87- ولتذكروا كذلك - معشر اليهود - مواقفكم الضالة الآثمة حيال موسى ومن بعثناه من بعده إليكم من المرسلين . فلقد أرسلنا إليكم موسى وآتيناه التوراة وبعثنا إليكم على آثاره عدة رسل ، منهم عيسى ابن مريم الذي أمددناه بالمعجزات وأيدناه بروح القدس ، وهو جبريل رسول الوحي الأمين ، فكنتم كلما جاءكم رسول من هؤلاء بما لا تهوى أنفسكم تستكبرون عن اتباعه ، ففريق كذبتموه وفريق آخر قتلتموه .
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بلون آخر من ألوان جناياتهم ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب وَقَفَّيْنَا . . . }
في هاتين الآيتين تذكير لبني إسرائيل بضرب من النعم التي أمدهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإِجرام .
والمراد بالكتاب الذي أعطاه الله لموسى التوراة ، فقد أنزلها عليه لهدايتهم ولكنهم حرفوها وبدلوها وخالفوا أوارمه وأولوها تأويلا سقيما .
ومعنى { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } أردفنا وأرسلنا من عبد موسى رسلا كثيرين متتابعين ، لإِرشاد بني إسرائيل ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور .
يقال : قفا أثره يقفوه قفواً وقفواً ، إذا تبعه . وقفى على أثره بفلان إذا أتبعه إياه . وقفيته زيداً به : أتبعته إياه . واشتقاقه من : قفوته إذا أتبعت قفاه ، والقفا مؤخر العنق ، ثم أطلق على كل تابع ولو بعد الزمن بينه وبين متبوعه .
والرسل : جمع رسول بمعنى مرسل ، وقد أرسل الله - تعالى - رسلا بعد موسى - عليه السلام - : منهم : داود ، وسليمان ، وإلياس ، واليسع ، ويونس ، وزكريا ، ويحيى - عليهم الصلاة والسلام - .
فمن مظاهر نعم الله على بني إسرائيل ، أنه لم يكتف بإنزال الكتب لهدايتهم ، وإنما أرسل فيهم بجانب ذلك رسلا متعددين ، لكي يبشروهم وينذروهم ، ولكن بني إسرائيل قابلوا نعم الله بالجحود والكفران ، فقد حرفوا كتب الله ، وقتلوا بعض أنبيائه .
والمراد بالبينات في قوله : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } الحجج والبراهين والآيات الدالة على صدقه وصحة نبوته ، فتشمل كل معجزة أعطاها الله لعيسى كإبراء الأكمة والأبرص ، وإحاء الموتى ، والإِخبار ببعض المغيبات ، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها عيسى - عليه السلام - .
وخص القرآن عيسى بالذكر لكونه صاحب كتاب هو الإِنجيل ، ولأن شرعه نسخ أحكاما من شريعة موسى - عليه السلام - .
وفي إضافة عيسى إلى أمه إبطال لما يزعمه اليهود من أن له أباً من البشر .
وقوله : { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } أي : قويناه مأخوذ من الأَيْدِ وهو القوة .
وروح القدس هو جبريل - عليه السلام - ، قال - تعالى - :
{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق . . . } والإِضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي : الروح المقدس . ووصف بالقدس لطهارته وبركته . وسمى روحاً لمشابهته الروح الحقيقي في أن كلا منهما مادة لحياة البشر . فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإِلهية تحيا به القلوب . والروح تحيا به الأجسام .
أي : أننا أعطينا عيسى بن مريم الحجج الدالة على صدقه في نبوته وقويناه على ذلك كله بوحينا الذي أوحيناه إليه عن طريق جبريل - عليه السلام - .
ثم وبخ الله اليهود على أفعالهم القبيحة فقال : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ استكبرتم فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } .
أي : أفكلما جاءكم يا بني إسرائيل رسول بما لا تحبه أنفسكم الشريرة استكبرتم عن اتباعه والإِيمان به وأقبلتم على هؤلاء الرسل ففريقاً منهم كذبتم ، وفريقاً آخر منهم تقتلونه غير مكتفين بالتكذيب :
وتهوى : من هوى إذا أحب " والهوى يكون في الحق ويكون في الباطل كما في هذه الآية .
واستكبرتم : تكبرتم ، والتكبر ينشأ عن الأعجاب بالنفس الذي هو أثر الجهل بها . وهو من الصفات التي متى تمكنت في النفس أوردتها المهالك ، وساقتها إلى سوء المصير .
وقدم تكذيبهم للرسل على قتلهم إياهم ، لأن التكذيب أول ما يصدر عنهم من الشر .
