اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ} (279)

فإن قيل : كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين ؟

قلنا : هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر " مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً ، فَقَدْ بَارَزَنِي بالمُحَارَبَةِ " ، وعن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ لم يَدَع المخابرة ، فليأذَن بحرب من اللهِ ورسُوله " وقد جعل كثيرٌ من المفسرين والفقهاء قوله : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ } [ المائدة :33 ] أصلاً في قطع الطريق من المسلمين ، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب وسنة رسوله .

وفي الجواب عن السؤال وجهان :

الأول : أن المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب .

الثاني : أن المراد منه نفس الحرب ، وفيه تفصيلٌ ؛ فنقول : إنّ المصرَّ على فعل الربا ، إذا كان من شخص ، وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التَّعزير ، والحبس إلى أن تظهر منه التوبة ، وإن كان المصر ممن له عسكرٌ وشوكة ، حاربه الإمام ، كما يحارب الفئة الباغية ، وكما حارب أبو بكرٍ - رضي الله عنه - مانعي الزكاة ، وكذا القول لو اجتمعوا على ترك الأذان ، وترك دفن الموتى ، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه .

وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - من عامل بالربا ، يستتاب ، فإن تاب ، وإلاَّ ضرب عنقه{[4748]} .

والقول الثاني : أنه خطابٌ للكفار ، وأن معنى قوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي : معترفين بتحريم الربا { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } أي : فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ } ومن ذهب إلى هذا القول ، قال : إنَّ فيه دليلاً على أنَّ من كفر بشريعة واحدةٍ من شرائع الإسلام ، فهو خارجٌ من ملة الإسلام ، كافرٌ كما لو كفر بجميع شرائعه .

قوله : { وَإِنْ تُبْتُمْ } فالمعنى على القول الأول : وإن تبتم عن معاملة الربا ، وعلى الثاني : من استحلال الربا { فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } أي : لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال { وَلاَ تُظْلَمُونَ } أي : بنقصان رأس المال .

قوله : { لاَ تَظْلِمُونَ } فيها وجهان :

أظهرهما : أنها لا محلَّ لها ؛ لاستئنافها ، أخبرهم تعالى بذلك ، أي : لا تظلمون غيركم بأخذكم الزيادة منه ، ولا تظلمون أنتم - أيضاً - بضياع رؤوس أموالكم .

والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في " لَكُمْ " والعامل ما تضمَّنه الجارُّ من الاستقرار ؛ لوقوعه خبراً وهو رأي الأخفش .

وقرأ الجمهور الأول مبنيّاً للفاعل ، والثاني مبنياً للمفعول . وروى أبانٌ{[4749]} ، والمفضَّل ، عن عاصم بالعكس . ورجَّح الفارسي{[4750]} قراءة العامة ؛ بأنها تناسب قوله : " وإن تُبْتُمْ " في إسناد الفعلين إلى الفاعل ، فتظلمون مبنياً للفاعل أشكل بما قبله . وقال أبو البقاء{[4751]} رحمه الله : يُقْرَأُ بتسميةِ الفَاعِلِ في الأوَّلِ ، وترْكِ التسمية في الثاني ؛ ووجهه : أنَّ منعهم من الظلم أهمُّ ؛ فبدئ به ، ويقرأ بالعكس ، والوجه فيه : أنه قدَّم ما تطمئن به نفوسهم من نفي الظلم عنهم ، ثم منعهم من الظلم ، ويجوز أن تكون القراءتان بمعنى واحدٍ ؛ لأنَّ الواو لا ترتِّب .


[4748]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/88.
[4749]:- انظر: السبعة 192، والحجة 2/413، والبحر المحيط 2/353 والدر المصون 1/667.
[4750]:- انظر: الحجة للقراء السبعة 2/414.
[4751]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/117.