البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ فَأۡذَنُواْ بِحَرۡبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ} (279)

{ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ظاهره : فإن لم تتركوا ما بقي من الربا ، وسمي الترك فعلاً ، وإذا أمروا بترك ما بقي من الربا من ذلك الأمر بترك إنشاء الربا على طريق الأولى والأحرى .

وقال الرازي : فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، ومن ذهب إلى هذا قال : فيه دليل على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام خرج من الملة كما لو كفر بجميعها .

وقرأ حمزة ، وأبو بكر في غير رواية البرجمي ، وابن غالب عنه : فآذنوا ، أمر من : آذن الرباعي بمعنى : أعلم ، مثل قوله : { فقل آذنتكم على سواء }

وقرأ باقي السبعة : فأذنوا ، أمر من : أذن ، الثلاثي ، مثل قوله : { لا يتكلمون إلاَّ من أذن له الرحمن }

وقرأ الحسن : فأيقنوا بحرب .

والظاهر أن الخطاب في قوله : { فإن لم تفعلوا } هو لمن صدرت الآية بذكره ، وهم المؤمنون ، وقيل : الخطاب للكفار الذين يستحلون الربا ، فعلى هذا المحاربة ظاهرة ، وعلى الأول فالإعلام أو العلم بالحرب جاء على سبيل المبالغة في التهديد دون حقيقة الحرب ، كما جاء : « من أهان لي ولياً فقد آذنني بالمحاربة » وقيل : المراد نفس الحرب .

ونقول : الإصرار على الربا إن كان ممن يقدر عليه الإمام ، قبض عليه الإمام وعزره وحبسه إلى أن يظهر منه التوبة ، أو ممن لا يقدر عليه ، حاربه كما تحارب الفئة الباغية .

وقال ابن عباس : من عامل بالربا يستتاب ، فإن تاب وإلاَّ ضربت عنقه .

ويحمل قوله هذا على من يكون مستبيحاً للربا ، مصراً على ذلك ، ومعنى الآية : فإن لم تنتهوا حاربكم النبي صلى الله عليه وسلم .

وقيل : المعنى : فأنتم حرب الله ورسوله ، أي : أعداء .

والحرب داعية القتل ، وقالوا : حرب الله النار ، وحرب رسوله السيف .

وروي عن ابن عباس أنه : « يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب » والباء في بحرب على قراءة القصر للإصاق ، تقول : أذن بكذا ، أي : علم ، وكذلك قال ابن عباس وغيره : المعنى فاستيقنوا بحرب من الله .

وقال الزمخشري : وهو من الأذن ، وهو الاستماع ، لأنه من طريق العلم . انتهى .

وقراءة الحسن تقوي قراءة الجمهور بالقصر .

وقال ابن عطية : هي عندي من الإذن ، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبنى مع نفسه عليه ، فكأنه قيل لهم : قرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله .

ويلزمهم من لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون ، إذ هم الآذنون فيها ، وبها ، ويندرج في هذا علمهم بأنه حرب الله ، وتيقنهم لذلك .

انتهى كلامه .

فيظهر منه ان الباء في : { بحرب } ظرفية .

أي : فاذنوا في حرب ، كما تقول أذن في كذا ، ومعناه أنه سوغه ومكن منه .

قال أبو علي : ومن قرأ فآذنوا بالمدّ ، فتقديره : فأعلموا من لم بنته عن ذلك بحرب ، والمفعول محذوف ، وقد ثبت هذا المفعول في قوله تعالى : { فقل آذنتكم على سواء } وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة ، قال : ففي إعلامهم علمهم ، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم .

فقراءة المد أرجح ، لأنها أبلغ وآكد .

وقال الطبري : قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم ، وإنما أمروا على قراءة المدّ بإعلام غيرهم ، وقال ابن عطية : والقراءتان عندي سواء ، لأن المخاطب محصور ، لأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا ، فإن قيل : فآذنوا ، فقد عمهم الأمر .

وإن قيل : فآذنوا ، بالمدّ فالمعنى : أنفسكم ، أو : بعضكم بعضاً .

وكأن هذه القراءة تقتضي فسحاً لهم في الارتياء والتثبت ، فأعلموا نفوسكم هذا ، ثم انظروا في الأرجح لكم : ترك الربا أو الحرب . انتهى .

وروي : أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا يد لنا بحرب الله ورسوله .

ومن ، في قوله : من الله ، لابتداء الغاية ، وفيه تهويل عظيم ، إذ الحرب من الله تعالى ومن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يطيقه أحد ، ويحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف ، أي : من حروب الله .

قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل بحرب الله ورسوله ؟ قلت : كان هذا أبلغ لأن المعنى : فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله . انتهى .

وإنما كان أبلغ لأن فيها نصاً بأن الحرب من الله لهم ، فالله تعالى هو الذي يحاربهم ، ولو قيل : بحرب الله ، لاحتمل أن تكون الحرب مضافة للفاعل ، فيكون الله هو المحارب لهم ، وأن تكون مضافة للمفعول ، فيكونوا هم المحاربين الله .

فكون الله محاربهم أبلغ وأزجر في الموعظة من كونهم محاربين الله .

{ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } أي : إن تبتم من الربا ورؤوس الأموال : أصولها ، وأما الأرباح فزوائد وطوارئ عليها .

قال بعضهم : إن لم يتوبوا كفروا برد حكم الله واستحلال ما حرم الله ، فيصير مالهم فيأ للمسلمين ، وفي الاقتصار على رؤوس الأموال مع ما قبله دليل واضح على أنه ليس لهم إلاَّ ذلك ، ومفهوم الشرط أنه : إن لم يتوبوا فليس لهم رؤوس أموالهم ، وتسمية أصل المال رأساً مجاز .

{ لا تظلمون ولا تظلمون } قرأ الجمهر الأول مبنياً للفاعل ، والثاني مبنياً للمفعول ، أي : لا تظلمون الغريم بطلب زيادة على رأس المال ، ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال ، وقيل : بالمطل .

وقرأ أبان ، والمفضل ، عن عاصم الأول مبنياً للمفعول ، والثاني مبيناً للفاعل ورجح أبو علي قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله : وإن تبتم ، في إسناد الفعلين إلى الفاعل ، فتظلمون بفتح التاء أشكل بما قبله .

والجملة يظهر أنها مستأنفة وإخبار منه تعالى أنهم إذا اقتصروا على رؤوس الأموال كان ذلك نصفة ، وقيل : الجملة حال من المجرور في : لكم ، والعامل في الحال ما في حرف الجر من شوب الفعل ، قاله الأخفش .