ثم هدد الله - تعالى كل من يتعامل بالربا تهديداً عنيفاً فقال : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } .
أي : فإن لم تتركوا الربا وأخذتم منه شيئاً بعد نهيكم عن ذلك ، فكونوا على علم ويقين بحرب كائنة من الله - تعالى - ورسوله ، ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبدا .
وقوله : ( فأذنوا ) من أذن بالشيء يأذن إذا علمه . وقرئ ( فآذنوا ) من آذنهن الأمر وآذنه به : أعلمه إياه : أي اعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله .
وتنكير " حرب " للتهويل والتعظيم أي فكونوا على علم ويقين من أن حربا عظيمة ستنزل عليكم من الله وروسله .
قال بعضهم : والمراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب . وقال آخرون : المراد نفس الحرب بمعننى أن الإِصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر عليه الإِمام قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من الحبس والتعزير إلى أن تظهر منه التوبة . وإن وقع ممن يكون له عسر وشوكة ، حاربه الإِمام كما يحارب الفئة الباغية ، وكما حارب أبو بكر الصديق ما نعى الزكاة وقال ابن عباس : من تعامل بالربا يستتاب فإن تاب فبها وإلا ضرب عنقه .
ثم بين - سبحانه - ما يجب عليهم عند توبتهم عن التعامل بالربا فقال : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } .
أي : وإن تبتم عن التعامل بالربا الذي يوجب الحرب عليكم من الله ورسوله ، فلكم رءوس أموالكم أي أصولها بأن تأخوذها ولا تأخذوا سواها ، وبذل كلا تكونون ظالمين لغرمائكم ولا يكونون ظالمين لكم ، لأن من أخذ رأس ماله بدون كان مقسطاً ومتفضلا ، ومن دفع ما عليه بدون إنقاص منه كان صادقا في معاملته .
فهذه صفحة الترغيب . . وإلى جوارها صفحة الترهيب . . الترهيب الذي يزلزل القلوب :
( فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) . .
يا للهول ! حرب من الله ورسوله . . حرب تواجهها النفس البشرية . . حرب رهيبة معروفة المصير ، مقررة العاقبة . . فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة ؟ !
ولقد أمر رسول الله [ ص ] عامله على مكة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي . وقد أمر [ ص ] في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية - وأوله ربا عمه العباس - عن كاهل المدينين الذي ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة ، حتى نضج المجتمع المسلم ، واستقرت قواعده ، وحان أن ينتقل نظامه الاقتصادي كله من قاعدة الربا الوبيئة . وقال [ ص ] في هذه الخطبة :
" وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين . وأول ربا أضع ربا العباس " . . ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حالة الجاهلية .
فالإمام مكلف - حين يقوم المجتمع الإسلامي - أن يحارب الذين يصرون على قاعدة النظام الربوي ، ويعتون عن أمر الله ، ولو اعلنوا أنهم مسلمون . كما حارب أبو بكر - رضي الله عنه - مانعي الزكاة ، مع شهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقامتهم للصلاة . فليس مسلما من يأبى طاعة شريعة الله ، ولا ينفذها في واقع الحياة !
على أن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسيف والمدفع من الإمام . فهذه الحرب معلنة - كما قال أصدق القائلين - على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي . هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة . وهي حرب على الأعصاب والقلوب . وحرب على البركة والرخاء . وحرب على السعادة والطمأنينة . . حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض . حرب المطاردة والمشاكسة . حرب الغبن والظلم . حرب القلق والخوف . . وأخيرا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول . الحرب الساحقة الماحقة التي تقوم وتنشأ من جراء النظام الربوي المقيت . فالمرابون أصحاب رؤوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر . وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات . ثم تقع فيها الشعوب والحكومات . ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب ! أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب ! أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم ، فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين ، فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب ! وأيسر ما يقع - إن لم يقع هذا كله - هو خراب النفوس ، وانهيار الأخلاق ، وانطلاق سعار الشهوات ، وتحطم الكيان البشري من أساسه ، وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرعيبة !
إنها الحرب المشبوبة دائما . وقد اعلنها الله على المتعاملين بالربا . . وهي مسعرة الآن ؛ تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة ؛ وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع . . وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر ؛ ولكنها - وهي تخرج من منبع الربا الملوث - لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية ، ويسحقها سحقا ؛ في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين ، لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون !
لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى ، ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المشرع الطاهر النظيف ، وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء :
( وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم . لا تظلمون ولا تظلمون ) . .
فهي التوبة عن خطيئة . إنها خطيئة الجاهلية . الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان ، ولا نظام دون نظام . . إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان . . خطيئة تنشىء آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة . وتنشىء آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة . وتنشىء آثارها في الحياة البشرية كلها ، وفي نموها الاقتصادي ذاته . ولو حسب المخدوعون بدعاية المرابين ، إنها وحدها الأساس الصالح للنمو الاقتصادي !
واسترداد رأس المال مجردا ، عدالة لا يظلم فيها دائن ولا مدين . . فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة . لها وسيلة الجهد الفردي . ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه ، ومقاسمته الربح والخسارة . ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق - بدون سندات تأسيس تستأثر بمعظم الربح - وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه . ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة - على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة - ولا تعطيها بالفائدة الثابتة - ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت . . وللمصارف أن تتناول قدرا معينا من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال . . ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها . . وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب ، وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر ، وتجنب المورد العفن النتن الآسن !
{ فَإِن لّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا } فإن لم تذروا ما بقي من الربا .
( واختلف القراء في قراءة قوله : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة : { فأْذَنُوا } بقصر الألف من فأذنوا وفتح ذالها ، بمعنًى وكونوا على علم وإذْن . وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قراء الكوفيين : «فَآذِنُوا » بمدّ الألف من قوله : «فآذِنوا » وكسر ذالها ، بمعنى : فآذنوا غيركم ، أعلموهم وأخبروهم بأنكم على حربهم .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك ، قراءة من قرأ : { فأذَنُوا } بقصر ألفها وفتح ذالها ، بمعنى : اعلموا ذلك واستيقنوه ، وكونوا على إذن من الله عزّ وجل لكم بذلك . وإنما اخترنا ذلك ، لأن الله عزّ وجلّ أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينبذ إلى من أقام على شركه الذي لا يقرّ على المقام عليه ، وأن يقتل المرتدّ عن الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الإسلام ، أذنه المشركون بأنهم على حربه أولم يأذنوه ، فإذ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين ، إما أن يكون كان مشركا مقيما على شركه الذي لا يقرّ عليه ، أو يكون كان مسلما فارتدّ وأذن بحرب ، فأيّ الأمرين كان ، فإنما نبذ إليه بحرب ، لا أنه أمر بالإيذان بها إن عزم على ذلك ، لأن الأمر إن كان إليه فأقام على أكل الربا مستحلاً له ، ولم يؤذن المسلمون بالحرب ، لم يلزمهم حربه ، وليس ذلك حكمه في واحدة من الحالين ، فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الاَذن بها . وعلى هذا التأويل تأوّله أهل التأويل . ) ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الربّا } إلى قوله : { فأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه ، فحقّ على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع ، وإلا ضرب عنقه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : يقال يوم القيامة لاَكل الربا : خذ سلاحك للحرب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : ثني أبي ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرّبا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } أوعدهم الله بالقتل كما تسمعون ، فجعلهم بهرجا أينما ثقفوا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } أوعد لاَكل الربا بالقتل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس قوله : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله .
وهذه الأخبار كلها تنبىء عن أن قوله : { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ } إيذان من الله عزّ وجلّ لهم بالحرب والقتل ، لا أمر لهم بإيذان غيرهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ } .
يعني جل ثناؤه بذلك : إن تبتم فتركتم أكل الربا ، وأنبتم إلى الله عزّ وجلّ ، فلكم رءوس أموالكم من الديون التي لكم على الناس دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربا منكم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوالِكُمْ } المال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رُءُوسَ أموالهم حين نزلت هذه الآية . فأما الربح والفضل فليس لهم ، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : وضع الله الربا ، وجعل لهم رءوس أموالهم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة في قوله : { وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوالِكُمْ } قال : ما كان لهم من دين ، فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم ، ولا يزدادوا عليه شيئا .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ } الذي أسلفتم وسقط الربا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح : «ألاّ إنّ رِبا الجاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ كُلّهُ ، وَأوّلُ رِبا أبْتَدِىءُ بِهِ رِبا العَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطّلِب » .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : «إنّ كُلّ رِبا مَوْضُوعٌ ، وأوّلُ رِبا يُوضَعُ رِبا العَبّاس » .
القول في تأويل قوله : { لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ } .
يعني بقوله : { لا تَظْلِمُونَ } بأخذكم رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غرمائكم منهم دون أرباحها التي زدتموها ربا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم ، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذه ، أو لم يكن لكم قبل . { وَلا تُظْلَمُونَ } يقول : ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الربا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل يبخسكم حقا لكم عليه فيمنعكموه ، لأن ما زاد على رءوس أموالكم ، لم يكن حقا لكم عليه ، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول وغيره من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ } فتربون ، { وَلا تُظْلَمُونَ } فتنقصون .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ } قال : لا تنقصون من أموالكم ، ولا تأخذون باطلاً لا يحلّ لكم .
{ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } أي فاعلموا بها ، من أذن بالشيء إذا علم به ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عياش " فآذنوا " أي فأعلموا بها غيركم ، من الأذن وهو الاستماع فإنه من طرق العلم ، وتنكير حرب للتعظيم وذلك يقتضي أن يقاتل المربي بعد الاستتابة حتى يفيء إلى أمر الله ، كالباغي ولا يقتضي كفره . روي : أنها لما نزلت قالت ثقيف لا يدي لنا بحرب الله ورسوله . { وإن تبتم } من الارتباء واعتقاد حله . { فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون } بأخذ الزيادة . { ولا تظلمون } بالمطل والنقصان ، ويفهم منه أنها إن لم يتوبوا فليس لهم رأس مالهم وهو سديد على ما قلناه ، إذ المصر على التحليل مرتد وماله فيء :
وقوله : { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } يعني إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا ، فاعلموا أنّ الحرب عادت جذعة ، فهذا كقوله : « وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء » . وتَنكير حرب لقصد تعظيم أمرها ؛ ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضاً عنها بمن ونسبت إلى الله ؛ لأنّها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد ، وإلى رسوله لأنّه المبلغ والمباشر ، وهذا هو الظاهر . فإذا صح ما ذكر في سبب نزولها فهو من تجويز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم في الأحكام إذْ قبل من ثقيف النزول على اقتضاء ما لَهم من الربا عند أهل مكة ، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى : { وذروا ما بقي من الربوا } ؛ فيحتمل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى الصلح مع ثقيف على دخولهم في الإسلام مع تمكينهم مما لهم قبل قريش من أموال الربا الثابتة في ذممهم قبل التحريم مصلحة ، إذ الشأن أنّ ما سبق التشريع لا ينقض كتقرير أنكحة المشركين ، فلم يُقِرّه الله على ذلك وأمر بالانكفاف عن قبض مال الربا بعد التحريم ولو كان العقد قبل التحريم ، ولذلك جعلهم على خيرة من أمرهم في الصلح الذي عقدوه .
ودلت الآية على أنّ مجرد العقد الفاسد لا يوجب فوات التدارك إلاّ بعد القبض ، ولذلك جاء قبلها « فله ما سلف » وجاء هنا { وذروا ما بقي من الربوا } إلى قوله { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } .
وهذه الآية أصل عظيم في البيوع الفاسدة تقتضي نقضها ، وانتقالَ الضمان بالقبض ، والفواتَ بانتقال الملك ، والرجوع بها إلى رؤوس الأموال أو إلى القيم إن فاتت ، لأنّ القيمة بدل من رأس المال .
ورؤوس الأموال أصولها ، فهو من إطلاق الرأس على الأصل ، وفي الحديث " رأس الأمر الإسلام " .
ومعنى { لا تظلِمون ولا تظلَمون } لا تأخذون مال الغير ولا يأخذ غيركم أموالكم .
وقرأ الجمهور { فاذَنوا } بهمزة وصل وفتح الذاللِ أمراً من أذِنَ ، وقرأه حمزة وأبو بكر وخلف { فآذِنوا } بهمزة قطع بعدها ألف وبذال مكسورة أمرا من آذن بكذا إذا أعلم به أي فآذنوا أنفسكم ومن حولكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن لم تفعلوا}: وتقروا بتحريمه، {فأذنوا}: فاستيقنوا {بحرب من الله ورسوله}، يعني الكفر. {وإن تبتم} من استحلال الربا وأقررتم بتحريمه، {فلكم رؤوس أموالكم} التي أسلفتم لا تزدادوا؛ {لا تظلمون} أحدا إذا لم تزدادوا على أموالكم، {ولا تظلمون} فتنقصون من رءوس أموالكم.
