45- وفرضنا على اليهود في التوراة شرعة القصاص ، لنحفظ بها حياة الناس فحكمنا بأن تؤخذ النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح يقتص فيها إذا أمكن . فمن عفا وتصدق بحقه في القصاص على الجاني ، كان هذا التصدق كفارة له ، يمحو الله بها قدراً من ذنوبه . ومن لم يحكم بما أنزل الله من القصاص وغيره ، فأولئك هم الظالمون .
ثم بين - سبحانه - بعض ما اشتملت عليه التوراة من أحكام فقال { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ } .
فالآية الكريمة معطوفة على ما سبقها وهو قوله - تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة } .
وقوله : ( كتبنا ) بمعنى فرضنا وقررنا . والمراد بالنفس : الذات .
أي : أنزلنا التوراة على موسى لتكون هداية ونوراً لبني إسرائيل ، وفرضنا عليهم ( أن النفس بالنفس ) أي : مقتولة أو مأخوذة بها إذا قتلتها بغير حق . وأن { والعين } مفقوءة { العين } وأن { والأنف } مجدوع { بالأنف } وأن { والأذن } مقطوعة { بالأذن } وأن { والسن } مقلوعة { بالسن } وأن { والجروح قِصَاصٌ } أي : ذات قصاص ، بأن يقتص فيها إذا أمكن ذلك ، وإلا فما لا يمكن القصاص فيه - ككسر عظم وجرح لحم لا يمكن الوقوف على نهايته - ففهي حكومة عدل .
وعبر - سبحانه - عما فرض عليهم من عقوبات في التوراة بقوله : ( كتبنا ) للإشارة إلى أن هذه العقوبات وتلك الأحكام لا يمكن جحدها أو محوها ، لأنها مكتوبة والكتابة تزيد الكلام توثيقاً وقوة .
قال القرطبي ما ملخصه : قوله - تعالى - { والعين بالعين والأنف بالأنف } إلخ قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف .
وقرأ ابن كثير وانب عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح ؛ فإنه بالرفع على القطع عما قبله والاستئناف به - أي أن الجروح مبتدأ وقصاص خبره .
وقرأ الكسائي وأبو عبيد : { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح } بالرفع فيها كلها .
قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير ، عن عقيل عن الزهري ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ } .
والرفع من ثلاث جهات ، بالابتداء والخبر . والوجه الثاني : بالعطف على المعنى على موضع ( أن النفس ) لأن المعنى قلنا لهم : النفس بالنفس والوجه الثالث - قاله الزجاج - يكون عطفا على المضمر في النفس . لأن الضمير في النفس في موضع رفع ، لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس فالأسماء معطوفة على هي .
وقوله : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } ترغيب في العفو والصفح .
والضمير في ( به ) يعود إلى القصاص . والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الحث عليه فإنه أدعى إلى صفاء النفوس ، وإلى فتح باب التسامح بين الناس .
وقوله : ( فهو ) يعود إلى التصدق المدلول عليه بالفعل ( تصدق ) والضمير في قوله ( له ) يعود إلى العافي المتصدق وهو المجني عليه أو من يقوم مقامه .
والمعنى : { فَمَن تَصَدَّقَ } بما ثبت له من حق القصاص ، بأن عفا عن الجاني فإن هذا التصدق يكون كفارة لذنوب هذا المتصدق ، حيث قدم العفو مع تمكنه من القصاص .
وقيل إن الضمير في ( له ) يعود على الجاني فيكون المعنى : فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص ، بأن عفا عن الجاني ، فإن هذا التصدق يكون كفارة له . أي لذنوب الجاني ، بأن لا يؤاخذه الله بعد ذلك العفو . وأما المتصدق فأجره على الله .
وقد رجح ابن جرير عودة الضمير إلى العافي المتصدق وهو المجني عليه أو ولى دمه فقال : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب : قول من قال : عني به : فمن تصدق به فهو كفارة له أي المجروح ، ولأنهلأن تكون الهاء في قوله ( له ) عائدة على ( من ) أولى من أن تكون عائدة على ما لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح ، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات .
وقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } تذييل قصد به التحذير من مخالفة حكم الله . أي : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون لأنفسهم ، حيث تركوا الحكم العدل واتجهوا إلى الحكم الجائر الظالم .
قال الرازي : وفيه سؤال وهو أنه - تعالى - . قال : أولا : { فأولئك هُمُ الكافرون } وثانياً { هُمُ الظالمون } والكفر أعظم من الظلم ، فلماذا ذكر أعظم التهديدات أولا وأي فائدة في ذكر الأخف بعده ؟
وجوابه : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر ، ومن حيث إنه يقتضي إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس . ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق - سبحانه - وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه .
هذا ، ومما أخذه العلماء من هذه الآية ما يأتي :
1 - أن الآية الكريمة - ككثيرة غيرها - تنعى على بني إسرائيل إهمالهم لأحكام الله - تعالى - وتهافتهم على ما يتفق مع أهوائهم .
قال ابن كثير : هذه الآية وبخت به اليهود أيضاً وقرعت عليه ، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس . وقد خالفوا حكم ذلك عمداً وعناداً فأقادوا النضرى من القرظى ، ولم يقيدوا القرظي من النضرى وعدولا إلى الدية ، كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن ، وعدولا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإِشهار . ولهذا قال هناك { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعناداً وعمداً . وقال هنا في تتمة الآية { فأولئك هُمُ الظالمون } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه ، فخانوا وظلموا وتعدى بعضهم على بعض .
ثم قال : واستدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا بهذه الآية . وذلك إذا حكى مقررا ولم ينسخ . والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة . وقال الحسن البصري : هي عليهم وعلى الناس عامة .
2 - استدل جمهور الفقهاء بعموم هذه الآية على أن الرجل يقتل بالمرأة . ويؤيد ذلك ما رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم : أن الرجل يقتل بالمرأة . . وفي رواية للإِمام أحمد أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، بل تجب ديتها .
قال الآلوسي : واستدل بعموم { أَنَّ النفس بالنفس } من قال : يقتل المسلم بالكافر ، والحر بالعبد ، والرجل بالمرأة ومن خالف استدل بقوله - تعالى :
{ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } وبقوله صلى الله عليه وسلم " لا يقتل مؤمن بكافر " .
وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه . والمراد بما روى في الحديث الكافر الحربي وق دروى أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمى .
3 - استدل العلماء بجريان القصاص في الأطراف لقوله - تعالى - { والعين بالعين } { والأنف بالأنف } إلخ . إلا أنهم قالوا بوجوب استيفاء ما يماثل فعل الجاني بدون تعد أو ظلم فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها ، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى .
وقالوا : إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمداً . فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية : إن أصاب العينين معاً خطأ ففيهما الدية الكاملة .
ويرى بعضهم أن في عين الدية كاملة لأن منفعته بها كمنفعة ذي عينين أو قريبة منها .
وقد توسع الإِمام القرطبي في بسط هذه المسائل فارجع إليه إن شئت .
4 - أخذ العلماء من هذه الآية أن الله - تعالى - رغب في العفو ، وحض عليه ، وأجزل المثوبة لمن يقوم به فقد قال - تعالى - { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } .
أي : فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص فتصدقه كفارة لذنوبه .
وقد وردت في الحض على العفو نصوص كثيرة ومن ذلك قوله - تعالى - : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } وقوله - تعالى - { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } وروى الإِمام أحمد عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به " .
وروى ابن جرير عن أبي السفر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار ، فاندقت ثنيته . فرفعه الأنصاري إلى معاوية . فلما ألح عليه الرجل قال معاوية : شأنك وصاحبك قال : وأبوالدرداء عند معاوية . فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده ، فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة " فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي - فخلى سبيل القرشي . فقال معاوية : " مروا له بمال " .
ومن هذه الآية وغيرها نرى أن الإِسلام قد جمع فيما شرع من عقوبات بين العدل والرحمة فقد شرع القصاص زجراً للمعتدى . وإشعاراً له بأن سوط العقاب مسلط عليه إذا ما تجاوز حده ، جبرا لخاطر المعتدى عليه ، وتمكينا له من أخذ حقه ممن اعتدى عليه .
