المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

28- يا أيها المؤمنون ، إنما المشركون بسبب شركهم نجست نفوسهم ، وهم ضالون في العقيدة ، فلا تمكنوهم من دخول المسجد الحرام بعد هذا العام ( التاسع من الهجرة ) . وإن خفتم فقراً بسبب انقطاع تجارتهم عنكم ، فإن الله سوف يعوضكم عن هذا ، ويغنيكم من فضله إن شاء ، إن الله عليم بشئونكم ، حكيم في تدبيره لها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

وبعد هذا التذكير والتوجيه من الله - تعالى - لعباده المؤمنين - وجه - سبحانه - إليهم نداء أمرهم فيه بمنع المشركين من قربان المسجد الحرام ، ووعدهم بالعطاء الذي يغنيهم ، فقال : { ياأيها الذين آمنوا . . . . } .

وقوله : { نَجَسٌ } بالتحريك - مصدر نجس الشئ ينجس فهو نجس إذا كان قذراً غير نظيف ، وفعله من باب " تعب " وفى لغة من باب " قتل " .

قال صاحب الكشاف : النجس : مصدر . يقال نجس نجسا وقذر قذرا ، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهى ملابسة لهم . أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها ، مبالغة في وصفهم بها .

قيل : وجوز أن يكون لفظ " نجس " صفة مشبهة - وإليه ذهب الجوهرى ولا بد حينئذ من تقدير موصوف مفرد لفظاً مجمع معنى ، ليصح الإِخبار به عن الجمع . أى جنس ونجس ونحوه .

وقوله : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } فيه ما فيه من التعبير البديع المصور المجسم لهم ، حتى لكأنهم بأرواحهم وماهيتهم وكيانهم : النجس يمشى على الأرض فيتحاشاه المتطهرون ، ويتحاماه الأتقياء من الناس .

وقوله : { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } تفريع على نجاستهم والمراد النهى عن الدخول إلا أنه عبر عنه بالنهى عن القرب مبالغة في إبعادهم عن المسجد الحرام .

والنهى وإن كان موجهاً إلى المشركين ، إلا أن المقصود منه نهى المؤمنين عن تمكينهم من ذلك ، والمراد بقوله : { بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } العام الذي حصل فيه النداء بالبراءة من المشركين ، وبعدم طوافهم بالمجسد الحرام . . وهو العام التاسع من الهجرة .

قال ابن كثير : أمر الله عباده المؤمنين الطاهرين ديناً وذاتاً بنفى المشركين الذين هم نجس دينا - عن المسجد الحرام ، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية . وكان نزولها في سنة تسع .

ولهذا بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا صحبة أبى بكر رضى الله عنهما - عامئذ ، وأمره أن ينادى في المشركين : أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان . فأتم الله ذلك وحكم به شرعاً وقدراً .

وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ } بشارة من الله تعالى للمؤمنين بأن سيعطيهم من فضله ما يغنيهم عن المشركين .

والعيلة : الفقر والفاقة : يقال : عال الرجل يعيل عيلة فهو عائل إذا افتقر ، ومنه قول الشاعر :

وما يدرى الفقير متى غناه . . . وما يدرى الغنى متى يقيل

وقرئ " عائلة " بمعنى المصدر كالعافية : اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر أى : حالا عائلة .

قال ابن جرير - بعد أن ساق روايات في سبب نزول الآية - : عن عطية العوفى قال : لما قيل " ولا يحج بعد العام مشرك " قالوا : قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم ، قال فنزلت { ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } الآية .

والمعنى : لا تمكنوا أيها المؤمنون . المشركين من دخول المسجد الحرام بعد هذه السنة ، لأنهم نجس . . . ولا تخشوا الفقر والفاقة بسبب عدم تمكينهم ، حيث إنكم تتبادلون معهم التجارات والمبايعات . . لأن الله - تعالى - قد وعدكم أن يغنيكم من فضله بالعطايا والخيرات التي تكفيكم أمر معاشكم . .