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية إلى عتاب بن أسيد بمكة، فأرسل عتاب إلى بني عمرو بن عمير، فقرأ عليهم الآية، فقالوا: بل نتوب إلى الله عز وجل، ونذر ما بقى من الربا، فإنه لا يدان لنا بحرب الله ورسوله، فطلبوا رءوس أموالهم إلى بني المغيرة، فاشتكوا العسرة، فقال الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ..}
195- القرطبي: ذكر ابن بكير قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله، إني رأيت رجلا سكرانا يتعاقر يريد أن يأخذ القمر، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر. فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك فأتاه. من الغد فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك. فأتاه من الغد، فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أكثر من الربا لأن الله أذن فيه بالحرب...
قوله تعالى: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} [البقرة: 279]. 196- ابن أبي حاتم: قال مالك، وسئل عن قول الله: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}، قال: إنما ذلك في أهل الإسلام. 197- يحيى: قال مالك: ومن البيوع ما يجوز إذا تفاوت أمره وتفاحش رده فأما الربا فإنه لا يكون فيه إلا الرد أبدا ولا يجوز منه قليل ولا كثير ولا يجوز فيه ما يجوز في غيره لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا}: فإن لم تذروا ما بقي من الربا.
(واختلف القراء في قراءة قوله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ}؛ فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة: {فأْذَنُوا} -بقصر الألف من فأذنوا وفتح ذالها- بمعنى: وكونوا على علم وإذْن. وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قراء الكوفيين: «فَآذِنُوا» -بمدّ الألف من قوله: «فآذِنوا» وكسر ذالها- بمعنى: فآذنوا غيركم، أعلموهم وأخبروهم بأنكم على حربهم.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءة من قرأ: {فأذَنُوا} بقصر ألفها وفتح ذالها، بمعنى: اعلموا ذلك واستيقنوه، وكونوا على إذن من الله عزّ وجل لكم بذلك. وإنما اخترنا ذلك، لأن الله عزّ وجلّ أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينبذ إلى من أقام على شركه الذي لا يقرّ على المقام عليه، وأن يقتل المرتدّ عن الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الإسلام، أذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يأذنوه، فإذ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون كان مشركا مقيما على شركه الذي لا يقرّ عليه، أو يكون كان مسلما فارتدّ وأذن بحرب، فأيّ الأمرين كان، فإنما نبذ إليه بحرب، لا أنه أمر بالإيذان بها إن عزم على ذلك، لأن الأمر إن كان إليه فأقام على أكل الربا مستحلاً له، ولم يؤذن المسلمون بالحرب، لم يلزمهم حربه، وليس ذلك حكمه في واحدة من الحالين، فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الآذن بها. {وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أمْوَالِكُمْ}: إن تبتم فتركتم أكل الربا، وأنبتم إلى الله عزّ وجلّ، فلكم رءوس أموالكم من الديون التي لكم على الناس دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربا منكم. {لا تَظْلِمُونَ}: بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غرمائكم منهم دون أرباحها التي زدتموها ربا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذه، أو لم يكن لكم قبل. {وَلا تُظْلَمُونَ}: ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الربا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل يبخسكم حقا لكم عليه فيمنعكموه، لأن ما زاد على رؤوس أموالكم، لم يكن حقا لكم عليه، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}... قال أهل المعاني: حرب الله النار، وحرب رسوله السيف.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" بحرب من الله "فالحرب: القتال. والحرب: الشدة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إن صاحب الإصرار ليس له عندنا وزن ولا مقدار، ولا قَدْرٌ ولا أخطار...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: هلا قيل بحرب الله ورسوله؟ قلت: كان هذا أبلغ، لأن المعنى: فأذنوا بنوع من الحرب عظيم عند الله ورسوله...
فإن قلت: هذا حكمهم إن تابوا، فما حكمهم لو لم يتوبوا قلت: قالوا: يكون مالهم فيئاً للمسلمين.
اختلفوا في أن الخطاب بقوله {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله} خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا، أو هو خطاب مع الكفار المستحلين للربا، الذين قالوا إنما البيع مثل الربا، قال القاضي: والاحتمال الأول أولى، لأن قوله {فأذنوا} خطاب مع قوم تقدم ذكرهم، وهم المخاطبون بقوله {يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا} وذلك يدل على أن الخطاب مع المؤمنين.