ومع هذا التمكين التام للمجني عليه من الجاني فقد رغب الإِسلام المجني عليه في العفو عن الجاني حتى تشيع المحبة والمودة بين أفراد الأمة ، ووعده على ذلك بتكفير خطاياه ، وارتفاع درجاته عند الله - تعالى - .
وبعد بيان هذا الأصل القاعدي في دين الله كله ، يعود السياق ، لعرض نماذج من شريعة التوراة التي أنزلها الله ليحكم بها النبيون والربانيون والأحبار للذين هادوا - بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء :
( وكتبنا عليهم فيها : أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص ) . .
وقد استبقيت هذه الأحكام التي نزلت بها التوراة في شريعة الإسلام ، وأصبحت جزءا من شريعة المسلمين ، التي جاءت لتكون شريعة البشرية كلها إلى آخر الزمان . وإن كانت لا تطبق إلا في دار الإسلام ، لاعتبارات عملية بحتة ؛ حيث لا تملك السلطة المسلمة أن تطبقها فيما وراء حدود دار الإسلام . وحيثما كان ذلك في استطاعتها فهي مكلفة تنفيذها وتطبيقها ، بحكم أن هذه الشريعة عامة للناس كافة ، للأزمان كافة ، كما أرادها الله .
وقد أضيف إليها في الإسلام حكم آخر في قوله تعالى :
( فمن تصدق به فهو كفارة له ) . .
ولم يكن ذلك في شريعة التوارة . إذ كان القصاص حتما ؛ لا تنازل فيه ، ولا تصدق به ، ومن ثم فلا كفارة . .
ويحسن أن نقول كلمة عن عقوبات القصاص هذه على قدر السياق في الظلال .
أول ما تقرره شريعة الله في القصاص ، هو مبدأ المساواة . . المساواة في الدماء والمساواة في العقوبة . . ولم تكن شريعة أخرى - غير شريعة الله - تعترف بالمساواة بين النفوس ، فتقتص للنفس بالنفس ، وتقتص للجوارح بمثلها ، على اختلاف المقامات والطبقات والأنساب والدماء والأجناس . .
النفس بالنفس . والعين بالعين . والأنف بالأنف . والأذن بالأذن . والسن بالسن . والجروح قصاص . . لا تمييز . ولا عنصرية . ولا طبقية . ولا حاكم . ولا محكوم . . كلهم سواء أمام شريعة الله . فكلهم من نفس واحدة في خلقة الله .
إن هذا المبدأ العظيم الذي جاءت به شريعة الله هو الإعلان الحقيقي الكامل لميلاد " الإنسان " الإنسان الذي يستمتع كل فرد فيه بحق المساواة . . أولا في التحاكم إلى شريعة واحدة وقضاء واحد . وثانيا في المقاصة على أساس واحد وقيمة واحدة .
وهو أول إعلان . . وقد تخلفت شرائع البشر الوضعية عشرات من القرون حتى ارتقت إلى بعض مستواه من ناحية النظريات القانونية ، وإن ظلت دون هذا المستوى من ناحية التطبيق العملي .
ولقد انجرف اليهود الذين ورد هذا المبدأ العظيم في كتابهم - التوراة - عنه ؛ لا فيما بينهم وبين الناس فحسب ، حيث كانوا يقولون : " ليس علينا في الآميين سبيل بل فيما بينهم هم أنفسهم . على نحو ما رأينا فيما كان بين بني قريظة الذليلة ، وبني النضير العزيزة ؛ حتى جاءهم محمد [ ص ] فردهم إلى شريعة الله - شريعة المساواة . . ورفع جباه الأذلاء منهم فساواها بجباه الأعزاء !
والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو العقاب الرادع الذي يجعل من يتجه إلى الاعتداء على النفس بالقتل ، أو الاعتداء عليها بالجرح والكسر ، يفكر مرتين ومرات قبل أن يقدم على ما حدثته به نفسه ، وما زينه له اندفاعه ؛ وهو يعلم أنه مأخوذ بالقتل إن قتل - دون نظر إلى نسبه أو مركزه ، أو طبقته ، أو جنسه - وأنه مأخوذ بمثل ما أحدث من الإصابة . إذا قطع يدا أو رجلا قطعت يده أو رجله ؛ وإذا أتلف عينا أو أذنا أو سنا ، أتلف من جسمه ما يقابل العضو الذي أتلفه . . وليس الأمر كذلك حين يعلم أن جزاءه هو السجن - طالت مدة السجن أو قصرت - فالألم في البدن ، والنقص في الكيان ، والتشويه في الخلقة شيء آخر غير الآم السجن . . على نحو ما سبق بيانه في حد السرقة . . والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو القضاء الذي تستريح إليه الفطرة ؛ والذي يذهب بحزازات النفوس ، وجراحات القلوب ، والذي يسكن فورات الثأر الجامحة ، التي يقودها الغضب الأعمى وحمية الجاهلية . . وقد يقبل بعضهم الدية في القتل والتعويض في الجراحات . ولكن بعض النفوس لا يشفيها إلا القصاص . .
وشرع الله في الإسلام يلحظ الفطرة - كما لحظها شرع الله في التوراة - حتى إذا ضمن لها القصاص المريح . . راح يناشد فيها وجدان السماحة والعفو - عفو القادر على القصاص :
من تصدق بالقصاص متطوعا . . سواء كان هو ولي الدم في حالة القتل [ والصدقة تكون بأخذ الدية مكان القصاص ، أو بالتنازل عن الدم والدية معا وهذا من حق الولي ، إذ العقوبة والعفو متروكان له ويبقى للإمام تغزيز القاتل بما يراه ] أو كان هو صاحب الحق في حالة الجروج كلها ، فتنازل عن القصاص . . من تصدق فصدقته هذه كفارة لذنوبه ؛ يحط بها الله عنه .
وكثيرا ما تستجيش هذه الدعوة إلى السماحة والعفو ، وتعليق القلب بعفو الله ومغفرته . نفوسا لا يغنيها العوض المالي ؛ ولا يسليها القصاص ذاته عمن فقدت أو عما فقدت . . فماذا يعود على ولي المقتول من قتل القاتل ؟ أو ماذا يعوضه من مال عمن فقد ؟ . . إنه غاية ما يستطاع في الأرض لإقامة العدل ، وتأمين الجماعة . . ولكن تبقى في النفس بقية لا يمسح عليها إلا تعليق القلوب بالعوض الذي يجيء من عند الله . .
روى الإمام أحمد . قال : حدثنا وكيع ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السفر ، قال " كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار . فاستعدى عليه معاوية . فقال معاوية : سنرضيه . . فألح الأنصاري . . فقال معاويه : شأنك بصاحبك ! - وأبو الدرداء جالس - فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة ، أو حط به عنه خطيئة " . . فقال الأنصارى : فإني قد عفوت " . .
وهكذا رضيت نفس الرجل واستراحت بما لم ترض من مال معاوية الذي لوح له به التعويض . .
وتلك شريعة الله العليم بخلقة ؛ وبما يحيك في نفوسهم من مشاعر وخواطر ، وبما يتعمق قلوبهم ويرضيها ؛ ويكسب فيها الاطمئنان والسلام من الأحكام .
وبعد عرض هذا الطرف من شريعة التوراة ، التي صارت طرفا من شريعة القرآن ، يعقب بالحكم العام :
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) . .
والتعبير عام ، ليس هناك ما يخصصه ؛ ولكن الوصف الجديد هنا هو( الظالمون ) .
وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر . وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله . فهو كافر باعتباره رافضا لألوهية الله - سبحانه - واختصاصه بالتشريع لعباده ، وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس . وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم ، الصالحة المصلحة لأحوالهم . فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة ، وتعرضها لعقاب الكفر . وبتعريض حياة الناس - وهو معهم - للفساد .
وهذا ما يقتضيه اتحاد المسند إليه وفعل الشرط : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) . . فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول ؛ ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط وهو ( من ) المطلق العام .