وقد أنجز الله - تعالى - لهم وعده ، فأرسل السماء عليهم مدرارا ، وفتح لهم البلاد ، فكثرت بين أيديهم الغنائم وألوان الخيرات ، ودخل في دين الله من هم أيس حالا وأغنى مالا من هؤلاء المشركين . .

قال صاحب الكشاف : قوله : { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } أى : من عطائه أو من تفضله بوجه آخر ، فأرسل عليهم السماء مدرارا ، فأغزر بها خيرهم ، وأكثر مسيرهم . وأسلم أهل تبالة وجرس فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به : فكان أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته .

والتقييد بالمشيئة في قوله : { إِن شَآءَ } ليس للتردد ، بل هو لتعليم المؤمنين رعاية الأدب مع الله - تعالى - كما في قوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ } ولبيان أن هذا الاغناء بإرادته - سبحانه - وحده ، فعليهم أن يجعلوا اعتمادهم عليه ، وتضرعهم إليه لا إلى غيره ، وللتنبيه على أن عطاءه سبحانه لهم ، هو من باب التفضل ولا الوجوب ، لأنه لو كان واجبا مع قيده بالمشيئة .

ولما كانت مشيئته - سبحانه - تجرى حسب مقتضى علمه وحكمته ، فقد ختم الآية بقوله : { إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

أى : إن الله عليم بأحوالكم ومصالحكم ، وبما يكون عليه أمر حاضركم ومستقبلكم حكيم فيما شرعه لكم . فاستجيبوا له لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم .

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي استنبطها العلماء من هذه الآية ما يأتى :

1- أن المراد بالمشركين في الآية ما يناول عبدة الأوثان وغيرهم من أهل الكتاب . كما هو مقتضى ظاهر اللفظ ، وكما يدل عليه قوله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ . . } أى : لا يغفر أن يشرك به بأى لون من ألوان الشرك .

ويرى كثير من الفقهاء أن المراد بالمشركين هنا عبدة الأوثان فحسب ، لأن الحديث خاص بهم من أول السورة إلى هنا .

2- يرى جمهور الفقهاء أن نجاسة المشركين مرجعها إلى خبث بواطنهم لعبادتهم سوى الله - تعالى - أما أبدانهم فطاهرة .

وقد بسط صاحب المنار القول في هذه المسألة فقال ما ملخصه : " قال بعضهم بنجاسة أعيان المشركين ، ووجوب تطهير ما تصيبه أبدانهم مع البلل .

حكى هذا القول عن ابن عباس والحسن البصرى . . وجمهور الظاهرية . .

ويرى جمهور السلف والخلف وأصحاب المذاهب الأربعة أن أعيانهم طاهرة . لأنه من المعلوم أن المسلمين كانوا يعاشرون المشركين ويخالطونهم . ومع هذا فالنبى - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بغسل شئ مما أصابته أبدانهم .

. بل الثابت أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة مشركة وأكل من طعام اليهود . . وأطعم هو وأصحابه وفداً من الكفار ولم يأمر بغسل الأوانى التي أكلوا وشربوا وروى الإِمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع رسول الله ، فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك علينا . .

3- اختلف الفقهاء في المراد بالمسجد الحرام في قوله - تعالى - { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا . . . } .

فقال ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء : المراد به الحرم كله فيشمل المسجد الحرام ومكة ، لأن المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله . وعليه فالكافر يمنع من دخول الحرم كله . .

ويرى الشافعى أن المراد المسجد الحرام بخصوصه أخذا بظاهر اللفظ .

قال القرطبى : وقال الشافعى : الآية في سائر المشركين ، خاصة في المسجد الحرام ، ولا يمنعون من دخول غيره ، فأباح دخول اليهود والنصرانى في سائر المساجد .

ويرى الإِمام مالك أن المراد المسجد الحرام بالنص وبقية المساجد تقاس عليه ، لأن العلة - وهى النجاسة - موجودة في المشركين ، والحرمة موجودة في كل مسجد .

