{ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم }
{ الحمد } هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها .
{ رب العالمين } أي : مالكهم ، إذ الرب مصدر " ربه يربه " إذا تعاهده بالتربية حتى يبلغ به شيئًا فشيئا درجة الكمال . وهو اسم من أسماء الله - تعالى - ولا يطلق على غيره إلا مقيدًا فيقال : رب الدار ، ورب الضيعة أى : صاحبها ومالكها .
والعالمين : جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله - تعالى- . قال القرطبي : " وهو مأخوذ من العلم والعلامة ؛ لأنه يدل على موجده " . وقيل : المراد بالعالمين أولوا العلم من الإِنس والجن والملائكة .
وقد افتتحت سورة الفاتحة بهذه الجملة الكريمة { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } لأنه سبحانه أول كل شئ وآخر كل شئ ، ولكي يعلمنا - سبحانه - أن نبدأ كتبنا وخطبنا بالحمد والثناء عليه ، حتى نبدأ ونحن في صلة بالله تكشف عن النفوس أغشيتها ، وتجلو عن القلوب أصداءها . والمعنى - كما قال ابن جرير - " الشكر خالصًا لله - جل ثناؤه - دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه مما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد . ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذاهم به من نعيم العيش ، عن غير استحقاق لهم عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه ، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم . لربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرًا .
فالآية الكريمة قد قررت بصراحة ووضوح ثبوت الثناء المطلق الذي لا يحد لله - تعالى - وأنه ليس لأحد أن ينازعه إياه - سبحانه - هو رب العالمين .
وجملة { الحمد للَّهِ } مفيدة لقصر الحمد عليه - سبحانه - نحو قولهم : " الكرم في العرب " . كما أن أل في الحمد " للاستغراق . أي : أن جميع أجناس الحمد ثابتة لله رب العالمين .
وإنما كان الحمد مقصورًا في الحقيقة على الله ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شئ ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، فهو في الحقيقة حمد لله ، لأنه - سبحانه - هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم علي .
ولم تفتتح السورة بصيغة الأمر بأن يقال : احمدوا الله ، وإنما افتتحت بصيغة الخبر { الحمد للَّهِ } ، لأن الأمر يقتضى التكليف : والتكليف قد تنفر منه النفوس أحيانًا ، فأراد - سبحانه – وهو يبادئهم بشرعة جديدة وتكاليف لم يعهد وها ، أن يؤنس نفوسهم ، ويؤلف قلوبهم ، فساق لهم الخطاب بصيغة الخبر ، ترفقا بهم ، حتى يديموا الإِصغاء لما سيلقيه عليهم من تكاليف .
وقد تكلم بعض المفسرين عن الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله - تعالى - { الحمد للَّهِ } ، دون قوله - تعالى - : المدح لله ، أو : الشكر لله . فقال : اعلم أن المدح أعم من الحمد ، والحمد أعم من الشكر . أما بيان أن المدح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل وغير العاقل ، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله ، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله .
أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإِنعام والإِحسان ، فثبت أن المدح أعم من الحمد . وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر ، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإِنعام . سواء أكان ذلك الإِنعام واصلا إليك أم إلى غيرك . وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك ، فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد ، وأن الحمد أعم من الشكر . إذا عرفت هذا فنقول : إنما لم يقل : المدح لله ، لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره . وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار . فكان قوله : " الحمد لله " تصريحًا بأن المؤثر فى وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة . . . وإنما لم يقل : الشكر لله ، لأننا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك ، وهذا يشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة ، فحينئذ يكون المطلوب الأصلي له وصول النعمة إليه . وهذه درجة حقيرة . فأما إذا قال " الحمد لله " ، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه - سبحانه - أوصل النعمة إليه ، فيكون الإِخلاص أكمل ، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم ، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت . وقد أجرى - سبحانه - على لفظ الجلالة نعت الربوبية للعالمين ، ليكون كالاستدلال على استحقاقه - تعالى - للحمد وحده ، وفى ذلك إشعار لعباده بأنهم مكرمون من ربهم ، إذ الأمر بغير توجيه فيه إيماء إلى إهمال عقولهم ، أما إذا كان موجهًا ومعللا فإنه يكون فيه إشعار لهم برعاية ناحية العقل فيهم ، وفى تلك الرعاية تشريف وتكريم لهم . فكأنه - سبحانه - يقول لهم : اجعلوا حمدكم وثناءكم لي وحدي . لأني أنا رب العالمين . وأنا الذي تعهدتكم برعايتي وتربيتي منذ تكوينكم من الطين حتى استويتم عقلاء مفكرين .