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالاُذُنَ بِالاُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لّهُ وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك يا محمد ، وعندهم التوراة فيها حكم الله . ويعني بقوله : كَتَبْنا : فرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النفس إذا قتلت نفسا بغير حقّ بالنفس ، يعني : أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة . والعَيْنَ بالعَيْن يقول : وفرضنا عليهم فيها أن يفقئوا العين التي فقأ صاحبها مثلها من نفس أخرى بالعين المفقوءة ، ويجدع الأنف بالأنف ، ويقطع الأذن بالأذن ، ويقلع السنّ بالسنّ ، ويقتصّ من الجارح غيره ظلما للمجروح . وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود ، وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوّته وإدباره عنه بعد إقباله ، وتعريف منه له جراءتهم قديما وحديثا على ربهم وعلى رسل ربهم وتقدمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل يقول تعالى ذكره له : وكيف يرضى هؤلاء اليهود يا محمد بحكمك إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرّون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصَنين ، وقضائي بينهم أن من قتل نفسا ظلما فهو بها قَوَد ، ومن فقأ عينا بغير حقّ فعينه بها مفقوءة قصاصا ، ومن جدع أنفا فأنفه به مجدوع ، ومن قلع سنَا فسنه بها مقلوعة ، ومن جرح غيره جرحا فهو مقتصّ منه مثل الجرح الذي جرحه ، ثم هم مع الحكم الذي عنده في التوراة من أحكامي يتولون عنه ويتركون العمل به يقول : فهم بترك حكمك وبسخط قضائك بينهم أحرى وأولى .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما رأت قُرَيظة النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم وكانوا يخفونه في كتابهم ، نهضت قريظة ، فقالوا : يا محمد اقض بيننا وبين إخواننا بني النضير وكان بينهم دم قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت النضير يتعزّزون على بني قريظة ودياتهم على أنصاف ديات النضير ، وكانت الدية من وُسُوق التمر أربعين ومئة وسق لبني النضير وسبعين وسقا لبني قريظة . فقال : «دَمُ القُرَضِيّ وَفَاءٌ مِنْ دَمه النّضِيريّ » . فغضب بنو النضير ، وقالوا : لا نطيعك في الرجم ، ولكن نأخذ بحدودنا التي كنا عليها فنزلت : أفَحُكْمَ الجاهِلِيّةِ يَبْغونَ ، ونزل : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ . . . الاَية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ وَالَعيْنَ بالعَيْنِ وَالأنْفَ بالأنْفِ وَالأُذُنَ بالأُذُنِ وَالسّنّ بالسّنّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ قال : فما بالهم يخالفون ، يقتلون النفسين بالنفس ، ويفقئون العينين بالعين ؟ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا خلاد الكوفيّ ، قال : حدثنا الثوريّ ، عن السديّ ، عن أبي مالك ، قال : كان بين حَيّين من الأنصار قتال ، فكان بينهم قتلي ، وكان لأحد الحَيّين على الاَخر طَوْلٌ . فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعل يجعل الحرّ بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والمرأة بالمرأة فنزلت : الحُرّ بالحُرّ وَالعَبْدُ بالعَبْدِ . قال سفيان : وبلغني عن ابن عباس أنه قال : نسختها : النّفْسَ بالنّفس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قا : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ فيها في التوراة ، وَالعينَ بالعينِ حتى : وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ قال مجاهد عن ابن عباس ، قال : كان علي بني إسرائيل القصاص في القتلى ، ليس بينهم دية في نفس ولا جرح . قال : وذلك قول الله تعالى ذكره : وكَتَبْا عَلَيْهِمْ فِيها في التوراة ، فخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فجعل عليم الدية في النفس والجراح ، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة ، فمن تصدّق به فهو كفارة له .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ وَالعَيْنَ بالعَيْنِ وَالأنْفَ بالأنْف والأُذُن بالأذُن وَالسّنّ بالسّنّ والجُرُوحَ قِصَاصٌ قال : إن بني إسرائيل لم يجعل لهم دية فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت ، أو جرح ، أو سنّ ، أو عين ، أو أنف ، إنما هو القصاصُ أو العفو .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أبي في التوراة ، أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أي في التوراة ، أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ . . . حتى بلغ : والجُرُوحَ قَصَاصٌ بعضها ببعض .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : أنّ النّفْسي قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ . . . حتى بلغ : والجُرُوحَ قَصَاصٌ بعضها ببعض .