وعبر في جانب القتل بالفعل المضارع فقال : { تَقْتُلُونَ } ولم يقل قتلتم كما قال كذبتم ، لأن الفعل المضارع كما هو المألوف في أساليب البلاغة . يستعمل في الأفعال الماضية التي بلغت من الفظاعة مبلغاً عظيماً . ووجهه أن المتكلم يعمد بذلك الفعل القبيح كقتل الأنبياء ، ويعبر عنه بالفعل المضارع الذي يدل بحسب وضه على الفعل الواقع في الحال . فكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السامع ، وجعله ينظر إليها بعينه ، فيكون إنكاره لها أبلغ ، واستفظاعه لها أعظم .
ثم يمضي السياق يواجه بني إسرائيل بمواقفهم تجاه النبوات وتجاه الأنبياء . . أنبيائهم هم ، وما كان من سوء صنيعهم معهم كلما جاءوهم بالحق ، الذي لا يخضع للأهواء . .
( ولقد آتينا موسى الكتاب ، وقفينا من بعده بالرسل ؛ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس . أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ، ففريقا كذبتم ، وفريقا تقتلون ؟ ) . .
ولقد كانت حجة بني إسرائيل في إعراضهم عن الإسلام ، وإبائهم الدخول فيه ، أن عندهم الكفاية من تعاليم أنبيائهم ، وأنهم ماضون على شريعتهم ووصاياهم . . فهنا يفضحهم القرآن ويكشف عن حقيقة موقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ووصاياهم . ويثبت أنهم هم هم كلما واجهوا الحق ، الذي لا يخضع لأهوائهم .
وفيما تقدم واجههم بالكثير من مواقفهم مع نبيهم موسى - عليه السلام - وقد آتاه الله الكتاب . ويزيد هنا أن رسلهم توالت تترى ، يقفو بعضهم بعضا ؛ وكان آخرهم عيسى بن مريم . وقد آتاه الله المعجزات البينات ، وأيده بروح القدس جبريل - عليه السلام - فكيف كان استقبالهم لذلك الحشد من الرسل ولآخرهم عيسى عليه السلام ؟ كان هذا الذي يستنكره عليهم ؛ والذي لا يملكون هم إنكاره ، وكتبهم ذاتها تقرره وتشهد به :
( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم : ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ! ) ! .
ومحاولة إخضاع الهداة والشرائع للهوى الطارىء والنزوة المتقلبة . ظاهرة تبدو كلما فسدت الفطرة ، وانطمست فيها عدالة المنطق الإنساني ذاته . المنطق الذي يقتضي أن ترجع الشريعة إلى مصدر ثابت - غير المصدر الإنساني المتقلب - مصدر لا يميل مع الهوى ، ولا تغلبه النزوة . وأن يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت الذي لا يتأرجح مع الرضى والغضب ، والصحة والمرض ، والنزوة والهوى ، لا أن يخضعوا الميزان ذاته للنزوة والهوى !
ولقد قص الله على المسلمين من أنباء بني إسرائيل في هذا ما يحذرهم من الوقوع في مثله ، حتى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض والأمانة التي ناطها بهم الله ، فلما وقعوا في مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل ، وطرحوا منهج الله وشريعته ، وحكموا أهواءهم وشهواتهم ، وقتلوا فريقا من الهداة وكذبوا فريقا . ضربهم الله بما ضرب به بني إسرائيل من قبل ، من الفرقة والضعف ، والذلة والهوان ، والشقاء والتعاسة . . إلا أن يستجيبوا لله ورسله ، وإلا أن يخضعوا أهواءهم لشريعته وكتابه ، وإلا أن يفوا بعهد الله معهم ومع أسلافهم ، وإلا أن يأخذوه بقوة ، ويذكروا ما فيه لعلهم يهتدون .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ وَقَفّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىَ أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { آتَيْنَا مُوسَى الكِتابَ } : أنزلناه إليه . وقد بينا أن معنى الإيتاء : الإعطاء فيما مضى قبل ، والكتاب الذي آتاه الله موسى عليه السلام هو التوراة .
وأما قوله : { وَقَفّيْنا }فإنه يعني : وأرْدَفْنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض ، كما يقفو الرجل الرجل إذا سار في أثره من ورائه . وأصله من القَفَا ، يقال منه : قفوت فلانا : إذا صرت خلف قفاه ، كما يقال دَبَرْته : إذا صرت في دبره . ويعني بقوله : { مِنْ بَعْدِهِ } : من بعد موسى . ويعني بالرّسُلِ الأنبياء ، وهم جمع رسول ، يقال : هو رسول وهم رسل ، كما يقال : هو صبور وهم قوم صُبُر ، وهو رجل شكور وهم قوم شُكُر .