وعقب البدء باسم الله الرحمن الرحيم يجيء التوجه إلى الله بالحمد ووصفه بالربوبية المطلقة للعالمين : ( الحمد لله رب العالمين ) .
والحمد لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله . . فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضا من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء . وفي كل لمحة وفي كل لحظة وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع ، وتغمر خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان . . ومن ثم كان الحمد لله ابتداء ، وكان الحمد لله ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر : ( وهو الله لا إله إلا هو ، له الحمد في الأولى والآخرة . . . . ) .
ومع هذا يبلغ من فضل الله - سبحانه - وفيضه على عبده المؤمن ، أنه إذا قال : الحمد لله . كتبها له حسنة ترجح كل الموازين . . في سنن ابن ماجه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله [ ص ] حدثهم أن عبدا من عباد الله قال : " يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك " . فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها . فصعدا إلى الله فقالا : يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها . قال الله - وهو أعلم بما قال عبده - : " وما الذي قال عبدي ؟ " قالا : يا رب ، إنه قال : لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . فقال الله لهما : " اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها " . .
والتوجه إلى الله بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله - كما أسلفنا - أما شطر الآية الأخير : ( رب العالمين ) فهو يمثل قاعدة التصور الإسلامي ، فالربوبية المطلقة الشاملة هي إحدى كليات العقيدة الإسلامية . . والرب هو المالك المتصرف ، ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح والتربية . . والتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين - أي جميع الخلائق - والله - سبحانه - لم يخلق الكون ثم يتركه هملا . إنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه . وكل العوالم والخلائق تحفظ وتتعهد برعاية الله رب العالمين . والصلة بين الخالق والخلائق دائمة ممتدة قائمة في كل وقت وفي كل حالة .
والربوبية المطلقة هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل ، والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة بصورتها القاطعة . وكثيرا ما كان الناس يجمعون بين الاعتراف بالله بوصفه الموجد الواحد للكون ، والاعتقاد بتعدد الأرباب الذين يتحكمون في الحياة . ولقد يبدو هذا غريبا مضحكا . ولكنه كان وما يزال . ولقد حكى لنا القرآن الكريم عن جماعة من المشركين كانوا يقولون عن أربابهم المتفرقة : ( ما نعبدهم إلاليقربونا إلى الله زلفى ) . . كما قال عن جماعة من أهل الكتاب : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) . . وكانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام ، تعج بالأرباب المختلفة ، بوصفها أربابا صغارا تقوم إلى جانب كبير الآلهة كما يزعمون !
فإطلاق الربوبية في هذه السورة ، وشمول هذه الربوبية للعالمين جميعا ، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة . لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد ، تقر له بالسيادة المطلقة ، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة ، وعنت الحيرة كذلك بين شتى الأرباب . . ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية الله الدائمة وربوبيته القائمة . وإلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبدا ولا تفتر ولا تغيب ، لا كما كان أرقى تصور فلسفي لأرسطو مثلا يقول بأن الله أوجد هذا الكون ثم لم يعد يهتم به ، لأن الله أرقى من أن يفكر فيما هو دونه ! فهو لا يفكر إلا في ذاته ! وأرسطو - وهذا تصوره - هو أكبر الفلاسفة ، وعقله هو أكبر العقول !
لقد جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار . . يختلط فيها الحق بالباطل ، والصحيح بالزائف ، والدين بالخرافة ، والفلسفة بالأسطورة . . والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يتخبط في ظلمات وظنون ، ولا يستقر منها على يقين .