حدثني المثنى ، قا : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : أنّ النّفْسما بينهم إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ .
اختلف أهل التأويل في المعنّى به : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ فقال بعضهم : عُني بذلك المجروحُ وولىّ القتيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهثيم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : يُهدم عنه يعني المجروح مثل ذلك من ذنوبه .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو بنحوه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود أبي العريان ، قال : رأيت معاوية قاعدا على السرير وإلى جنبه رجل آخر كأنه مولى ، وهو عبد الله بن عمرو ، فقال في هذه الاَية : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهه فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : يُهدم عنه من ذنوبه مثل ما تصدّق به .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : للمجروح .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمارة بن أبي حفصة ، عن أبي عقبة ، عن جابر بن زيد : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : للمجروح .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني حِرمي بن عمارة ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عمارة ، عن رجل قال حرمي : نسيت اسمه عن جابر بن زيد بمثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : للمجروح .
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السفر ، قال : دفع رجل من قريش رجلاً من الأنصار ، فاندقت ثَنِيّته ، فرفعه الأنصاري إلى معاوية . فلما ألحّ عليه الرجل ، قال معاوية : شأنَك وصاحَبك قال : وأبو الدرداء عند معاوية ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَيَهَبُهُ إلاّ رَفَعَهُ اللّهُ بِهِ دَرَجَةً وَحَطّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً » . فقال له الأنصاريّ : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سمعتْه أذناني ووعاه قلبي . فخّلى سبيل القرشيّ ، فقال معاوية : مروا له بمال .
حدثنا محمود بن خِداش ، قال : حدثنا هشيم بن بشير ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : قال ابن الصامت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «مَنْ جُرِحَ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَتَصَدّقَ بِها ، كُفّرَ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِمِثْلِ ما تَصَدّقَ بِهِ » .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن في قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : كفارة للمجروح .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن زكريا ، قال : سمعت عامرا يقول : كفارة لمن تصدّق به .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يقول : لوليّ القتيل الذي عفا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني شبيب بن سعيد ، عن شعبة بن الحجاج ، عن قيس بن مسلم ، عن الهيثم أبي العريان ، قال : كنت بالشام ، وإذا برجل مع معاوية قاعد على السرير كأنه مولى ، قال : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال فمن تصدّق به هدم الله عنه مثله من ذنوبه . فإذا هو عبد الله بن عمرو .
وقال آخرون : عَنَى بذلك الجارحَ ، وقالوا معنى الاَية : فمن تصدّق بما وجب له من قَوَدَ أو قصاص على من وجب ذلك له عليه ، فعفا عنه ، فعفوه ذلك عن الجاني كفارة لذنب الجاني المجرم ، كما القصاص منه كفارة له قالوا : فأما أجر العافي المتصدّق فعلى الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : كفارة للجارح ، وأجر الذي أصبب على الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا يونس ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت مجاهدا يقول لأبي إسحاق : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهه فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يا أبا إسحاق ؟ قال أبو إسحاق : للمتصدّق . فقال مجاهد : للمذنب الجارح .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : قال مغيرة ، قال مجاهد : للجارح .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا هناد وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ومجاهد : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قالا : الذي تصدّق عليه ، وأجر الذي أصبيب على الله . قال هناد في حديثه ، قالا : كفارة للذي تصدّق به عليه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد بن حميد ، عن منصور ، عن مجاهد بنحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن زكريا ، عن عامر ، قال : كفارة لمن تصدق به عليه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وإبراهيم ، قالا : كفارة للجارج ، وأجر الذي أصيب على الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، قال : سمعت زيد أسلم يقول : إن عفا عنه أو اقتصّ منه ، أو قبل منه الدية ، فهو كفارة له .