وعليه فلا يجوز تمكينهم لا من المسجد الحرام ولا من غيره من المساجد .

ويرى الأحناف أن المراد بالمسجد الحرم كله ، إلا أن النهى هنا ليس منصباً على دخوله وإنما هو منصب على المنع من الحج والعمرة . ومن الحج إليه أى : لا تمكنوا - أيها المؤمنون - المشركين من الطواف بالمسجد الحرام بعد عامهم هذا .

قال الآلوسى : ويؤيده قوله - تعالى - { لْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } ، فإن تقييد النهى يدل على اختصاص المنهى عنه بوقت من اوقات العام . أى : لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة . . ويدل عليه نداء على - كرم الله وجهه - يوم نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، وكذا قوله - سبحانه - { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أى فقراً بسبب منعهم ، لما أنهم كانوا يأتون في الموسم بالمتاجر ، فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم كما لا يخفى .

ثم قال : والحاصل أن الإِمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهى عليه ، ولا يمنعون عنده من دخول المسجد الحرام ومن دخول سائر المساجد .

4- قال القرطبى : في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز ، وليس ذلك بمناف للتوكل ، وإن كان الرزق مقدراً ، ولكنه علقه بالأسباب لتظهر القلوب التي تتعلق بالأسباب ، من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب وقد تقدم أن السبب لا ينافى التوكل ، ففى الحديث الذي أخرجه البخارى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :

" لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا " - أى : تغدو صباحا وهى جياع ، وتعود عشية وهى ممتلئة البطون - .

هذا ، وبتدبير آيات السورة الكريمة - من أولها إلى هنا - نراها قد وضحت العلاقات النهائية بين المسلمين وعبدة الأوثان ، وفصلت كثيراً من الأحكام التي تخص الفريقين ، ومن ذلك أنها قررت :

1- براءة الله ورسوله من عهود المشركين الذين مردوا على نقض المواثيق .

2- إعطاؤهم مهلة مقدارها أربعة أشهر يتدبرون خلالها أمرهم ، دون أن يتعرض المسلمون لهم بسوء .

3- إعلان الناس جميعاً يوم الحج الأكبر بهذه البراءة . .

4- أمر المؤمنين بإتمام مدة العهد لمن حافظ من المشركين على عهده .

5- بيان ما يجب على المؤمنين فعله إذا ما انقضت أشهر الأمان التي أعطيت للمشركين .

6- إرشاد المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم تأمين المشرك المستجير بهم حتى يسمع كلام الله ، ويطلع على حقيقة الإِسلام . . ثم توصيله إلى موضع أمنه إن لم يسلم .

7- بيان الأسباب التي تدعو إلى قتال المشركين ، وإلى وجوب البراءة منهم .

8- بيان بعض الحكم والأسرار التي من أجلها شرع الجهاد في الإِسلام .

9- بيان أن المشركين ليسوا أهلاً لعمارة مساجد الله . . وأن الذين هم أهل لذلك : المؤمنون الصادقون .

10- توجيه المؤمنين إلى أن إيمانهم يحتم عليهم أن يؤثروا محبة الله ورسوله على أى شئ آخر ، من الآباء والأبناء والإِخوان .

11- تذكيرهم بجانب من نعم الله عليهم حيث نصرهم في مواطن كثيرة ونصرهم يوم غزوة حنين ، بعد أن هزموا في أول المعركة دون أن تنفعهم كثرتم التي أعجبوا بها .

12- نهيهم عن تمكين المشركين من قربان المسجد الحرام ، وإزالة الوساوس التي قد تخطر ببالهم بسبب هذا النهى ، بأن وعدهم - سبحانه - بأنه سيعطيهم من فضله ما يغنيهم عن المكاسب التي تأتيهم عن طريق تبادل المنافع مع المشركين في موسم الحج .