وكان التيه الذي لا قرار فيه ولا يقين ولا نور ، هو ذلك الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها ، وصفاته وعلاقته بخلائقه ، ونوع الصلة بين الله والإنسان على وجه الخصوص .
ولم يكن مستطاعا أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون ، وفي أمر نفسه وفي منهج حياته ، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته وتصوره لإلهه وصفاته ، وقبل أن ينتهي إلى يقين واضح مستقيم في وسط هذا العماء وهذا التيه وهذا الركام الثقيل .
ولا يدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع على ضخامة هذا الركام ، وحتى يرود هذا التيه من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري ، والتي أشرنا إلى طرف منها فيما تقدم صغير . [ وسيجيء في استعراض سور القرآن الكثير منها ، مما عالجه القرآن علاجا وافيا شاملا كاملا ] .
ومن ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهه إلى تحرير أمر العقيدة ، وتحديد التصور الذي يستقر عليه الضمير في أمر الله وصفاته ، وعلاقته بالخلائق ، وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين .
ومن ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل ، الذي لا تشوبه شائبة من قريب ولا من بعيد . . هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام ، وظل يجلوها في الضمير ، ويتتبع فيه كل هاجسة وكل شائبة حول حقيقة التوحيد ، حتى يخلصها من كل غبش . ويدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها وهم في صورة من الصور . . كذلك قال الإسلام كلمة الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات الله وبخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة . فقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات والعقائد كما تخبط فيه الأوهام والأساطير . . مما يتعلق بهذا الأمر الخطير ، العظيم الأثر في الضمير الإنساني . وفي السلوك البشري سواء .
والذي يراجع الجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله وصفاته وعلاقته بمخلوقاته ، هذا الجهد الذي تمثله النصوص القرآنية الكثيرة . . الذي يراجع هذا الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت البشرية كلها تهيم فيه . . قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر ، وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير . . ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول ، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة - وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه ؛ وإطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام والأساطير !
وإن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها . . كل هذا لا يتجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات ، والأساطير والفلسفات ! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم . . عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة . رحمة حقيقية للقلب والعقل ، رحمة بما فيها من جمال وبساطة ، ووضوح وتناسق ، وقرب وأنس ، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق .
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
القراء السبعة على ضم الدال من قوله : { الحمدُ لِله } وهو مبتدأ وخبر . وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قالا " الحمدَ لِله " بالنصب وهو على إضمار فعل ، وقرأ ابن أبي
عبلة : " الحمدُ لُله " بضم الدال واللام إتباعًا للثاني الأول وله شواهد لكنه شاذ ، وعن الحسن وزيد بن علي : " الحمدِ لِله " بكسر الدال إتباعًا للأول الثاني .
قال أبو جعفر بن جرير : معنى { الحمد لله } الشكر لله خالصًا دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ، ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذَّاهم به من نعيم العيش ، من غير استحقاق منهم ذلك عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه ، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم ، فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرًا .
[ وقال ابن جرير : { الحمد لله } ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال : قولوا : { الحمد لله } ]{[879]} .
قال : وقد قيل : إن قول القائل : الحمد لله ، " ثناء عليه بأسمائه وصفاته الحسنى{[880]} ، وقوله : الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه ، ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد والشكر مكان{[881]} الآخر .
[ وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية . وقال ابن عباس : { الحمد لله } كلمة كل شاكر ، وقد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل : { الحمد لله } شكرًا{[882]} ]{[883]} .
وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر ؛ لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية ، والشكر لا يكون إلا على المتعدية ، ويكون بالجنان واللسان والأركان ، كما قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا
ولكنهم{[884]} اختلفوا : أيهما أعم ، الحمد أو الشكر ؟ على قولين ، والتحقيق أن بينهما عمومًا وخصوصًا ، فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه ؛ لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية ، تقول : حَمدته لفروسيته وحمدته لكرمه . وهو أخص لأنه لا يكون إلا بالقول ، والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه{[885]} ، لأنه يكون بالقول والعمل{[886]} والنية ، كما تقدم ، وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية ، لا يقال : شكرته لفروسيته ، وتقول : شكرته على كرمه وإحسانه إليّ . هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين ، والله أعلم .
