وقوله - تعالى - : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } تذييل مؤكد لما قبله . والدين : يطلق بمعنى العقيدة التى يعتقدها الإِنسان يدين بها ، وبمعنى الملة التى تجرى أقواله وأفعاله على مقتضاها ، وبمعنى الحساب والجزاء . ومنه قولهم : دنت فلانا بما صنع ، أي : جازيته على صنيعه .
واللفظ هنا شامل لكل ذلك ، أي : لكم - أيها الكافرون - دينكم وعقيدتكم التى تعتقدونها ، ولا تتجاوزكم إلى غيركم من المؤمنين الصادقين ، فضلا عن رسولهم ومرشدهم صلى الله عليه وسلم ، ولي دينى وعقيدتى التى هى عقيدة التوحيد ، والتى بايعنى عليها أتباعي المؤمنون ، وهي مقصورة علينا ، وأنتم محرومون منها ، وسترون سوء عاقبة مخالفتكم لي .
وقدم - سبحانه - المسند على المسند إليه ، لإِفادة القصد والاختصاص ، فكأنه قيل : لكم دينكم لا لغيركم ، ولى دينى لا لغيرى ، والله - تعالى - هو أحكم الحاكمين بينى وبينكم .
وبذلك نرى السورة الكريمة قد قطعت كل أمل توهم الكافرون عن طريقه الوصول إلى مهادنة النبى صلى الله عليه وسلم ، وإلى الاستجابة لشيء من مطالبهم الفاسدة ، وإنما هو صلى الله عليه وسلم بريء براءة تامة منهم ومن معبوداتهم وعباداتهم .
ثم إجمال لحقيقة الافتراق الذي لا التقاء فيه ، والاختلاف الذي لا تشابه فيه ، والانفصال الذي لا اتصال فيه ، والتمييز الذي لا اختلاط فيه :
( لكم دينكم ولي دين ) . . أنا هنا وأنتم هناك ، ولا معبر ولا جسر ولا طريق ! ! !
مفاصلة كاملة شاملة ، وتميز واضح دقيق . .
ولقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل ، الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق . الاختلاف في جوهر الاعتقاد ، وأصل التصور ، وحقيقة المنهج ، وطبيعة الطريق .
إن التوحيد منهج ، والشرك منهج آخر . . ولا يلتقيان . . التوحيد منهج يتجه بالإنسان - مع الوجود كله - إلى الله وحده لا شريك له . ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان ، عقيدته وشريعته ، وقيمه وموازينه ، وآدابه وأخلاقه ، وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود . هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي الله ، الله وحده بلا شريك . ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس . غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية . . وهي تسير . .
وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية . وضرورية للمدعوين . .
إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان ، وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها . وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف . أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلا . ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى ! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها ، قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد . . وهذا الإغراء في منتهى الخطورة !
إن الجاهلية جاهلية ، والإسلام إسلام . والفارق بينهما بعيد . والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته . هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه .
وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية : تصورا ومنهجا وعملا . الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق . والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام .
لا ترقيع . ولا أنصاف حلول . ولا التقاء في منتصف الطريق . . مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام ، أو ادعت هذا العنوان !
وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس . شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء . لهم دينهم وله دينه ، لهم طريقهم وله طريقه . لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم . ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو ، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير !
وإلا فهي البراءة الكاملة ، والمفاصلة التامة ، والحسم الصريح . . ( لكم دينكم ولي دين ) . .
وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم . . ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة ، وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة ، ثم طال عليهم الأمد ( فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) . . وأنه ليس هناك أنصاف حلول ، ولا التقاء في منتصف الطريق ،
ولا إصلاح عيوب ، ولا ترقيع مناهج . . إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان ، الدعوة بين الجاهلية . والتميز الكامل عن الجاهلية . . ( لكم دينكم ولي دين ) . . وهذا هو ديني : التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه ، وعقيدته وشريعته . . كلها من الله . . دون شريك . . كلها . . في كل نواحي الحياة والسلوك .
وبغير هذه المفاصلة . سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع . . والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة . إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح . . .
وقال البخاري : يقال : { لَكُمْ دِينَكُمْ } : الكفر ، { وَلِيَ دِينِ } : الإسلام . ولم يقل : " ديني " ؛ لأن الآيات بالنون ، فحذف الياء ، كما قال : { فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] و { يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] وقال غيره : لا أعبد ما تعبدون الآن ، ولا أجيبكم فيما بقي من عمري ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، وهم الذين قال : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } [ المائدة : 64 ] . انتهى ما ذكره . {[30656]}
ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد ، كقوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [ الشرح : 5 ، 6 ] وكقوله : { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } [ التكاثر : 6 ، 7 ] وحكاه بعضهم - كابن الجوزي ، وغيره - عن ابن قتيبة ، فالله أعلم . فهذه ثلاثة أقوال : أولها ما ذكرناه أولا . الثاني : ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد : { لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } في الماضي ، { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } في المستقبل . الثالث : أن ذلك تأكيد محض .
وثم قول رابع ، نصره أبو العباس بن تَيمية في بعض كتبه ، وهو أن المراد بقوله : { لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } نفى الفعل ؛ لأنها جملة فعلية ، { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } نفى قبوله لذلك بالكلية ؛ لأن النفي بالجملة الاسمية آكد ، فكأنه نفى الفعل ، وكونه قابلا لذلك ، ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا . وهو قول حسن أيضا ، والله أعلم .
وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } على أن الكفر كله ملة واحدة تورثه{[30657]} اليهود من النصارى ، وبالعكس ؛ إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به ؛ لأن الأديان - ما عدا الإسلام - كلها كالشيء الواحد في البطلان . وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس ؛ لحديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يتوارث أهل ملتين شتى " . {[30658]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.