هذه أهم الموضوعات التي تعرضت لها سورة التوبة في ثمان وعشرين آية من أولها إلى هنا . وهى موضوعات وضحت . كما أسلفنا . الأحكام النهائية في علاقات المسلمين بالمشركين عبدة الأوثان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

عندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع ، ويلمس وجدان المسلمين بالذكرى القريبة من التاريخ ، ينهي القول في شأن المشركين . ويلقي الكلمة الباقية فيهم إلى يوم الدين :

( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ؛ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء . إن الله عليم حكيم ) . .

إنما المشركون نجس . يجسم التعبير نجاسة أرواحهم فيجعلها ماهيتهم وكيانهم . فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس ، يستقذره الحس ، ويتطهر منه المتطهرون ! وهو النجس المعنوي لا الحسي في الحقيقة ، فأجسامهم ليست نجسة بذاتها . إنما هي طريقة التعبير القرآنية بالتجسيم .

( نجس . فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) . .

وتلك غاية في تحريم وجودهم بالمسجد الحرام ، حتى لينصب النهي على مجرد القرب منه ، ويعلل بأنهم نجس وهو الطهور !

ولكن الموسم الاقتصادي الذي ينتظره أهل مكة ؛ والتجارة التي يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة ؛ ورحلة الشتاء والصيف التي تكاد تقوم عليها الحياة . . . أنها كلها ستتعرض للضياع بمنع المشركين من الحج ؛ وبإعلان الجهاد العام على المشركين كافة . . .

نعم ! ولكنها العقيدة . والله يريد أن تخلص القلوب كلها للعقيدة !

وبعد ذلك ، فالله هو المتكفل بأمر الرزق من وراء الأسباب المعهودة المألوفة :

( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) . .

وحين يشاء الله يستبدل أسبابا بأسباب ؛ وحين يشاء يغلق بابا ويفتح الأبواب . .

( إن الله عليم حكيم ) . .

يدبر الأمر كله عن علم وعن حكمة ، وعن تقدير وحساب . .

لقد كان المنهج القرآني يعمل ، في المجتمع المسلم الذي نشأ من الفتح ؛ والذي لم تكن مستوياته الإيمانية قد تناسقت بعد . .

وكما أننا نلمح من خلال السياق في هذا المقطع ما كان يعتور هذا المجتمع من ثغرات . فكذلك نلمح عمل المنهج القرآني في سد هذه الثغرات . ونلمح الجهد الطويل المبذول لتربية هذه الأمة بهذا المنهج القرآني الفريد .

إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبلغ إليها ، هي قمة التجرد لله ، والخلوص لدينه . وقمة المفاصلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة . وكان هذا يتم من خلال ما يبثه المنهج القرآني من وعي لحقيقة الفوارق والفواصل بين منهج الله الذي يجعل الناس كلهم عبيدا لله وحده ، ومنهج الجاهلية الذي يجعل الناس أربابا بعضهم لبعض . . وهما منهجان لا يلتقيان . . ولا يتعايشان . .

وبدون هذا الفقه الضروري لطبيعة هذا الدين وحقيقته ، وطبيعة الجاهلية وحقيقتها ؛ لا يملك إنسان أن يقوم الأحكام الإسلامية ، التي تقرر قواعد المعاملات والعلاقات بين المعسكر المسلم وسائر المعسكرات .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هََذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله وأقرّوا بوحدانيته : ما المشركون إلا نجس .

واختلف أهل التأويل في معنى النجَس وما السبب الذي من أجله سماهم بذلك ، فقال بعضهم : سماهم بذلك لأنهم يُجْنِبون فلا يغتسلون ، فقال : هم نجس ، ولا يقربوا المسجد الحرام ، لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، في قوله : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ : لا أعلم قتادة إلا قال : النجَس : الجنابة .

وبه عن معمر ، قال : وبلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة ، وأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده ، فقال حذيفة : يا رسول الله إني جُنُب فقال : «إنّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُس » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ : أي أجناب .

وقال آخرون : معنى ذلك : ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب . وهذ قول رُوي عن ابن عباس من وجه غير حميد ، فكرهنا ذكره .