وإنما يعني جل ثناؤه بقوله : { وَقَفّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بالرّسُلِ } أي : أتبعنا بعضهم بعضا على منهاج واحد وشريعة واحدة لأن كل من بعثه الله نبيّا بعد موسى صلى الله عليه وسلم إلى زمان عيسى ابن مريم ، فإنما بعثه يأمر بني إسرائيل بإقامة التوراة والعمل بما فيها والدعاء إلى ما فيها ، فلذلك قيل : وَقَفّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بالرّسُلِ يعني على منهاجه وشريعته ، والعمل بما كان يعمل به .
القول في تأويل قوله تعالى : { وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيّنَاتِ } .
يعني بقوله : { وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيّنَاتِ } أعطينا عيسى بن مريم . ويعني بالبينات التي آتاه الله إياها ما أظهر على يديه من الحجج والدلالة على نبوّته من إحياء الموتى وإبراء الأكْمةِ ونحو ذلك من الاَيات التي أبانت منزلته من الله ، ودلت على صدقه وصحة نبوّته . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : { وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيّنَاتِ } أي الاَيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله ، وإبراء الأسقام ، والخبر بكثير من الغيوب مما يدّخرون في بيوتهم ، وما ردّ عليهم من التوراة مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } .
أما معنى قوله : { وأيّدْناهُ } فإنه قوّيناه فأعنّاه ، كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر ، عن الضحاك : { وأيّدْناهُ }يقول : نصرناه . يقال منه : أيدك الله : أي قوّاك ، وهو رجل ذو أيد وذو آدٍ ، يراد : ذو قوة . ومنه قول العجاج :
*** مِنْ أن تَبَدّلْتُ بِآدِي آدا ***
يعني بشبابي قوّة المشيب . ومنه قول الاَخر :
إنّ القِدَاحَ إذا اجْتَمَعْنَ فَرَامَهَا *** بالكَسْرِ ذُو جَلَدٍ وَبَطْشٍ أيّدِ
يعني بالأيّد القويّ . ثم اختلف في تأويل قوله : بِرُوحِ القُدُسِ .
فقال بعضهم : روح القدس الذي أخبر الله تعالى ذكره أنه أيد عيسى به هو جبريل عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } قال : هو جبريل .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } قال : هو جبريل عليه السلام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ }قال : روح القدس : جبريل .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } قال : أيد عيسى بجبريل وهو روح القدس .
وقال ابن حميد : حدثنا سلمة عن إسحاق ، قال : حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفرا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أخبرنا عن الروح قال : «أَنْشُدُكُمْ بِاللّهِ وَبأيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ تَعْلَمُونَ أنّهُ جِبْرِيلُ ، وَهُوَ يأتيني ؟ » قالوا : نعم .
وقال آخرون : الروح الذي أيد الله به عيسى هو الإنجيل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ }قال : أيد الله عيسى بالإنجيل روحا كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله ، كما قال الله : { وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِنْ أمْرِنَا } .
وقال آخرون : هو الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } قال : هو الاسم الذي كان يحيي عيسى به الموتى .
وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال : الروح في هذا الموضع جبريل لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه أيد عيسى به ، كما أخبر في قوله : { إذْ قَالَ اللّهُ يا عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إذْ أيّدْتُكَ بِرُوحِ القُدْسِ تُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ وكَهْلاً ، وإذْ عَلّمْتُكَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ } . فلو كان الروح الذي أيده الله به هو الإنجيل لكان قوله : «إذ أيدتك بروح القدس وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل » تكرير قول لا معنى له . وذلك أنه على تأويل قول من قال : معنى : إذْ أيّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ إنما هو : إذْ أيدتك بالإنجيل ، وإذْ علمتك الإنجيل وهو لا يكون به مؤيدا إلا وهو معلمه . فذلك تكرير كلام واحد من غير زيادة معنى في أحدهما على الاَخر ، وذلك خُلْفٌ من الكلام ، والله تعالى ذكره يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة .
وإذا كان ذلك كذلك فبيّنٌ فساد قول من زعم أن الروح في هذا موضع الإنجيل ، وإن كان جميع كتب الله التي أوحاها إلى رسله روحا منه لأنها تحيا بها القلوب الميتة ، وتنتعش بها النفوس الموليّة ، وتهتدي بها الأحلام الضالة . وإنما سمى الله تعالى جبريل روحا وأضافه إلى القدس لأنه كان بتكوين الله له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده ، فسماه بذلك روحا ، وأضافه إلى القدس والقدس : هو الطهر كما سمي عيسى ابن مريم روحا لله من أجل تكوينه له روحا من عنده من غير ولادة والد ولده . وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا أن معنى التقديس : التطهير ، والقدس : الطهر من ذلك .
