90- ولبئس ما باعوا به أنفسهم بغياً وعدواناً ، إذ مالوا مع أهوائهم وتعصبهم لشعبهم فكفروا بما أنزلنا ، ناقمين على غيرهم أن خصهم الله دونهم بإرسال رسول منهم منكرين على الله أن يكون له مطلق الخيرة في أن ينزل من فضله على من يشاء من عباده ، فباءوا بغضب على غضب لكفرهم وعنادهم وحسدهم ، وعذبوا بكفرهم وللكافرين عذاب عظيم .
ثم ذكر - سبحانه - أنهم بكفرهم قد باعوا أنفسهم بثمن بخس . فقال تعالى : " بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله " أي : بئس الشيء الذي باع به اليهود أنفسهم كفرهم بما أنزل الله بغياً وحسداً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده .
وجمهور المفسرين على أن { اشتروا } هنا بمعنى باعوا ، لأن أولئك اليهود ، لما كانوا متمكنين من الإِيمان الذي يفضي بهم إلى السعادة الأبدية بعد أن جاءهم ما عرفوا من الحق فتركوه ، واستمروا على كفرهم بغياً وحسداً وحباً في الرياسة وتعصباً لجنسيتهم لما كانوا كذلك ، صار اختيارهم للكفر على الإِيمان ، بمنزلة اختيار صاحب السلعة ثمنها على سلعته ، فكاأنهم بذلوا أنفسهم التي كان باستطاعتهم الانتفاع بإيمانها ، وقبضوا الكفر عوضاً عنها فأنفسهم بمنزلة السلعة المبيعة وكفرهم بمنزلة ثمنها المقبوض ، فبئس هذا الثمن الذي أوردهم العذاب الأليم .
وعبر - سبحانه - عن كفرهم بصيغة المضارع { أَن يَكْفُرُواْ } وعن بيعهم لأنفسهم بالماضي { اشتروا } للدلالة على أنهم صرحوا بكفرهم بالقرآن الكريم من قبل نزول الآية ، وإن بيعهم أنفسهم بالكفر طبيعة فيهم مستقرة منذ وقت بعيد ، وأنهم مازالوا مستمرين على تلك الطبيعة المنحرفة .
وقوله تعالى : { بَغْياً أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } تعليل لكفرهم وبيان للباعث عليه ، أي كفروا بما أنزل الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بدافع من البغي والحقد ، وكراهة أن ينزل الله الوحي من فضله على من يشاء من عباده ، فالبغي هنا مصدر بغي يبغى إذا ظلم . والمراد به ظلم خاص هو الحسد ، وإنما عد الحسد ظلما ، لأن الظلم معناه المعاملة التي تبعد عن الحق وتجافيه ، والحسد معناه تمنى زوال النعمة عن الغير والظالم والحاسد قد جانب كل منهما الحق فيما صنع ، والحاسد لن يناله نفع من زوال نعمة المحسود ، كما أنه لن يناله ضر من بقائها ، وما دام كذلك فالحاسد ظالم للمحسود بتمنى زوال النعمة وصدق الشاعر في قوله .
وأظلم خلق الله من بات حاسداً - لمن بات في نعمائه يتقلب - .
فاليهود قد كفروا بما أنزل الله ، من أجل حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم على النبوة ولأنه لم يكن منهم وكان من العرب ، وكراهية لأن ينزل الله الوحي على من يصطفيه للرسالة من غيرهم ، فعدم إيمانهم بما عرفوه وارتقبوه سببه أنانيتهم البغيضة ، وأثرتهم الذميمة التي حملتهم على أن يحسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله ، وأن يتوهموا أن النبوة مقصورة عليهم ، فليس لله - تعالى - في زعمهم ، - أن ينزعها من ذرية إسحاق ليجعلها في ذرية إسماعيل عليهما السلام - .