وقال أبو نصر إسماعيل بن حَمَّاد الجوهري : الحمد نقيض الذم ، تقول : حَمِدت الرجل أحمده حمدًا ومحمدة{[887]} ، فهو حميد ومحمود ، والتحميد أبلغ من الحمد ، والحمد أعم من الشكر . وقال في الشكر : هو الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف ، يقال : شكرته ، وشكرت له . وباللام أفصح{[888]} .
[ وأما المدح فهو أعم من الحمد ؛ لأنه يكون للحي وللميت وللجماد - أيضا - كما يمدح الطعام والمال ونحو ذلك ، ويكون قبل الإحسان وبعده ، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضًا فهو أعم ]{[889]} .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو معمر القطيعي ، حدثنا حفص ، عن حجاج ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال عمر : قد عَلِمْنا سبحان الله ، ولا إله إلا الله ، فما الحمد لله ؟ فقال علي : كلمة رضيها الله لنفسه{[890]} .
ورواه غير أبي مَعْمَر ، عن حفص ، فقال : قال عمر لعلي ، وأصحابه عنده : لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، قد عرفناها ، فما الحمد لله ؟ قال{[891]} علي : كلمة أحبها [ الله ]{[892]} لنفسه ، ورضيها لنفسه ، وأحب أن تقال{[893]} .
وقال علي بن زيد بن جُدْعَان ، عن يوسف بن مِهْرَان ، قال : قال ابن عباس : الحمد لله كلمة الشكر ، وإذا قال العبد : الحمد لله ، قال : شكرني عبدي . رواه ابن أبي حاتم .
وروى - أيضًا - هو وابن جرير ، من حديث بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : أنه قال : الحمد لله هو الشكر لله والاستخذاء له ، والإقرار له بنعمه وهدايته وابتدائه وغير ذلك .
وقال كعب الأحبار : الحمد لله ثناء الله . وقال الضحاك : الحمد لله رداء الرحمن . وقد ورد الحديث بنحو ذلك .
قال ابن جرير : حدثني سعيد بن عمرو السَّكوني ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثني عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن الحكم بن عمير ، وكانت له صحبة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا قلت : الحمد لله رب العالمين ، فقد شكرت الله ، فزادك »{[894]} .
وقد روى الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا روح ، حدثنا عوف ، عن الحسن ، عن الأسود بن سريع ، قال : قلت : يا رسول الله ، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي ، تبارك وتعالى ؟ فقال : «أما إن ربك يحب الحمد »{[895]} .
ورواه النسائي ، عن علي بن حجر ، عن ابن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن الأسود بن سريع ، به{[896]} .
وروى الترمذي ، والنسائي وابن ماجه ، من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير ، عن طلحة بن خراش ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله »{[897]} . وقال الترمذي : حسن غريب .
وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ »{[898]} . وقال القرطبي في تفسيره ، وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال : الحمد لله ، لكان الحمد لله أفضل من ذلك »{[899]} . قال القرطبي وغيره : أي لكان إلهامه الحمد لله أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا ؛ لأن ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى ، قال الله تعالى : { المال وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا } [ الكهف : 46 ] . وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم : «أن عبدًا من عباد الله قال : يا رب ، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها ، فصعدا إلى السماء فقالا يا رب ، إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها ، قال الله - وهو أعلم بما قال عبده - : ماذا قال عبدي ؟ قالا يا رب إنه قد قال : يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . فقال الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها »{[900]} . وحكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا : قول العبد : الحمد لله رب العالمين ، أفضل من قول : لا إله إلا الله ؛ لاشتمال الحمد لله رب العالمين على التوحيد مع الحمد ، وقال آخرون : لا إله إلا الله أفضل لأنها الفصل بين الإيمان والكفر ، وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله كما ثبت في الحديث المتفق عليه وفي الحديث الآخر في السنن : " أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له »{[901]} . وقد تقدم عن جابر مرفوعا : " أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله " . وحسنه الترمذي .
والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد ، وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث : «اللهم لك الحمد كله ، ولك الملك كله ، وبيدك الخير كله ، وإليك يرجع الأمر كله » الحديث{[902]} .
{ رَبِّ الْعَالَمِينَ } والرب هو : المالك المتصرف ، ويطلق في اللغة على السيد ، وعلى المتصرف للإصلاح ، وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى .
[ ولا يستعمل الرب لغير الله ، بل بالإضافة تقول : رب الدار رب كذا ، وأما الرب فلا يقال إلا لله عز وجل ، وقد قيل : إنه الاسم الأعظم ]{[903]} . والعالمين : جمع عالم ، [ وهو كل موجود سوى الله عز وجل ]{[904]} ، والعالم جمع لا واحد له من لفظه ، والعوالم أصناف المخلوقات [ في السماوات والأرض ]{[905]} في البر والبحر ، وكل قرن منها وجيل يسمى عالمًا أيضًا .
قال بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] الحمد لله الذي له الخلق كله ، السماوات والأرضون ، ومن فيهن وما بينهن ، مما نعلم ، وما لا نعلم .
وفي رواية سعيد بن جبير ، وعكرمة ، عن ابن عباس : رب الجن والإنس . وكذلك قال سعيد بن جبير ، ومجاهد وابن جريج ، وروي عن علي [ نحوه ]{[906]} . وقال{[907]} ابن أبي حاتم : بإسناد لا يعتمد عليه .
واستدل القرطبي لهذا القول بقوله : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ الفرقان : 1 ] وهم الجن والإنس . وقال الفراء وأبو عبيدة : العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ولا يقال للبهائم : عالم ، وعن زيد بن أسلم وأبي عمرو بن العلاء{[908]} كل ما له روح يرتزق . وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم - وهو آخر خلفاء بني أمية ويعرف بالجعد ويلقب بالحمار - أنه قال : خلق الله سبعة عشر ألف عالم أهل السماوات وأهل الأرض عالم واحد وسائر ذلك لا يعلمه{[909]} إلا الله ، عز وجل .
وقال قتادة : رب العالمين ، كل صنف عالم . وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله تعالى { رب العالمين } قال : الإنس عالم ، والجن عالم ، وما سوى{[910]} ذلك ثمانية عشر ألف عالم ، أو أربعة عشر ألف عالم ، هو يشك ، من الملائكة على الأرض ، وللأرض أربع زوايا ، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم ، وخمسمائة عالم ، خلقهم [ الله ]{[911]} لعبادته . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
[ وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح ]{[912]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الفرات ، يعني ابن الوليد ، عن معتب{[913]} بن سمي ، عن تُبَيع ، يعني الحميري ، في قوله : { رب العالمين } قال : العالمين ألف أمة فستمائة في البحر ، وأربعمائة في البر .
[ وحكي مثله عن سعيد بن المسيب ]{[914]} .
وقد روي نحو هذا مرفوعا كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده :
حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبيد بن واقد القيسي ، أبو عباد ، حدثني محمد بن عيسى بن كيسان ، حدثنا محمد بن المنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قلّ الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها فسأل عنه ، فلم يخبر بشيء ، فاغتم لذلك ، فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن ، وآخر إلى الشام ، وآخر إلى العراق ، يسأل : هل رئي من الجراد شيء أم لا ؟ قال : فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد ، فألقاها بين يديه ، فلما رآها كبر ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «خلق الله ألف أمة ، ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد ، فإذا هلك{[915]} تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه »{[916]} . محمد بن عيسى هذا - وهو الهلالي - ضعيف .
وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال : لله ألف عالَم ؛ ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وقال وهب بن منبه : لله ثمانية عشر ألف عالَم ؛ الدنيا عالم منها . وقال مقاتل : العوالم ثمانون ألفًا . وقال كعب الأحبار : لا يعلم عدد العوالم إلا الله عز وجل . نقله كله البغوي ، وحكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : إن لله أربعين ألف عالم ؛ الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها ، وقال الزجاج : العالم كل ما خلق الله في الدنيا والآخرة . قال القرطبي : وهذا هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين ؛ كقوله : { قال فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } والعالم مشتق من العلامة ( قلت ) : لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز :
{ الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ }
قال أبو جعفر : معنى : الحَمْدُ لِلّهِ : الشكر خالصا لله جل ثناؤه دون سائر ما يُعْبَد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الاَلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق وغذاهم به من نعيم العيش من غير استحقاق منهم لذلك عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم . فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخرا .
وبما ذكرنا من تأويل قول ربنا جل ذكره وتقدست أسماؤه : الحَمْدُ لِلّهِ جاء الخبر عن ابن عباس وغيره :
حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد : «قل يا محمد : الحمد لله » .
قال ابن عباس : الحمد لله : هو الشكر ، والاستخذاء لله ، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه ، وغير ذلك .
وحدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، قال : حدثني عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذَا قُلْتَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالمِينَ ، فَقَدْ شَكَرْتَ اللّهَ فَزَادَكَ » .
قال : وقد قيل إن قول القائل : الحَمْدُ لِلّهِ ثناء على الله بأسمائه وصفاته الحسنى ، وقوله : «الشكر لله » ثناء عليه بنعمه وأياديه .
وقد رُوي عن كعب الأحبار أنه قال : الحمد لله ثناء على الله . ولم يبين في الرواية عنه من أيّ معنيي الثناء اللذين ذكرنا ذلك .
حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : حدثني عمر ابن محمد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، قال : أخبرني السلولي ، عن كعب قال : من قال : «الحمد لله » فذلك ثناء على الله .
وحدثني عليّ بن الحسن الخراز ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجرمي ، قال : حدثنا محمد بن مصعب القرقساني ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن الأسود بن سريع ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيْهِ الحَمْدُ مِنَ اللّهِ تَعالى ، ولِذَلِكَ أَثْنَى على نَفْسِهِ فَقالَ : الحَمْدُ لِلّهِ » .
قال أبو جعفر : ولا تَمَانُع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحكم لقول القائل : الحَمْدُ لِلّهِ شكرا بالصحة . فقد تبين إذ كان ذلك عند جميعهم صحيحا ، أن الحمد لله قد يُنْطَق به في موضع الشكر ، وأن الشكر قد يوضع موضع الحمد ، لأن ذلك لو لم يكن كذلك لما جاز أن يقال الحمد لله شكرا ، فيخرج من قول القائل «الحمد لله » مصدر «أشكُر » ، لأن الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد ، كان خطأ أن يصدر من الحمد غير معناه وغير لفظه .
فإن قال لنا قائل : وما وجه إدخال الألف واللام في الحمد ؟ وهلاّ قيل : حمدا لله ربّ العالمين قيل : إن لدخول الألف واللام في الحمد معنى لا يؤديه قول القائل «حمدا » ، بإسقاط الألف واللام وذلك أن دخولهما في الحمد منبىءٌ على أن معناه : جميع المحامد والشكر الكامل لله . ولو أُسقطتا منه لما دلّ إلا على أن حَمْدَ قائلِ ذلك لله ، دون المحامد كلها . إذْ كان معنى قول القائل : «حمدا لله » أو «حمدٌ الله » : أحمد الله حمدا ، وليس التأويل في قول القائل : الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ تاليا سورة أم القرآن أحمد الله ، بل التأويل في ذلك ما وصفنا قبل من أن جميع المحامد لله بألوهيته وإنعامه على خلقه ، بما أنعم به عليهم من النعم التي لا كفء لها في الدين والدنيا والعاجل والاَجل .
ولذلك من المعنى ، تتابعت قراءة القراءة وعلماء الأمة على رفع الحمد من : الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمينَ دون نصبها ، الذي يؤدي إلى الدلالة على أن معنى تاليه كذلك : أحمد الله حمدا . ولو قرأ قارىء ذلك بالنصب ، لكان عندي محيلاً معناه ومستحقّا العقوبة على قراءته إياه كذلك إذا تعمد قراءته كذلك وهو عالم بخطئه وفساد تأويله .
فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : الحمد لله ؟ أَحَمَد اللّهُ نفسَه جل ثناؤه فأثنى عليها ، ثم عَلّمناه لنقول ذلك كما قال ووصف به نفسه ؟ فإن كان ذلك كذلك ، فما وجه قوله تعالى ذكره إذا : إيّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ وهو عز ذكره معبود لا عابد ؟ أم ذلك من قيل جبريل أو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقد بطل أن يكون ذلك لله كلاما .
قيل : بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه ولكنه جل ذكره حمد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهل ، ثم عَلّم ذلك عباده وفرض عليهم تلاوته ، اختبارا منه لهم وابتلاء ، فقال لهم : قولوا «الحمد لله ربّ العالمين » وقولوا : «إياك نعبد وإياك نستعين » فقوله : إياك نعبد ، مما عَلّمَهم جل ذكره أن يقولوه ويدينوا له بمعناه . وذلك موصول بقوله الحمد لله ربّ العالمين ، وكأنه قال : قولوا هذا وهذا .
فإن قال : وأين قوله : «قولوا » فيكون تأويل ذلك ما ادّعيت ؟ قيل : قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها إذا عرفت مكان الكلمة ولم تشك أن سامعها يعرف بما أظهرت من منطقها ما حذفت ، حَذْفُ ما كفى منه الظاهر من منطقها ، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حذفت قولاً أو تأويل قول ، كما قال الشاعر :
واعْلَمُ أنّني سأكُونُ رَمْسا *** إذَا سارَ النّوَاعجُ لا يَسيرُ
فَقالَ السّائلُونَ لِمَنْ حَفَرْتُمْ *** فَقالَ المُخْبرُونَ لَهُمْ وَزيرُ
قال أبو جعفر : يريد بذلك : فقال المخبرون لهم : الميت وزير ، فأسقط «الميت » ، إذ كان قد أتى من الكلام بما يدل على ذلك . وكذلك قول الاَخر :
ورَأيْتِ زَوْجَكِ في الوَغَى *** مُتَقَلّدا سَيْفا وَرُمْحَا
وقد علم أن الرمح لا يتقلد ، وإنما أراد : وحاملاً رمحا . ولكن لما كان معلوما معناه اكتفى بما قد ظهر من كلامه عن إظهار ما حذف منه . وقد يقولون للمسافر إذا ودّعوه : مُصَاحَبا مُعافى ، يحذفون سِرْ واخْرُجْ إذْ كان معلوما معناه وإن أسقط ذكره . فكذلك ما حُذِف من قول الله تعالى ذكره : ( الحمدُ لِلّهِ ربّ العَالمينَ ) لمّا عُلِم بقوله جل وعزّ : ( إياك نَعْبُد ) ما أراد بقوله : الحمد لله ربّ العالمين من معنى أمره عباده ، أغنت دلالة ما ظهر عليه من القول عن إبداء ما حُذف .
وقد روينا الخبر الذي قدمنا ذكره مبتدأ في تفسير قول الله : ( الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ ) عن ابن عباس ، وأنه كان يقول : إن جبريل قال لمحمد : قل يا محمد : الحمد لله ربّ العالمين . وبَيّنا أن جبريل إنما عَلّمَ محَمّدا صلى الله عليه وسلم ما أُمِر بتعليمه إياه . وهذا الخبر ينبىء عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّ } .
قال أبو جعفر : قد مضى البيان عن تأويل اسم الله الذي هو «الله » في «بسم الله » ، فلا حاجة بنا إلى تكراره في هذا الموضع . وأما تأويل قوله «رَبّ » ، فإن الربّ في كلام العرب متصرف على معان : فالسيد المطاع فيها يدعى ربّا ، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة :
وأهْلَكْنَ يَوْما رَبّ كِنْدَةَ وابنَه *** *** وَرَبّ مَعَدّ بينَ خَبْتٍ وعَرْعَرِ
يعني بربّ كندة : سيدَ كندة . ومنه قول نابغة بني ذبيان :
تَخُبّ إلى النّعْمانِ حَتّى تَنالَهُ *** فِدًى لَكَ منْ رَبَ طَريفي وتالِدِي
والرجل المصلح للشيء يدعى رَبّا . ومنه قول الفرزدق بن غالب :
كانُوا كسَالِئَةٍ حَمْقاءَ إذْ حَقَنَت *** سِلأَها في أدِيمٍ غَيْرِ مَرْبُوبِ
يعني بذلك في أديم غير مصلح . ومن ذلك قيل : إن فلانا يَرُبّ صنيعته عند فلان ، إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها . ومن ذلك قول علقمة بن عبدة :
فكنْتَ امْرَأً أفْضَتْ إلَيْكَ رِبابَتي *** وقَبْلَكَ رَبّتْني فَضِعْتُ رُبُوبُ
يعني بقوله أفضت إليك : أي أوصلت إليك ربابتي ، فصرت أنت الذي ترب أمري فتصلحه لما خرجتُ من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك عليّ ، فضيعوا أمري وتركوا تفقده . وهم الرّبوب واحدهم رَبّ والمالك للشيء يدعى رَبّه . وقد يتصرّف أيضا معنى الرب في وجوه غير ذلك ، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة .
فربنا جل ثناؤه ، السيد الذي لا شِبْه له ، ولا مثل في سؤدده ، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه ، والمالك الذي له الخلق والأمر .
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله جل ثناؤه ( رَبّ العالَمِينَ ) جاءت الرواية عن ابن عباس .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد : «يا محمد قل الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ » . قال ابن عباس : يقول قل الحمد لله الذي له الخلق كله ، السموات كلهن ومن فيهن ، والأرَضون كلهن ومن فيهن وما بينهن ، مما يُعلم ومما لا يُعلم . يقول : اعلم يا محمد أن ربك هذا لا يشبهه شيء .
القول في تأويل قوله تعالى : { العَالَمِينَ } .
قاله أبو جعفر : والعالمون جمع عالم ، والعالَم جمع لا واحد له من لفظه ، كالأنامِ والرهط والجيش ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعات على جماع لا واحد له من لفظه . والعالَم اسم لأصناف الأمم ، وكل صنف منها عالَم ، وأهل كل قرن من كل صنف منها عالَم ذلك القرن وذلك الزمان ، فالإنس عالم وكل أهل زمان منهم عالَم ذلك الزمان . والجن عالَم ، وكذلك سائر أجناس الخلق ، كل جنس منها عالم زمانه . ولذلك جُمِع فقيل «عالَمون » ، وواحده جمع لكون عالَم كل زمان من ذلك عالَم ذلك الزمان . ومن ذلك قول العجاج :
*** *** فَخِنْدِفُ هامَةُ هَذَا العالَمِ
فجعلهم عالم زمانه . وهذا القول الذي قلناه قولُ ابن عباس وسعيد بن جبير ، وهو معنى قول عامة المفسرين .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عباس : { الحمد لله ربّ العالمين } الحمد لله الذي له الخلق كله ، السموات والأرض ومن فيهن وما بينهن ، مما يُعلم ولا يُعلم .
وحدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ربّ العالمين : الجنّ والإنس .
وحدثني عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا مصعب ، عن قيس بن الربيع ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قول الله جل وعزّ : ربّ العالمين : قال : ربّ الجن والإنس .
وحدثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا قيس ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قوله : { رب العالمين } قال : الجن والإنس .
وحدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثني ابن أبي مريم ، عن ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قوله : رَبّ العالَمِينَ قال : ابن آدم ، والجن والإنس كل أمة منهم عالَم على حِدَته .
وحدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد : الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ قال : الإنس والجنّ .
وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : بمثله .
وحدثنا بشر بن معاذ العقدي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : رَبّ العالَمِينَ قال : كل صنف : عالَم .
وحدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر ، عن ربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : { رَبّ العالَمِينَ } قال : الإنس عالَم ، والجن عالَم ، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم ، أو أربعة عشر ألف عالم ( وهو يشك ) من الملائكة على الأرض ، وللأرض أربع زوايا ، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم ، خلقهم لعبادته .
وحدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثنا حجاح ، عن ابن جريج ، في قوله : رَبّ العالَمِينَ قال : الجن والإنس .