وقد اختلف أهل التأويل في معناه في هذا الموضع نحو اختلافهم في الموضع الذي ذكرناه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : القدس : البركة .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : القدس : هو الربّ تعالى ذكره .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وأيّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } قال : الله القدس ، وأيّد عيسى بروحه . قال : نَعْتُ الله القدس . وقرأ قول الله جل ثناؤه : { هُوَ اللّهُ الّذِي لا إلَهَ إِلاّ هُوَ المَلِكُ القُدّوسُ } قال : القدس والقُدّوس واحد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال بن أسامة ، عن عطاء بن يسار ، قال : قال : نَعْتُ الله : القدس .
القول في تأويل قوله تعالى : { أفَكُلّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَرَيِقا كَذّبْتُمْ وَفَرِيقا تَقْتُلُونَ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { أفَكُلّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوَى أنْفُسَكُمْ } اليهود من بني إسرائيل .
حدثني بذلك محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .
قال أبو جعفر : يقول الله جل ثناؤه لهم : يا معشر يهود بني إسرائيل ، لقد آتينا موسى التوراة ، وتابعنا من بعده بالرسل إليكم ، وآتينا عيسى ابن مريم البينات والحجج إذ بعثناه إليكم ، وقوّيناه بروح القدس . وأنتم كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه نفوسكم استكبرتم عليهم تجبرا وبغْيا استكبارَ إمامكم إبليس فكذبتم بعضا منهم ، وقتلتم بعضا ، فهذا فعلكم أبدا برسلي . وقوله : أفَكُلّما إن كان خرج مخرج التقرير في الخطاب فهو بمعنى الخبر .
{ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }( 87 )
و { الكتاب } التوراة ، ونصبه على المفعول الثاني ل { آتينا } ، { وقفينا } مأخوذ من القفا ، تقول قفيت فلاناً بفلان إذا جئت به من قبل قفاه ، ومنه قفا يقفو إذا اتبع . وهذه الأية مثل قوله تعالى : { ثم أرسلنا رسلنا تترا }( {[909]} ) [ المؤمنون : 144 ] ، وكل رسول جاء بعد موسى عليه السلام فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام( {[910]} ) ، وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر «بالرسْل » ساكنة السين( {[911]} ) ، ووافقهما أبو عمرو إذا انضاف ذلك إلى ضمير نحو رسلنا ورسلهم ، و { البينات } الحجج التي أعطاها الله عيسى ، وقيل هي آياته من إحياء وإبراء وخلق طير ، وقيل هي الإنجيل ، والآية تعم جميع ذلك ، و { أيدناه } معناه قويناه ، والأيد القوة ، وقرأ ابن محيصن والأعرج وحميد «آيدناه »( {[912]} ) . وقرأ ابن كثير ومجاهد «روح القدْس » بسكون الدال . وقرأ الجمهور بضم القاف والدال ، وفيه لغة فتحهما( {[913]} ) ، وقرأ أبو حيوة «بروح القدوس » بواو ، وقال ابن عباس رضي الله عنه «روح القدس هو الاسم الذي به كان يحيي الموتى » ، وقال ابن زيد : «هو الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحاً » وقال السدي والضحاك والربيع وقتادة : «روح القدس جبريل صلى الله عليه وسلم » ، وهذا أصح الأقوال( {[914]} ) . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : «اهج قريشاً وروح القدس معك »( {[915]} ) ومرة قال له «وجبريل معك » ، وقال الربيع ومجاهد : { القدس } اسم من أسماء الله تعالى كالقدُّوس( {[916]} ) ، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك ، وتوجهت لما كان جبريل عليه السلام من عباد الله تعالى ، وقيل { القدس } الطهارة ، وقيل { القدس } البركة .
وكلما ظرف ، والعامل فيه { استكبرتم } ، وظاهر الكلام الاستفهام ، ومعناه التوبيخ والتقرير( {[917]} ) ، ويتضمن أيضاً الخبر عنهم ، والمراد بهذه الآية بنو إسرائيل .
ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ثم تقوم سوقهم آخر النهار( {[918]} ) ، وروي سبعين نبياً ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار( {[919]} ) ، وفي { تهوى } ضمير من صلة ما لطول اللفظ ، والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق ، وهذه الآية من ذلك ، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات ، وقد يستعمل في الحق ، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسرى بدر : «فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت »( {[920]} ) ، و { استكبرتم } من الكبر ، { وفريقاً } مفعول مقدم .