ولم يصرح - سبحانه - بأن المحسود هو النبي صلى الله عليه وسلم لعلم ذلك من سياق الآيات الكريمة وللتنبيه على أن الحسد في ذاته مذموم كيفما كان حال المحسود .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما آل إليه أمرهم من خسران مبين فقال تعالى : { فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } : باء بإثمه يبوء أي : رجع أي : فرجعوا من أجل كفرهم وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم بغضب مضموم إلى غضب آخر كانوا قد استحقوه بسبب كفرهم بعيسى - عليه السلام - وبسبب تحريفهم للكلم عن مواضعه ، وتضييعهم لأحكام التوراة . فهم بسبب كفرهم المستمر الذي تعددت أسبابه ، يصيبهم غضب كثير متعاقب من الله - تعالى - .
ويصح أن يكون معنى قوله : { فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } أنهم رجعوا بغضب شديد مؤكد ، لصدوره من الله - تعالى - .
ولامراد بالكافرين ، اليهود الذين تحدث عنهم فيما سبق ، فهم الذين عرفوا صدق محمد صلى الله عليه وسلم في نبوته بما نطقت به التوراة ، ومع ذلك كفروا به فاستحبوا العمى على الهدى .
وعبر عنهم بهذا العنوان للتنبيه على أن ما أصابهم من عذاب مذل لهم كان بسبب كفرهم ، ويصح أن يراد بالكافرين : كل كافروهم يدخلون فيه دخولا أوليا ؛ وإنما كان لهم العذاب المهين لأن كفرهم لما كان سببه البغي والحسد والتكبر والأنانية ، قوبلوا بالإِهانة والصغار .
وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد كشفتا عن لون من صفات اليهود الذميمة وهو إعراضهم عن الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يستنصرون به على أعدائهم قبل بعثته ، وبيعهم الإِيمان الذي كان في مكنتهم الظفر به بالكفر بما أنزل الله من دين قويم ، وكتاب كريم إرضاء لغريزة الحقد الذي استحوذ على قلوبهم ، وتمشياً مع أثرتهم التي أبت عليهم أن يؤمنوا بنبي ليس من نسل إسرائيل ولو جاءهم بالحق المبين ، فحق عليهم قول الله - تعالى - : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } .
ويفضح السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه ؛ بعد أن يقرر خسارة الصفقة التي اختاروها :
( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله ، بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . فباؤوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين ) . .
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا . . . لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم ! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما ، يكثر أو يقل . أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها ولكن هذا هو الواقع . وإن بدا تمثيلا وتصويرا . لقد خسروا أنفسهم في الدنيا فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المهين . وبماذا خرجوا في النهاية ؟ خرجوا بالكفر ، هو وحده الذي كسبوه وأخذوه !
وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله [ ص ] أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم ، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . وكان هذا بغيا منهم وظلما فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب ؛ وهناك ينتظرهم عذاب مهين ، جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم .
وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود ، طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد ؛ وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها ؛ ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى ، التي تربط البشرية جميعا . . وهكذا عاش اليهود في عزلة ، يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة ؛ ويتربصون بالبشرية الدوائر ؛ ويكنون للناس البغضاء ، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن ، ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض ، وحروبا يثيرونها ليجروا من ورائها المغانم ، ويروون بها أحقادهم التي لا تنطفىء ، وهلاكا يسلطونه على الناس ، ويسلطه عليهم الناس . . وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة : ( بغيا . . أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ) . .
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُوا بِغَضَبٍ عَلَىَ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ }
ومعنى قوله جل ثناؤه : { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ ساء ما اشتروا به أنفسهم } . وأصل «بِئْسَ » : «بَئِسَ » من البؤس ، سكنت همزتها ثم نقلت حركتها إلى الباء ، كما قيل في ظَلِلْت : ظِلْتُ ، وكما قيل للكَبِد : كِبْدٌ ، فنقلت حركة الباء إلى الكاف لما سكنت الباء . وقد يحتمل أن تكون «بِئْس » وإن كان أصلها «بَئِسَ » من لغة الذين ينقلون حركة العين من فعل إلى الفاء إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق الستة ، كما قالوا من «لَعِبَ » «لِعْبَ » ، ومن «سَئِمَ » «سِئْمَ » ، وذلك فيما يقال لغة فاشية في تميم ، ثم جعلت دالّة على الذمّ والتوبيخ ووصلت ب«ما » .