وقوله : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا يقول للمؤمنين : فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرَم . وإنما عني بذلك منعهم من دخول الحرَم ، لأنهم إذا دخلوا الحرَم فقد قربوا المسجد الحرام .

وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم فيه نحو الذي قلناه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر وابن المثنى ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء : الحرَم كله قبلة ومسجد ، قال : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ لم يعن المسجد وحده ، إنما عنى مكة والحرَم . قال ذلك غير مرة .

وذُكر عن عمر بن عبد العزيز في ذلك ما :

حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : ثني الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عمرو : أن عمر بن عبد العزيز كتب : أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين وأتبع في نهيه قول الله : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن الحسن : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال : لا تصافحوهم ، فمن صافحهم فليتوضأ .

وأما قوله : بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا فإنه يعني : بعد العام الذي نادى فيه عليّ رحمة الله عليه ببراءة ، وذلك عامَ حجّ بالناس أبو بكر ، وهي سنة تسع من الهجرة . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر ، ونادى عليّ رحمة الله عليهما بالأذان وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحجّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل حِجة الوداع لم يحجّ قبلها ولا بعدها .

وقوله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً يقول للمؤمنين : وإن خفتم فاقة وفقرا ، بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام . فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ يقال منه : عال يَعِيل عَيْلَةً وعُيُولاً ، ومنه قول الشاعر :

وَما يَدْرِي الفَقِيرُ مَتَى غناهُ *** وَما يَدْرِي الغَنيّ مَتَى يَعِيلُ

وقد حُكي عن بعضهم أن من العرب من يقول في الفاقة : عال يَعُول بالواو . وذكر عن عمر بن فائد أنه كان تأوّل قوله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً بمعنى : وإذ خفتم ، ويقول : كان القوم قد خافوا ، وذلك نحو قول القائل لأبيه : إن كنت أبي فأكرمني ، بمعنى : إذ كنت أبي . وإنما قيل ذلك لهم ، لأن المؤمنين خافوا بانقطاع المشركين عن دخول الحرم انقطاع تجاراتهم ودخول ضرر عليهم بانقطاع ذلك ، وأمّنهم الله من العَيْلة وعوّضهم مما كانوا يكرهون انقطاعه عنهم ما هو خير لهم منه ، وهو الجزية ، فقال لهم : قاتلُوا الّذِينَ لا يُؤْمنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ . . . إلى : صَاغِرُونَ .

وقال قوم بإدرار المطر عليهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال : لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، قال : من أين تأكلون وقد نُفي المشركون وانقطعت عنكم العِير ؟ فقال الله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ فأمرهم بقتال أهل الكتاب ، وأغناهم من فضله .

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال : كان المشركون يجيئون إلى البيت ، ويجيئون معهم بالطعام ويَتّجرون فيه فلما نهُوُا أن يأتوا البيت قال المسلمون : من أين لنا طعام ؟ فأنزل الله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ فأنزل عليهم المطر ، وكثر خيرهم حين ذهب عنهم المشركون .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن عليّ بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ . . . الآية ، ثم ذكر نحو حديث هناد ، عن أبي الأحوص ،

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن واقد ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما نزلت : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : من يأتينا بطعامنا ، ومن يأتينا بالمتاع ؟ فنزلت : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن واقد مولى زيد بن خلدة ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان المشركون يقدمون عليهم بالتجارة ، فنزلت هذه الآية : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ . . . إلى قوله : عَيلَةً قال : الفقر . فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية العوفيّ ، قال : قال المسلمون : قد كنا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم ، فنزلت : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ . . . إلى قوله : مِنْ فَضْلِهِ .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، أحسبه قال : أنبأنا أبو جعفر ، عن عطية ، قال : لما قيل : ولا يحجّ بعد العام مشرك قالوا : قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم . قال : فنزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني : بما فاتهم من بياعاتهم .

حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن يمان ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال : بالجزية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان وأبو معاوية ، عن أبي سنان ، عن ثابت ، عن الضحاك ، قال : أخرج المشركون من مكة ، فشقّ ذلك على المسلمين ، وقالوا : كنا نصيب منهم التجارة والمِيرة . فأنزل الله : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ كان ناس من المسلمين يتألفون العير فلما نزلت براءة بقتال المشركين حيثما ثُقِفوا ، وأن يقعدوا لهم كل مرصد ، قذف الشيطان في قلوب المؤمنين . فمن أين تعيشون وقد أمرتم بقتال أهل العِير ؟ فعلم الله من ذلك ما علم ، فقال : أطيعوني ، وامضوا لأمري ، وأطيعوا رسولي ، فإني سوف أغنيكم من فضلي فتوكل لهم الله بذلك .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ . . . إلى قوله : فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ قال : قال المؤمنون : كنا نصيب من متاجر المشركين . فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله عوضا لهم بأن لا يقربوهم المسجد الحرام . فهذه الآية من أوّل براءة في القراءة ، ومن آخرها في التأويل : قاتِلُوا الّذِينَ لا يؤمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . . . إلى قوله : عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ، شقّ ذلك على المسلمين ، وكانوا يأتون ببياعات ينتفع بذلك المسلمون ، فأنزل الله تعالى ذكره : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فأغناهم بهذا الخراج الجزية الجارية عليهم ، يأخذونها شهرا شهرا ، عاما عاما . فليس لأحد من المشركين أن يقرَب المسجد الحرام بعد عامهم بحال إلا صاحب الجزية ، أو عبد رجل من المسلمين .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة .

قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال : إلا صاحب جزية ، أو عبدا لرجل من المسلمين .

حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في هذه الآية : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الجزية .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال : أغناهم الله بالجزية الجارية شهرا فشهرا وعاما فعاما .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن الحجاج ، عن أبي الزبير ، عن جابر : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قال : لا يقرب المسجد الحرام بعد عامه هذا مشرك ولا ذميّ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامِ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً وذلك أن الناس قالوا : لُتْقَطَعنّ عنا الأسواق ولَتهلِكنّ التجارة وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المرافق فنزل : وَإنْ خِفْتُمْ عَيلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ من وجه غير ذلك إنْ شاءَ . . . إلى قوله : وَهُمْ صَاغِرُونَ ، ففي هذا عوض مما تخوّفتم من قطع تلك الأسواق . فعوّضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية .

وأما قوله : إنّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فإن معناه : إن الله عليم بما حدثْتكم به أنفسكم أيها المؤمنون من خوف العيلة عليها بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام ، وغير ذلك من مصالح عباده ، حكيم في تدبيره إياهم وتدبير جميع خلقه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَاۚ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ عَيۡلَةٗ فَسَوۡفَ يُغۡنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦٓ إِن شَآءَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (28)

قال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما : صفة المشرك بالنجس إنما كانت لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل ، وقال ابن عباس وغيره : بل معنى الشرك هو الذي كنجاسة الخمر ، قال الحسن البصري : من صافح مشركاً فليتوضأ .

قال القاضي أبو محمد : فمن قال بسبب الجنابة أوجب الغسل على من يسلم من المشركين ، ومن قال بالقول الآخر لم يوجب الغسل ، والمذهب كله على القول بإيجاب الغسل إلا ابن عبد الحكم فإنه قال : ليس بواجب ، وقرا أبو حيوة «نِجْس » بكسر النون وسكون الجيم{[5585]} ، ونص الله تعالى في هذه الآية على المشركين وعلى المسجد الحرام ، فقاس مالك رحمه الله غيره جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين ، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد وكذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ونزع في كتابه بهذه الآية ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع }{[5586]} ، وقال الشافعي هي عامة في الكفار خاصة في المسجد الحرام ، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد ، ومن حجته حديث ربط ثمامة بن أثال{[5587]} ، وقال أبو حنيفة هي خاصة في عبدة الأوثان وفي المسجد الحرام ، فأباح دخول اليهود والنصارى في المسجد الحرام وغيره ، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد ، وقال عطاء : وصف المسجد بالحرام ومنع القرب يقتضي منعهم من جميع الحرم .

