{ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما } أن يغشيهما . { طغيانا وكفرا } لنعمتهما بعقوقه فليحقهما شرا ، أو يقرن بايمانهما طغيانه وكفره يجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر ، أو يعديهما بعلته فيرتدا بإضلاله ، أو بممالأته على طغيانه وكفره حياله وإنما خشي ذلك لأن الله تعالى أعلمه . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن نجدة الحروري كتب إليه كيف قتله وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان ، فكتب إليه إن كنت علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل . وقرئ " فخاف ربك " أي فكره كراهة من خاف سوء عاقبته ، ويجوز أن يكون قوله { فخشينا } حكاية قول الله عز وجل .
الخشية : توقع ذلك لو لم يتدارك بقتله .
وضميرا الجماعة في قوله { فَخَشِيَنَا } وقوله { فَأَرَدْنَا } عائدان إلى المتكلم الواحد بإظهار أنه مشارك لغيره في الفعل . وهذا الاستعمال يكون من التواضع لا من التعاظم لأن المقام مقام الإعلام بأنّ الله أطلعه على ذلك وأمره فناسبه التواضع فقال : { فَخَشِينَا فَأَرَدْنَا } ، ولم يقل مثله عندما قال { فَأَرَدتُ أنْ أعِيبَها } لأنّ سبب الإعابة إدراكه لمن له علم بحال تلك الأصقاع .
وقد تقدم عند قوله تعالى : { قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون } في سورة يوسف ( 79 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.