واختلف أهل العربية في معنى «ما » التي مع «بئسما » ، فقال بعض نحويي البصرة : هي وحدها اسم ، و«أن يكفروا » تفسير له ، نحو : نعم رجلاً زيد . و«أن ينزل الله » بدل من «أنزل الله » .
وقال بعض نحويي الكوفة : معنى ذلك : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا ، ف«ما » اسم بئس ، و«أن يكفروا » الاسم الثاني . وزعم أن «أن ينزل الله من فضله » إن شئت جعلت «أن » في موضع رفع ، وإن شئت في موضع خفض . أما الرفع : فبئس الشيء هذا أن فعلوه وأما الخفض : فبئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا . قال : وقوله : لَبِئْسَ مَا قَدّمَتْ لَهُمْ أنْفُسُهُمْ أنْ سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ كمثل ذلك . والعرب تجعل «ما » وحدها في هذا الباب بمنزلة الاسم التام كقوله : فَنعِمّا هِيَ و«بئسما أنت » . واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرّجّاز :
لا تَعْجِلا فِي السّيْرِ وادْلُوَاهَا *** لَبِئْسَما بُطْءٌ وَلا نَرعاها
قال أبو جعفر : والعرب تقول : لبئسما تزويج ولا مهر ، فيجعلون «ما » وحدها اسما بغير صلة . وقائل هذه المقالة لا يجيز أن يكون الذي يلي «بئس » معرفة موَقّتة وخبره معرفة موقّتة . وقد زعم أن «بئسما » بمنزلة : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم ، فقد صارت «ما » بصلتها اسما موقتا لأن «اشتروا » فعل ماض من صلة «ما » في قول قائل هذه المقالة ، وإذا وصلت بماض من الفعل كانت معرفة موقتة معلومة فيصير تأويل الكلام حينئذٍ : «بئس شراؤهم كفرهم » ، وذلك عنده غير جائز ، فقد تبين فساد هذا القول .
وكان آخر منهم يزعم أن «أن » في موضع خفض إن شئت ، ورفع إن شئت ، فأما الخفض فأن تردّه على الهاء التي في «به » على التكرير على كلامين ، كأنك قلت : اشتروا أنفسهم بالكفر . وأما الرفع فأن يكون مكرّرا على موضع «ما » التي تلي «بئس » . قال : ولا يجوز أن يكون رفعا على قولك : بئس الرجلُ عبدُ الله .
وقال بعضهم : «بئسما » شيء واحد يرافع ما بعده كما حكي عن العرب : «بئسما تزويج ولا مهر » فرافع تزويج «بئسما » ، كما يقال : «بئسما زيد ، وبئسما عمرو » ، فيكون «بئسما » رفعا بما عاد عليها من الهاء ، كأنك قلت : بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم ، وتكون «أن » مترجمة عن «بئسما » .
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من جعل «بئسما » مرفوعا بالراجع من الهاء في قوله : اشْتَرَوا بِهِ كما رفعوا ذلك بعبد الله ، إذ قالوا : بئسما عبد الله ، وجعل «أن يكفروا » مترجمة عن «بئسما » ، فيكون معنى الكلام حينئذٍ : بئس الشيء باع اليهود به أنفسم كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله . وتكون «أن » التي في قوله : «أن ينزل الله » ، في موضع نصب لأنه يعني به أن يكفروا بما أنزل الله من أجل أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، ( . . . ) وموضع أن جر .
وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أن «أن » في موضع خفض بنية الباء . وإنما اخترنا فيها النصب لتمام الخبر قبلها ، ولا خافض معها يخفضها ، والحرف الخافض لا يخفض مضمرا . وأما قوله : { اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ } فإنه يعني به باعوا أنفسهم . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ } يقول : باعوا أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : { بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ } يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه . والعرب تقول : شَريته بمعنى بعته ، واشتروا في هذا الموضع «افتعلوا » من شريت . وكلام العرب فيما بلغنا أن يقولوا : شَرَيْت بمعنى بعت ، واشتريت بمعنى ابتعت . وقيل إنما سمي الشاري شاريا لأنه باع نفسه ودنياه بآخرته . ومن ذلك قول يزيد بن مفرّغ الحميري :
وَشَرَيْتُ بُرْدا لَيْتَنِي *** مِنْ قَبْل بُرْدٍ كُنْتُ هامَهْ
يُعْطَى بِها ثَمَنا فَيَمْنَعُها *** ويَقُولُ صَاحِبُهَا ألا تَشْرِي
يعني به : بعت بردا . وربما استعمل «اشتريت » بمعنى «بعت » ، و«شريت » في معنى «ابتعت » ، والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت .
وأما معنى قوله : بَغْيا فإنه يعني به : تعدّيا وحسدا . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد بن قتادة : بَغْيا قال : أي حسدا ، وهم اليهود .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : بَغْيا قال : بغوا على محمد صلى الله عليه وسلم وحسدوه ، وقالوا : إنما كانت الرسل من بني إسرائيل ، فما بال هذا من بني إسماعيل فحسدوه أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { بَغْيا } يعني حسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، وهم اليهود كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
قال أبو جعفر : فمعنى الآية : بئس الشيء باعوا به أنفسهم الكفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بتصديقه واتباعه ، مِنْ أجل أن أنزل الله من فضله ، وفضلُه حكمته وآياته ونبوّته على من يشاء من عباده يعني به على محمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، من أجل أنه كان من ولد إسماعيل ، ولم يكن من بني إسرائيل .
فإن قال قائل : وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر فقيل : { بئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ أنْ يَكْفُرُوا بِمَا أنْزَلَ اللّهُ ؟ } وهل يشترى بالكفر شيء ؟ قيل : إن معنى الشراء والبيع عند العرب : هو إزالة مالك ملكه إلى غيره بعوض يعتاضه منه ، ثم تستعمل العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضا شرّا أو خيرا ، فتقول : نِعْمَ ما باع به فلان نفسه ، وبئس ما باع به فلان نفسه ، بمعنى : نعم الكسب أكسبها وبئس الكسب أكسبها إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرّا . فكذلك معنى قوله جل ثناؤه : بِئْسَ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأهلكوها ، خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم فقال : بئسما اشتروا به أنفسهم يعني بذلك : بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم ، وبئس العوض اعتاضوا من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدا ، إذْ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعدّ لهم لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه بالنار ، وما أعدّ لهم بكفرهم بذلك . وهذه الآية وما أخبر الله فيها عن حسد اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم وقومه من العرب ، من أجل أن الله جعل النبوّة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل ، حتى دعاهم ذلك إلى الكفر به مع علمهم بصدقه ، وأنه نبيّ لله مبعوث ورسول مرسل نظيرة الآية الأخرى في سورة النساء ، وذلك قوله : { ألم تَرَ الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ للذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ، أُولَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا ، أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ المُلْكِ فإذا لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقيرا ، أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ على ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْرَاهِيمَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما } .
القول في تأويل قوله تعالى : { أنْ يُنَزّلَ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ على مَنْ يَشاءُ منْ عِبادِهِ } .
قد ذكرنا تأويل ذلك وبيّنا معناه ، ولكنا نذكر الرواية بتصحيح ما قلنا فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن أشياخ منهم قوله : { بَغْيا أنْ يُنَزّلَ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ على مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ } أي أن الله تعالى جعله في غيرهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : هم اليهود ، ولما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم ، كفروا به حسدا للعرب ، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، مثله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قالوا : إنما كانت الرسل من بني إسرائيل ، فما بال هذا من بني إسماعيل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عليّ الأزدي قال : نزلت في اليهود .
القول في تأويل قوله تعالى : فَباءوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ .
يعني بقوله : فَباءُوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ فرجعت اليهود من بني إسرائيل بعد الذي كانوا عليه من الاستنصار بمحمد صلى الله عليه وسلم والاستفتاح به ، وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبيّ مبعوث ، مرتدين على أعقابهم حين بعثه الله نبيّا مرسلاً ، فباءوا بغضب من الله استحقّوه منه بكفرهم بمحمد حين بعث ، وجحودهم نبوّته ، وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته في كتابهم عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب عَلى غَضَبٍ سالف كان من الله عليهم قبل ذلك سابق غضبه الثاني لكفرهم الذي كان قبل ذلك بعيسى ابن مريم ، أو لعبادتهم العجل ، أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت يستحقون بها الغضب من الله . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : حدثني ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، فيما أروي عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : فَباءُوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ فالغضب على الغضب غضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم ، وغضب بكفرهم بهذا النبيّ الذي أحدث الله إليهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان عن أبي بكير ، عن عكرمة : { فَباءُوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } قال : كُفْرٌ بعيسى وكفرٌ بمحمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي بكير ، عن عكرمة : { فَباءُوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } قال : كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي بكير ، عن عكرمة مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، قال : الناس يوم القيامة على أربعة منازل : رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما فله أجران . ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجر . ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمد ، فباء بغضب على غضب . ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب ، فمات بكفره قبل محمد صلى الله عليه وسلم فباء بغضب .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { فَباءُوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى ، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فبَاءُوا بِغَضَبٍ اليهود بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، عَلَى غَضَبٍ جحودهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وكفرهم بما جاء به .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ف{ َبَاءُوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } يقول : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ، ثم غضبه عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَباءُوا بِغَضَبً على غَضَبٍ } أما الغضب الأول : فهو حين غضب الله عليهم في العجل ، وأما الغضب الثاني : فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير قوله : { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ } قال : غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم من تبديلهم وكفرهم ، ثم غضب عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم إذ خرج فكفروا به .
قال أبو جعفر : وقد بينا معنى الغضب من الله على من غضب عليه من خلقه واختلاف المختلفين في صفته فيما مضى من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته ، والله تعالى أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وللْكافِرِينَ عَذَابَ مُهِين } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وللْكافِرِينَ عَذَاب مُهِين } : وللجاحدين نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم عذاب من الله إما في الاَخرة ، وإما في الدنيا والاَخرة مهين هو المذلّ صاحبه المخزي الملبسه هوانا وذلة .
فإن قال قائل : أيّ عذاب هو غير مهين صاحبه فيكون للكافرين المهين منه ؟ قيل : إن المهين هو الذي قد بينا أنه المورث صاحبه ذلّةً وهوانا الذي يخلد فيه صاحبه لا ينتقل من هوانه إلى عزّ وكرامة أبدا ، وهو الذي خصّ الله به أهل الكفر به وبرسله وأما الذي هو غير مهين صاحبه : فهو ما كان تمحيصا لصاحبه ، وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام يسرق ما يجب عليه به القطع فتُقطع يده ، والزاني منهم يزني فيقام عليه الحدّ ، وما أشبه ذلك من العذاب ، والنكال الذي جعله الله كفارات للذنوب التي عذّب بها أهلها ، وكأهل الكبائر من أهل الإسلام الذين يعذّبون في الاَخرة بمقادير أجرامهم التي ارتكبوها ليمحّصوا من ذنوبهم ثم يدخلون الجنة . فإن كل ذلك وإن كان عذابا فغير مهين من عذّب به ، إذ كان تعذيب الله إياه به ليمحصه من آثامه ثم يورده معدن العزّ والكرامة ويخلده في نعيم الجنان .
