مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ} (279)

ثم قال تعالى : { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة { فآذنوا } مفتوحة الألف ممدودة مكسورة الذال على مثال { فآمنوا } والباقون { فأذنوا } بسكون الهمزة مفتوحة الذال مقصورة ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن علي رضي الله عنه أنهما قرآ كذلك { فآذنوا } ممدودة ، أي فاعلموا من قوله تعالى : { فقل آذنتكم على سواء } [ الأنبياء : 109 ] ومفعول الإيذان محذوف في هذه الآية ، والتقدير : فاعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله ، وإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم أيضا قد علموا ذلك لكن ليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم ، فهذه القراءة في البلاغة آكد ، وقال أحمد بن يحيى : قراءة العامة من الإذن ، أي كونوا على علم وإذن ، وقرأ الحسن { فأيقنوا } وهو دليل لقراءة العامة .

المسألة الثانية : اختلفوا في أن الخطاب بقوله { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله } خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا ، أو هو خطاب مع الكفار المستحلين للربا ، الذين قالوا إنما البيع مثل الربا ، قال القاضي : والاحتمال الأول أولى ، لأن قوله { فأذنوا } خطاب مع قوم تقدم ذكرهم ، وهم المخاطبون بقوله { يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا } وذلك يدل على أن الخطاب مع المؤمنين .

فإن قيل : كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين ؟

قلنا : هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل ، كما جاء في الخبر « من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة » وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله » وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } [ المائدة : 33 ] أصلا في قطع الطريق من المسلمين ، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وفي سنة رسوله .

إذا عرفت هذا فنقول : في الجواب عن السؤال المذكور وجهان الأول : المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب والثاني : المراد نفس الحرب وفيه تفصيل ، فنقول : الإصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التعزير والحبس إلى أن تظهر منه التوبة ، وإن وقع ممن يكون له عسكر وشوكة ، حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية وكما حارب أبو بكر رضي الله عنه ما نعي الزكاة ، وكذا القوم لو اجتمعوا على ترك الأذان ، وترك دفن الموتى ، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من عامل بالربا يستتاب فإن تاب وإلا ضرب عنقه .

والقول الثاني : في هذه الآية أن قوله { فإن لم تفعلوا فأذنوا } [ البقرة : 279 ] خطاب للكفار ، وأن معنى الآية { وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين } [ البقرة : 278 ] معترفين بتحريم الربا { فإن لم تفعلوا } أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ومن ذهب إلى هذا القول قال : إن فيه دليلا على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام كان كافرا ، كما لو كفر بجميع شرائعه .

ثم قال تعالى : { وإن تبتم } والمعنى على القول الأول تبتم من معاملة الربا ، وعلى القول الثاني من استحلال الربا { فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } أي لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال ، ولا تظلمون أي بنقصان رأس المال .