ثم فصل - سبحانه - جانبا من مظاهر هذا النعيم العظيم فقال { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً }
وقوله { عَالِيَهُم } بفتح الياء وضم الهاء - بمعنى فوقهم ، فهو ظرف خبر مقدم ، وثياب مبتدأ مؤخر ، كأنه قيل : فوقهم ثياب ويصح أن يكون حالا للأبرار . أى : تلك حال أهل النعيم والملك الكبير وهم الأبرار .
وقرأ نافع وحمزة { عاليهم } - بسكون الياء وكسر الهاء - على أن الكلام جملة مستأنفة استنئافا بيانياً ، لقوله - تعالى - { رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } ، ويكون لفظ { عَالِيَهُمْ } اسم فاعل مبتدأ .
وقوله : { ثِيَابُ سُندُسٍ } فاعله ساد مسد الخبر ، ويصح أن يكون خبرا مقدما ، وما بعده مبتدأ مؤخر .
وإضافة الثياب إلى السندس بيانية ، مثل : خاتم ذهب والسندس : الديباج الرقيق . والاستبرق : الديباج الغليظ .
والمعنى : أن هؤلاء الأبرار ، أصحاب النعيم المقيم ، والملك الكبير ، فوق أجسادهم ثياب من أفخر الثياب ، لأنهم يجمعون فى لباسهم بين الديباج الرقيق ، والديباج الغليظ ، على سبيل التنعيم والجمع بين محاسن الثياب .
وكانت تلك الملابس من اللون الأخضر ، لأنها أبهج للنفس ، وشعار لباس الملوك .
وكلمة : " خضر " قرأها بعضهم بالرفع على أنها صفة لثياب ، وقرأها البعض الآخر بالجر ، على أنها صفة لسندس . وكذلك كلمة " وإستبرق " قرئت بالرفع عطفا على ثياب ، وقرئت بالجر عطفا على سندس .
وقوله : { وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } بيان لما يتزينون به فى أيديهم ، أى أن هؤلاء الأبرار يلبسون فى أيديهم أساور من فضة ، كما هو الشأن بالنسبة للملوك فى الدنيا ، ومنه ما ورد فى الحديث من ذكر سوارى كسرى .
وقوله - تعالى - : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } أى : وفضلا عن كل تلك الملابس الفاخرة سقاهم ربهم - بفضله وإحسانه - شرابا بالغاً نهاية الطهر ، فهو ليس كخمر الدنيا ، فيه الكثير من المساوئ التى تؤدى إلى ذهاب العقول . . وإنما خمر الآخرة : شراب لذيذ طاهر من كل خبث وقذر وسوء .
وجاء لفظ " طهورا " بصيغة المبالغة ، للإِشعار بأن هذا الشراب قد بلغ النهاية فى الطهارة .
القول في تأويل قوله تعالى : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلّوَاْ أَسَاوِرَ مِن فِضّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } .
يقول تعالى ذكره : فوقهم ، يعني فوق هؤلاء الأبرار ثياب سُنْدُسٍ . وكان بعض أهل التأويل يتأوّل قوله : عالِيَهُمْ فوق حِجَالهم المثبتة عليهم ثِيابُ سُنْدُسٍ وليس ذلك بالقول المدفوع ، لأن ذلك إذا كان فوق حجالٍ هم فيها ، فقد علاهم فهو عاليهم .
وقد اختلف أهل القراءة في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة وبعض قرّاء مكة : «عَالِيْهِمْ » بتسكين الياء . وكان عاصم وأبو عمرو وابن كثير يقرءونه بفتح الياء ، فمن فتحها جعل قوله عالِيَهُمْ اسما مرافعا للثياب ، مثل قول القائل : ظاهرهم ثياب سندس .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وقوله : ثِيابُ سُنْدُسٍ يعني : ثياب ديباج رقيق حسن ، والسندس : هو ما رقّ من الديباج .
وقوله : خُضْرٌ اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه أبو جعفر القارىء وأبو عمرو برفع خُضْرٌ على أنها نعت للثياب ، وخفض «اسْتَبْرَقٍ » عطفا به على السندس ، بمعنى : وثياب إستبرق . وقرأ ذلك عاصم وابن كثير : «خُضْرٍ » خفضا واسْتَبْرَقٌ رفعا ، عطفا بالاستبرق على الثياب ، بمعنى : عاليهم استبرق ، وتصييرا للخضر نعتا للسندس . وقرأ نافع ذلك : خُضْرٌ رفعا على أنها نعت للثياب واسْتَبْرَقٌ رفعا عطفا به على الثياب . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «خُضْرٍ واسْتَبْرَقٍ » خفضا كلاهما . وقرأ ذلك ابن محيصن بترك إجراء الاستبرق : «واسْتَبْرَقَ » بالفتح بمعنى : وثياب استبرق ، وفَتَحَ ذلك لأنه وجّهه إلى أنه اسم أعجميّ . ولكلّ هذه القراءات التي ذكرناها وجه ومذهب ، غير الذي سبق ذكرنا عن ابن محيصن ، فإنها بعيدة من معروف كلام العرب ، وذلك أن الاستبرق نكرة ، والعرب تجري الأسماء النكرة وإن كانت أعجمية ، والاستبرق : هو ما غَلُظ من الديباج . وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في ذلك فيما مضى قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته ها هنا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الاستبرق : الديباج الغليظ .
وقوله : وَحُلّوا أساوِرَ مِنْ فِضّةٍ يقول : وحلاهم ربهم أساور ، وهي جمع أسورة من فضة .