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } ( 90 )
«وبيس »( {[934]} ) أصله «بئس » سهلت الهمزة ونقلت إلى الباء حركتها ، ويقال في «بئس » «بيس » اتباعاً للكسرة ، وهي مستوفية للذم كما نعم مستوفية للمدح( {[935]} ) ، واختلف النحويون في { بيسما } في هذا الموضع ، فمذهب سيبويه أن «ما » فاعلة ببيس ، ودخلت عليها بيس كما تدخل على أسماء الأجناس والنكرات لما أشبهتها «ما » في الإبهام ، فالتقدير على هذا القول : بيس الذي { اشتروا به أنفسهم أن يكفروا } ، كقولك : بيس الرجل زيد ، و «ما » في هذا القول موصولة ، وقال الأخفش : «ما » في موضع نصب على التمييز كقولك «بيس رجلاً زيد » ، فالتقدير «بيس شيئاً أن يكفروا » ، و { اشتروا به أنفسهم } في هذا القول صفة «ما »( {[936]} ) ، وقال الفراء «بيسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا » ، وفي هذا القول اعتراض لأنه فعل يبقى بلا فاعل ، و «ما » إنما تكف أبداً حروفاً( {[937]} ) ، وقال الكسائي : «ما » ، و { اشتروا } بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه ، فالتقدير بيس اشتراؤهم أنفسهم أن يكفروا( {[938]} ) ، وهذا أيضاً معترض لأن «بيس » لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى الضمير ، وقال الكسائي أيضاً : إن «ما » في موضع نصب على التفسير وثم «ما » أخرى مضمرة ، فالتقدير بيس شيئاً ما اشتروا به أنفسهم ، و { أن يكفروا } في هذا القول بدل من «ما » المضمرة ، ويصح في بعض الأقوال المتقدمة أن يكون { أن يكفروا } في موضع خفض بدلاً من الضمير في { به } ، وأما في القولين الأولين ف { أن } { يكفروا } ابتداء وخبره فيما قبله ، و { اشتروا } بمعنى باعوا ، يقال : شرى واشترى بمعنى باع ، وبمعنى ابتاع( {[939]} ) ، و { بما أنزل الله } يعني به القرآن ، ويحتمل أن يراد به التوراة لأنهم إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام فقد كفروا بالتوراة ، ويحتمل أن يراد به الجميع من توراة وإنجيل وقرآن ، لأن الكفر بالبعض يلزم الكفر بالكل ، و { بغياً } مفعول من أجله ، وقيل نصب على المصدر( {[940]} ) ، و { أن ينزل } نصب على المفعول من أجله أو في موضع خفض بتقدير بأن ينزل( {[941]} ) .
وقرأ أبو عمرو( {[942]} ) وابن كثير «أن ينزل » بالتخفيف في النون والزاي ، و { من فضله } يعني من النبوة والرسالة . و { من يشاء } يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب . ويدخل في المعنى عيسى عليه السلام لأنهم قد كفروا به بغياً ، والله قد تفضل عليه ، و «باؤوا » معناه : مضوا متحملين لما يذكر أنهم باؤوا به ، و { يغضب } معناه من الله تعالى لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم على غضب متقدم من الله تعالى عليهم ، قيل لعبادتهم العجل ، وقيل لقولهم عزير ابن الله ، وقيل لكفرهم بعيسى عليه السلام .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : فالمعنى على غضب قد باء به أسلافهم حظ هؤلاء وافر بسبب رضاهم بتلك الأفعال وتصويبهم لها .
وقال قوم : المراد بقوله { بغضب على غضب } التأكيد وتشديد الحال عليهم لا أنه أراد غضبين معللين بقصتين( {[943]} ) ، و { مهين } مأخوذ من الهوان وهو ما اقتضى الخلود في النار لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين إنما عذابه كعذاب الذي يقام عليه الحد لا هوان فيه بل هو تطهير له . ( {[944]} )
استئناف لذمهم وتسفيه رأيهم إذ رضوا لأنفسهم الكفر بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وأعرضوا عن النظر فيما اشتملت عليه كتبهم من الوعد بمجيء رسول بعد موسى ، إرضاء لداعية الحسد وهم يحسبون أنهم مع ذلك قد استبقَوْا أنفسهم على الحق إذ كفروا بالقرآن ، فهذا إيقاظ لهم نحو معرفة داعيهم إلى الكفر وإشهار لما ينطوي عليه عند المسلمين .