قال القاضي أبو محمد : وقوة قوله { فلا يقربوا } يقتضي أمر المسلمين بمنعهم ، وقال جابر بن عبد الله وقتادة : لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبداً لمسلم ، وعبدة الأوثان مشركون بإجماع ، واختلف في أهل الكتاب ، فمذهب عبد الله بن عمر وغيره أنهم مشركون ، وقال جمهور أهل العلم ليسوا بمشركين ، وفائدة هذا الخلاف تتبين في فقه مناكحهم وذبائحهم وغير ذلك ، وقوله { بعد عامهم هذا } يريد بعد عام تسع من الهجر وهو عام حج أبو بكر بالناس وأذن علي بسورة براءة{[5588]} ، وأما قوله { وإن خفتم عيلة } قال عمرو بن فائد : المعنى وإذ خفتم .

قال القاضي أبو محمد : وهذه عجمة والمعنى : بارع ب [ إن ] ، وكان المسلمون لما منع المشركون من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات قذف الشيطان في نفوسهم الخوف من الفقر وقالوا : من أين نعيش ؟ فوعدهم الله بأن يغنيهم من فضله ، قال الضحاك : ففتح عليهم باب أخذ الجزية من أهل الذمة ، بقوله { قاتلوا الذين لا يؤمنون } [ التوبة : 29 ] إلى قوله { وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] ، وقال عكرمة : أغناهم بإدرار المطر عليهم .

قال القاضي أبو محمد : وأسلمت العرب فتمادى حجهم وتجرهم{[5589]} وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم ، و «العيلة » الفقر ، يقال : عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر ، قال الشاعر : [ أحيحة ]

وما يدري الفقير متى غناه*** وما يدري الغني متى يعيل{[5590]}

وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود ، «عايلة » وهو مصدر كالقايلة من قال يقيل ، وكالعاقبة والعافية ، ويحتمل أن تكون نعتاً لمحذوف تقديره حالاً عائلة ، وحكى الطبري أنه يقال :عال يعول إذا افتقر .


[5585]:- وهذا على تقدير حذف الموصوف، أي: جنس نجس، أو ضرب نجس، وهو اسم فاعل من (نجس) فخففوه بعد الإتباع.
[5586]:- من الآية (36) من سورة (النور).
[5587]:- خالف ابن العربي الإمام الشافي في رأيه وفي حجته بحديث ثُمامة هذا فقال: "وهذا جمود منه (أي من الشافعي) على الظاهر، لأن قوله عز وجل: {إنما المشركون نجس} تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة، فإن قيل: فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثُمامة في المسجد وهو مشرك، قيل: أجاب علماؤنا عن هذا الحديث- وإن كان صحيحا- بأجوبة أحدها: أن ذلك كان متقدما على نزول الآية". وقد نقل القرطبي رأي ابن العربي هذا تعقيبا على رأي الشافعي.
[5588]:- قال قتادة: بل سنة عشر، وأيّده ابن العربي فقال: "وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ، وإن من العجب أن يقال: إنه سنة تسع وهو العام الذي وقع فيه الأذان، ولو دخل غلام رجل داره يوما فقال له مولاه: لا تدخل هذه الدار بعد يومك، لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه". نقل ذلك أيضا القرطبي عن ابن العربي.
[5589]:- يقال: تجر تجرا وتجارة: مارس البيع والشراء، ويقال: اتّجر، ويقال: تاجر فلان فلانا: اتّجر معه (المعجم الوسيط).
[5590]:- قال هذا البيت أحيحة بن الحلاج، من أربعة أبيات ذكرها صاحب اللسان في عيل. وعال يعيل من باب ضرب، والمصدر: عيلة وعيُول.