وقوله : وَسَقاهُمْ رَبّهُمْ شَرَابا طَهُورا يقول تعالى ذكره : وسقى هؤلاء الأبرار ربّهُم شرابا طهورا ، ومن طهره أنه لا يصير بولاً نجسا ، ولكنه يصير رشحا من أبدانهم كرشح المسك ، كالذي :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم التيمي وَسَقاهُمْ رَبّهُمْ شَرَابا طَهُورا قال : عرق يفيض من أعراضهم مثل ريح المسك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن منصور ، عن إبراهيم التيمي ، مثله .
قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم التيمي ، قال : إن الرجل من أهل الجنة يقسَمُ له شهوة مئة رجل من أهل الدنيا ، وأكلهم وهمتهم ، فإذا أكل سقي شرابا طهورا ، فيصير رشحا يخرج من جلده أطيب ربحا من المسك الأذفر ، ثم تعود شهوته .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : شَرَابا طَهُورا قال : ما ذكر الله من الأشربة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أبان ، عن أبي قِلابة : إن أهل الجنة إذا أكلوا وشربوا ما شاءوا دَعَوا بالشراب الطهور فيشربونه ، فتطهر بذلك بطونهم ويكون ما أكلوا وشربوا رَشْحا وريحَ مسك ، فتضمر لذلك بطونهم .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي هريرة أو غيره «شكّ أبو جعفر الرازي » قال : صعد جبرائيل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسريَ به إلى السماء السابعة ، فاستفتَح ، فقيل له : من هذا ؟ فقال : جبرائيل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أَوَ قَدْ أُرسل إليه ؟ قال : نعم ، قالوا : حياه الله من أخ وخليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيءُ جاء قال : فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس على كرسيّ عند باب الجنة ، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس ، وقوم في ألوانهم شيء ، فقام الذين في ألوانهم شيء ، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خَلَص من ألوانهم شيء ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خَلَصت ألوانهم ، فصارت مثل ألوان أصحابهم ، فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم ، فقال : يا جبريل من هذا الأشمط ، ومن هؤلاء البيض الوجوه ، ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، وما هذه الأنهار التي اغتسلوا فيها ، فجاءوا وقد صفت ألوانهم ؟ قال : هذا أبوك إبراهيم ، أوّل من شَمِط على الأرض ، وأما هؤلاء البيض الوجوه ، فقوم لم يَلْبِسوا إيمانهم بظلم . وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا فتابوا ، فتاب الله عليهم . وأما الأنهار ، فأوّلها رحمة الله ، والثاني نعمة الله ، والثالث سقاهم ربهم شرابا طهورا .
قرأ نافع وحمزة وأبان عن عاصم : «عاليهم » على الرفع بالابتداء وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة وابن محيصن وابن عباس بخلاف عنه ، وقرأ الباقون وعاصم «عاليَهم » بالنصب على الحال ، والعامل فيه { لقاهم } [ الإنسان : 11 ] أو { جزاهم } [ الإنسان : 12 ] ، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة ، وقرأ الأعمش وطلحة : «عاليتهم » ، وكذلك هي في مصحف عبد الله ، وقرأ أيضاً الأعمش «عاليَتهم » بالنصب على الحال ، وقد يجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم ، وقرأت عائشة رضي الله عنها «علتهم » بتاء فعل ماض ، وقرأ مجاهد وقتادة وابن سيرين وأبو حيوة «عليهم » و «السندس » : رقيق الديباج والمرتفع منه ، وقيل «السندس » : الحرير الأخضر ، و «الإستبرق » والدمقس هو الأبيض ، والأرجوان هو الأحمر ، وقرأ حمزة والكسائي «خضر وإستبرقٍ » بالكسر فيهما وهي قراءة الأعمش وطلحة ، ورويت عن الحسن وابن عمر بخلاف عنه على أن «خضر » نعت للسندس ، وجائز جمع صفة الجنس إذا كان اسماً مفرداً كما قالوا : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم الأبيض ، وفي هذا قبح ، والعرب تفرد اسم الجنس وهو جمع أحياناً فيقولون : حصى أبيض ، وفي القرآن { الشجر الأخضر }{[11530]} [ يس : 80 ] و { نخل منقعر }{[11531]} [ القمر : 20 ] فكيف بأن لا يفرد هذا الذي هو صفة لواحد في معنى جمع «وإستبرق » في هذه القراءة عطف على { سندس } ، وقرأ نافع وحفص عن عاصم والحسن وعيسى «خضرٌ وإستبرقٌ » بالرفع فيهما ، «خضرٌ » نعت ل { ثياب } و «إستبرق » عطف على الثياب . وقرأ أبو عمرو وابن عامر «خضرٌ » بالرفع صفة ل { ثياب } ، «وإستبرق » خفضاً ، عطف على { سندس } ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر «خضرٍ » خفضاً «وإستبرقٌ » رفعاً فخفض «خضرٍ » على ما تقدم أولاً ، «واستبرقٌ » على الثياب . والإستبرق غليظ الديباج ، وقرأ ابن محيصن : «واستبرقَ » موصولة الألف مفتوحة القاف كأنه مثال الماضي من برق واستبرق وتجب واستعجب . قال أبو حاتم : لا يجوز ، والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً ، ويؤيد ذلك دخول اللام المعرفة عليه والصواب فيه الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة ، وقرأ أبو حيوة «عليهم ثيابٌ » بالرفع «سندسٌ خضرٌ واستبرقٌ » رفعاً في الثلاثة ، وقوله تعالى : { وحلوا } أي جعل لهم حلي ، و { أساور } جمع أسورة وأسورة جمع سوار وهي من حلي الذراع ، وقوله تعالى : { شراباً طهوراً } قال أبو قلابة والنخعي معناه لا يصير بولاً بل يكون رشحاً من الأبدان أطيب من المسك .