فإن قيل: كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟... قلنا: هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل، كما جاء في الخبر « من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: « من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله» وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة: 33] أصلا في قطع الطريق من المسلمين، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وفي سنة رسوله...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
ثم أكد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشده. وهي محاربة المرابي لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ففي ضمن هذا الوعيد: أن المرابي محارب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قد آذنه الله بحربه، ولم يجيء هذا الوعيد في كبيرة سوى الربا، وقطع الطريق، والسعي في الأرض بالفساد، لأن كل واحد منهما مفسد في الأرض قاطع الطريق على الناس: هذا بقهره لهم وتسلطه عليهم، وهذا بامتناعه من تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها، فأخبر عن قطاع الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وأذن هؤلاء إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فأذنوا بحرب}: عظيمة. قال الحرالي: والحرب مدافعة بشدة عن اتساع المدافع بما يطلب منه الخروج عنه فلا يسمح به ويدافع عنه بأشد مستطاع؛ ثم عظم أمرها بإيراد الاسم الأعظم فقال: {من الله} العظيم الجليل {ورسوله} صلى الله عليه وسلم الذي هو أعظم الخلائق بتشريفه بالإضافة إليه. وقال الحرالي: الذي هيأه للرحمة، فكان نبي الرحمة محارباً له، فانقطعت وصلته من الرحيم والشفيع...
{وإن تبتم} أي فعلتم بعد الإذن بالقتال أو قبله ما أمركم الله به من ترك ما بقي منه {فلكم رؤوس أموالكم}: كما هو حال البيع.
ولما كان ذلك هو العدل لأنه الحق قال: {لا تظلمون}: بأخذ شيء مما بقي من الربا، {ولا تظلمون}: بنقص من رأس المال أو دفع بمطال لأنه الحق...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
والحرب نقيض السلم. ومن حاربه الله ورسوله لا يفلح أبدا. وفيه إيماء إلى سوء الخاتمة إن دام على أكله...
{وإن تبتم} من الربا {فلكم رؤوس أموالكم} أي أصولها {لا تظلمون} بطلب الزيادة {ولا تظلمون} بالنقص والمطل...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
فسر الأستاذ الإمام حرب الله لهم ببغضه وانتقامه، قال: نحن إن لم نر أثر هذا في الماضين، فإننا نراه في الحاضرين ممن أصبحوا بعد الغنى يتكففون ومن باتوا والمسألة الاجتماعية (مناصبة العمال لأرباب الأموال) تهددهم بالويل والثبور. وأما الحرب من رسوله لهم فهي مقاومتهم بالفعل في زمنه، واعتبارهم أعداء له في هذا الزمن الذي لا يخلفه فيه أحد يقيم شرعه {وإن تبتم} ورجعتم عن الربا امتثالا وخضوعا {فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون} غرماءكم بأخذ الزيادة {ولا تظلمون} بنقص شيء من رأس المال بل تأخذونه كاملا... وفي الآية أن الربا حرم لأنه ظلم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهذه صفحة الترغيب.. وإلى جوارها صفحة الترهيب.. الترهيب الذي يزلزل القلوب: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}.. يا للهول! حرب من الله ورسوله.. حرب تواجهها النفس البشرية.. حرب رهيبة معروفة المصير، مقررة العاقبة.. فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة؟! ولقد أمر رسول الله [ص] عامله على مكة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي. وقد أمر [ص] في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية -وأوله ربا عمه العباس- عن كاهل المدينين الذي ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة، حتى نضج المجتمع المسلم، واستقرت قواعده، وحان أن ينتقل نظامه الاقتصادي كله من قاعدة الربا الوبيئة... وقال [ص] في هذه الخطبة:"وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين. وأول ربا أضع ربا العباس".. ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حالة الجاهلية... فالإمام مكلف -حين يقوم المجتمع الإسلامي- أن يحارب الذين يصرون على قاعدة النظام الربوي، ويعتون عن أمر الله، ولو أعلنوا أنهم مسلمون. كما حارب أبو بكر -رضي الله عنه- مانعي الزكاة، مع شهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامتهم للصلاة. فليس مسلما من يأبى طاعة شريعة الله، ولا ينفذها في واقع الحياة!... على أن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسيف والمدفع من الإمام. فهذه الحرب معلنة -كما قال أصدق القائلين- على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي. هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة. وهي حرب على الأعصاب والقلوب. وحرب على البركة والرخاء. وحرب على السعادة والطمأنينة.. حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض. حرب المطاردة والمشاكسة. حرب الغبن والظلم. حرب القلق والخوف.. وأخيرا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول. الحرب الساحقة الماحقة التي تقوم وتنشأ من جراء النظام الربوي المقيت. فالمرابون أصحاب رؤوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر. وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات. ثم تقع فيها الشعوب والحكومات. ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب! أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب! أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم، فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين، فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب! وأيسر ما يقع -إن لم يقع هذا كله- هو خراب النفوس، وانهيار الأخلاق، وانطلاق سعار الشهوات، وتحطم الكيان البشري من أساسه، وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرعيبة! إنها الحرب المشبوبة دائما. وقد اعلنها الله على المتعاملين بالربا.. وهي مسعرة الآن؛ تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة؛ وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع.. وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر؛ ولكنها -وهي تخرج من منبع الربا الملوث- لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية، ويسحقها سحقا؛ في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين، لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون! لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى، ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المشرع الطاهر النظيف، وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء: وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم. لا تظلمون ولا تظلمون).. فهي التوبة عن خطيئة. إنها خطيئة الجاهلية. الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان، ولا نظام دون نظام.. إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان.. خطيئة تنشئ آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة. وتنشئ آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة. وتنشئ آثارها في الحياة البشرية كلها، وفي نموها الاقتصادي ذاته. ولو حسب المخدوعون بدعاية المرابين، إنها وحدها الأساس الصالح للنمو الاقتصادي!... واسترداد رأس المال مجردا، عدالة لا يظلم فيها دائن ولا مدين.. فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة. لها وسيلة الجهد الفردي. ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه، ومقاسمته الربح والخسارة. ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق -بدون سندات تأسيس تستأثر بمعظم الربح- وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه. ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة -على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة- ولا تعطيها بالفائدة الثابتة -ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت.. وللمصارف أن تتناول قدرا معينا من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال.. ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها.. وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب، وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر، وتجنب المورد العفن النتن الآسن!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يعني: إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا، فاعلموا أنّ الحرب عادت جذعة، فهذا كقوله: « وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء». وتَنكير حرب لقصد تعظيم أمرها؛ ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضاً عنها بمن ونسبت إلى الله؛ لأنّها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد، وإلى رسوله لأنّه المبلغ والمباشر، وهذا هو الظاهر. فإذا صح ما ذكر في سبب نزولها فهو من تجويز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم في الأحكام إذْ قبل من ثقيف النزول على اقتضاء ما لَهم من الربا عند أهل مكة، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: {وذروا ما بقي من الربوا}؛ فيحتمل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى الصلح مع ثقيف على دخولهم في الإسلام مع تمكينهم مما لهم قبل قريش من أموال الربا الثابتة في ذممهم قبل التحريم مصلحة، إذ الشأن أنّ ما سبق التشريع لا ينقض كتقرير أنكحة المشركين، فلم يُقِرّه الله على ذلك وأمر بالانكفاف عن قبض مال الربا بعد التحريم ولو كان العقد قبل التحريم، ولذلك جعلهم على خيرة من أمرهم في الصلح الذي عقدوه.
ودلت الآية على أنّ مجرد العقد الفاسد لا يوجب فوات التدارك إلاّ بعد القبض، ولذلك جاء قبلها « فله ما سلف» وجاء هنا {وذروا ما بقي من الربوا}
إلى قوله {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم}. وهذه الآية أصل عظيم في البيوع الفاسدة تقتضي نقضها، وانتقالَ الضمان بالقبض، والفواتَ بانتقال الملك، والرجوع بها إلى رؤوس الأموال أو إلى القيم إن فاتت، لأنّ القيمة بدل من رأس المال. ورؤوس الأموال أصولها، فهو من إطلاق الرأس على الأصل، وفي الحديث "رأس الأمر الإسلام"...
في هذه الآية قضية كونية يتغافل عنها كثير من الناس. لقد جاء نظام ليحمي طائفة من ظلم طائفة، ولم يأتي هذا النظام إلا بعد أن وجدت طائفة المرابين الذين ظلموا طائفة الفقراء المستضعفين. وحسب هؤلاء المستضعفين الذين استغِلوا من المرابين أن ينصفهم القرآن وأن يُنهي قضية الربا إنهاءً يعطي الذين رابوا ما سلف لأنهم بنوا حياتهم على ذلك...