و { بئسما } مركّب من ( بئسَ ) و ( ما ) الزائدة . وفي بئسَ وضِدّها نِعْمَ خلاف في كونهما فعلين أو اسمين والأصح أنهما فعلان . وفي ( ما ) المتصلة بهما مذاهب أحدها أنها معرفة تامة أي تفسر باسم معرف بلام التعريف وغير محتاجة إلى صلة احترازاً عن ( ما ) الموصولة فقوله : { بئسما } يفسر ببئس الشيء قاله سيبويه والكسائي . والآخر أنها موصولة قاله الفراء والفارسي وهذان هما أوضح الوجوه فإذا وقعت بعدها ( ما ) وحدها كانت ( ما ) معرفة تامة نحو قوله تعالى : { إن تبدوا الصدقات فنِعِمَّا هي } [ البقرة : 271 ] أي نعم الشيء هي وإن وقعت بعد ما جملة تصلح لأن تكون صلة كانت ( ما ) معرفة ناقصة أي موصولة نحو قوله هنا : { بئسما اشتروا به أنفسهم } و ( ما ) فاعل ( بئس ) .
وقد يذكر بعد بئس ونِعْم اسم يفيد تعيين المقصود بالذم أو المَدْح ، ويسمى في علم العربية المخصوصَ وقد لا يذكر لظهوره من المقام أو لتقدم ما يدل عليه فقوله : { أن يكفروا } هو المخصوص بالذم والتقدير كفرهم بآيات الله ، ولك أن تجعله مبتدأ محذوف الخبر أو خبراً محذوف المبتدأ أو بدلاً أوبياناً من ( ما ) وعليه فقوله تعالى : { اشتروا } إما صفة للمعرفة أو صلة للموصولة و { أن يكفروا } هو المخصوص بالذم خبر مبتدأ محذوف وذلك على وزان قولك نِعْم الرجل فلان .
والاشتراء الابتياع وقد تقدم في قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] فقوله تعالى هنا : { بئسما اشتروا به أنفسهم } مجاز أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه تشبيهاً لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا فأَبْقَوْا عليها بأن كفروا بالقرآن حسداً ، فإن كانوا يعتقدون أنهم محقون في إعراضهم عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لتمسكهم بالتوراة وأَن قوله فيما تقدم { فلما جاءهم ما عرفوا } [ البقرة : 89 ] بمعنى جاءهم ما عرفوا صفتَه وإن فرطوا في تطبيقها على الموصوف ، فمعنى اشتراء أنفسهم جار على اعتقادهم لأنهم نجوها من العذاب في اعتقادهم فقوله : { بئسما اشتروا به أنفسهم } أي بئسما هو في الواقع وأما كونه اشتراء فبحسب اعتقادهم وقوله : { أن يكفروا بما أنزل الله } هو أيضاً بحسب الواقع ، وفيه تنبيه لهم على حقيقة حالهم وهي أنهم كفروا برسول مرسل إليهم للدوام على شريعة نسخت . وإن كانوا معتقدين صدق الرسول وكان إعراضهم لمجرد المكابرة كما يدل عليه قوله قبله : { فلما جاءهم ما عرفوا } على أحد الاحتمالين المتقدمين ، فالاشتراء بمعنى الاستبقاء الدنيوي أي بئس العوض بَذلُهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف برسالة الصادق بالآية على نحو قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } [ البقرة : 86 ] .
وقيل : إن { اشتروا } بمعنى باعوا أي بذلوا أنفسهم والمراد بذلها للعذاب في مقابلة إرضاء مكابرتهم وحسدهم وهذا الوجه منظور فيه إلى قوله قبله : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } وهو بعيد من اللفظ لأن استعمال الاشتراء بمعنى البيع مجاز بعيد إذ هو يفضي إلى إدخال الغلط على السامع وإفساد ما أحكمته اللغة من التفرقة وإنما دعا إليه قصد قائله إلى بيان حاصل المعنى ، على أنك قد علمت إمكان الجمع بين مقتضى قوله : { ما عرفوا } وقوله هنا : { اشتروا به أنفسهم } فأنتَ في غنى عن التكلف . وعلى كلا التفسيرين يكون { اشتروا } مع ما تفرع عنه من قوله : { فباءُوا بغضب على غضب } تمثيلاً لحالهم بحال من حاول تجارة ليربح فأصابه خسران ، وهو تمثيل يقبَل بعضُ أجزائه أن يكون استعارة وذلك من محاسن التمثيلية .