ولذلك فالله يقول لمن لا يفعل ما أمر به الله في الربا؛ {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}. أما حرب الله فلا نقول فيها إلا قول الله: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} (من الآية 31 سورة المدثر). ولا يستطيع أحد أن يحتاط لها. وأما حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه هي الأمر الظاهر. كأن الله سبحانه وتعالى يجرد على المرابين تجريدة هائلة من جنوده التي لا يعلمها إلا هو، وحرب رسول الله جنودها هم المؤمنون برسوله، وعليهم أن يكونوا حربا على كل ظاهرة من ظواهر الفساد في الكون؛ ليطهّروا حياتهم من دنس الربا...
وكثير من النظريات التي تأتي لتقلب نظاما في مجتمع ما تعمد إلى الطائفة التي ظَلمت، فلا تكتفي بأن تكفها عن الظلم، ولكن تمكن للمظلوم أن يظلم من ظلمه، وذلك هو الإجحاف في المجتمع، وهذا ما يجب أن يتنبه إليه الناس جيدا؛ لأن الله الذي أنصفك أيها المظلوم من ظالمك، فمنع ظلمه لك، هنا يجب أن تحترم حكمه حينما قال: {فله ما سلف} وبهذا القول انتهت القضية...
ويستأنف سبحانه الأمر بعدالة جديدة تجمعك وتجمعه على قدم المساواة بدون ظلم منك أيها المظلوم سابقا بحجة أنه طالما ظلمك. والمجتمعات حين تسير على هذا النظام {لا تظلمون ولا تُظلمون} إنما تسير على نمط معتدل لا على ظلم موجه. فنحن نعيب على قوم أنهم ظلموا، ثم نأتي بقوم لنجعلهم يظلمون، لا.. إن الجميع على قدم المساواة من الآن. وفساد أي نظام في المجتمع يأتي من توجيه الظلم من فئة جديدة إلى فئة قديمة، فبذلك يظل الظلم قائما، طائفة ظَلمت، وتأتي طائفة كانت مظلومة لتظلم الطائفة الظالمة سابقا، نقول لهم: ذلك ظلم موجه، ونحن نريد أن تنتظم العدالة وتشمل كل أفراد المجتمع بأن يأخذ كل إنسان حقه، فالذي ظلم سابقا منعناه عن ظلمه، والمغلوب سابقا أنصفناه، وبذلك يصير الكل على قدم المساواة؛ ليسير المجتمع مسيرة عادلة تحكمه قضية إيمانية. إننا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تتغيّر في هذه الآية لهجة السياق القرآني، فبعد أن كانت الآيات السابقة تنصح وتعظ، تهاجم هذه الآية المرابين بكلّ شدة، وتنذرهم بلهجة صارمة أنّهم إذا واصلوا عملهم الربوي ولم يستسلموا لأوامر الله في الحقّ والعدل واستمرّوا في امتصاص دماء الكادحين المحرومين فلا يسع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاَّ أن يتوسّل بالقوّة لإيقافهم عند حدّهم وإخضاعهم للحق، وهذا بمثابة إعلان الحرب عليهم. وهي الحرب التي تنطلق من قانون: {قاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله}... يتّضح من [ذلك] أنّ هذا الحكم يخصّ الذين ينكرون تحريم الربا في الإسلام. على كلّ حال يستفاد من هذه الآية أنّ للحكومة الإسلامية أن تتوسّل بالقوّة لمكافحة الربا... {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون}. أمّا إذا تبتم ورجعتم عن غيّكم وتركتم تعاطي الربا فلكم أن تتسلّموا من الناس المدينين لكم رؤوس أموالكم فقط «بغير [زيادة]». وهذا قانون عادل تماماً، لأنّه يحول دون أن تظلموا الناس ودون أن يصيبكم ظلم. إنّ تعبير {لا تَظلِمون ولا تُظلَمون} وإن كان قد جاء بشأن المرابين، ولكنّه في الحقيقة شعار إسلامي واسع وعميق، يعني أنّ المسلمين بقدر ما يجب عليهم تجنّب الظلم، يجب عليهم كذلك أن لا يستسلموا للظلم. وفي الحقيقة لو قلّ الذين يتحمّلون الظلم لقلّ الظالمون أيضاً، ولو أنّ المسلمين أعدّوا العدّة الكافية للدفاع عن حقوقهم لما تمكّن أحد أن يعتدي على تلك الحقوق ويظلمهم. فقبل أن نقول للظالم: لا تظلم، علينا أن نقول للمظلوم: لا تستسلم للظلم...