وجيء بصيغة المضارع في قوله : { أن يَكفروا } ولم يؤتَ به على ما يناسب المبيَّن وهو { مَا اشتروا } المقتضي أن الاشتراء قد مضى للدلالة على أنهم صرحوا بالكفر بالقرآن من قبل نزول الآية فقد تبين أن اشتراء أنفسهم بالكفر عمل استقر ومضى ، ثم لما أريد بيان ما اشتروا به أنفسهم نبه على أنهم لم يزالوا يكفرون ويعلم أنهم كفروا فيما مضى أيضاً إذ كان المبيَّن بأن يَكْفروا معبَّراً عنه بالماضي بقوله : { ما اشتروا } .
وقوله : { بغياً } مفعُول لأجله علة لقوله : { أن يكفروا } لأنه الأقرب إليه ، ويجوز كونه علة لاشتروا لأن الاشتراء هنا صادق على الكفر فإنه المخصوص بحكم الذم وهو عين المذمُوم ، والبغي هنا مصدر بَغى يبغي إذا ظلم وأراد به هنا ظلماً خاصاً وهو الحسد وإنما جُعل الحسد ظلماً لأن الظلم هو المعاملة بغير حق والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود ولا حق للحاسد في ذلك لأنه لا يناله من زوالها نفع ، ولا من بقائها ضر ، ولقد أجاد أبو الطيب إذ أخذ المعنى في قوله :
وأَظْلَمُ خلقِ الله من بات حاسداً *** لِمنْ بَاتَ في نَعْمائِه يَتَقَلَّب
وقوله : { أن ينزل الله } متعلق بقوله : { بغياً } بحذف حرف الجر وهو حرف الاستعلاء لتأويل { بغياً } بمعنى حسداً .
فاليهود كفروا حسداً على خروج النبوءة منهم إلى العرب وهو المشار إليه بقوله تعالى : { على من يشاء من عباده } وقوله : { فباءوا بغضب على غضب } أي فرجعوا من تلك الصفقة وهي اشتراء أنفسهم بالخسران المبين وهو تمثيل لحالهم بحال الخارج بسلعته لتجارة فأصابته خسارة فرجع إلى منزله خاسراً . شبه مصيرهم إلى الخسران برجوع التاجر الخاسر بعد ضميمة قوله : { بئس ما اشتروا به أنفسهم } .
والظاهر أن المراد بغضب على غضب الغضب الشديد على حد قوله تعالى : { نور على نور } [ النور : 35 ] أي نور عظيم وقوله : { ظلمات بعضها فوق بعض } [ النور : 40 ] وقول أبي الطيب :
* أَرَقٌ على أرَق ومثْلِىَ يَأْرَقُ *
وهذا من استعمال التكرير باختلاف صيغه في معنى القوة والشدة كقول الحطيئة :
أنت آل شماس بن لأي وإنما *** أتاهم بها الإحكام والحسب العد
أي الكثير العدد أي العظيم وقال المعري : * بني الحسب الوضاح والمفخر الجم * أي العظيم قال القرطبي قال بعضهم : المراد به شدة الحال لا أنه أراد غضبين وهما غضب الله عليهم للكفر وللحسد أو للكفر بمحمد وعيسى عليهما السلام .
وقوله : { وللكافرين عذاب مهين } هو كقوله : { فلعنة الله على الكافرين } [ البقرة : 89 ] أي ولهم عذاب مهين لأنهم من الكافرين ، والمهين المذل أي فيه كيفية احتقارهم .