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : كفارة للجارح وأجر للعافي ، لقوله : فَمَنْ عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ على اللّهِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : كفارة للمتصدّق عليه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، قال : حدثنا حصين ، عن ابن عباس : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : هي كفارة للجارح .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهه فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : فالكفارة للجارح ، وأجر المتصدّق على الله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، أنه كان يقول : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يقول : للقاتل ، وأجر للعافي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عمران بن ظبيان ، عن عديّ بن ثابت ، قال : هُتِم رجل على عهد معاوية ، فأُعطي دية فلم يقبل ، ثم أُعطي ديتين فلم يقبل ، ثم أُعطي ثلاثا فلم يقبل . فحدّث رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قوله : «فمن تَصَدّقَ بِدَمٍ فما دُونَهُ ، كانَ كَفّارَةً له مِنْ يَوْمِ تَصَدّقَ إلى يَوْمِ وُلِدَ » . قال : فتصدّق الرجل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : والجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يقول : من جُرح فتصدّق بالذي جرح به على الجارح ، فليس على الجارح سبيل ولا قود ولا عقل ولا جرح عليه من أجل أنه تصدّق عليه الذي جرح ، فكان كفارة له من ظلمه الذي ظلم .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عني به : فمن تصدّق به فهو كفارة له المجروح ، فلأن تكون الهاء في قوله «له » عائدة على من أولى من أن تكون من ذكر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح وأحرى ، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدّق عليه في سائر الصدقات غير هذه ، فالواجب أن يكون سبيل هذه سبيل غيرها من الصدقات .
فإن ظنّ ظانّ أن القصاص إذ كان يكفر ذنب صاحبه المقتصّ منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلما ، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أخذ البيعة على أصحابه : «أنْ لا تَقْتُلُوا وَلا تَزْنُوا وَلا تَسْرِقوا » ثم قال : «فَمَنْ فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ حَدّهُ ، فَهُوَ كَفّارَتُه » . فالواجب أن يكون عفو العافي المجني عليه أو وليّ المقتوقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفهُ بالواجب له من الحدّ كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، ومعصيته التي أتاها ، وذلك ما لا نعلم قائلاً من أهل العلم يقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفهُ بالواجب له من الحدّ كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذ الجارح بحقه من القصاص كفارة للجارح من ذنبه الذي ركبه .
فإن قال قائل : أو ليس لمجروح عندكقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفهُ بالواجب له من الحدّ كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذ الجارح بحقه من القصاص كفارة للجارح من ذنبه الذي ركبه .
فإن قال قائل : أو ليس لمجروح عندك أخذ جارحه بدية جرحه مكان القصاص ؟ قيل له : بلى . فإن قال : أفرأيت لو اختار الدية ثم عفا عنها ، أكانت له قِبَله في الاَخرة تبعة ؟ قيل له : هذا كلام عندنا محال ، وذلك أنه لا يكون عندنا مختار الدية إلا وهو لها آخذ . فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم . وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غير هذا بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع . إلا أن يكون مرادا بذلك هبتها لمن أخذت منه بعد الأخذ ، مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صحّ لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفوّ له عنها بريئا من عقوبة ذنبه عند الله لأن الله تعالى ذكره أو عد قاتل المؤمن بما أوعده به ، إن لم يتب من ذنبه ، والدية مأخوذة منه ، أحبّ أم سَخِط ، والتوبة من التائب إنما تكون توبة إذا اختارها وأرادها وآثرها على الإصرار . فإن ظنّ ظانّ أن ذلك وإن كان كذلك ، فقد يجب أن يكون له كفارة كما جاز القصاص كفّارة فإنا إنما جعلنا القصاص له كفّارة مع ندمه وبذله نفسه لأخذ الحقّ منها تنصلاً من ذنبه ، بخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم . فأما الدية إذا اختارها المجروح ثم عفا عنها فلم يُقْض عليه بحدّ ذنبه ، فيكون ممن دخل في حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله : «فمن أُقيم عليه الحَدّ فهو كَفّارَتُهُ » . ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك ، الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : «فمن تَصَدّق بدَمٍ » ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل . وقد يجوز أن يكون القائلون أنه عنى بذلك الجارح ، أرادوا المعنى الذي ذكر عن عروة بن الزبير ، الذي :
حدثني به الحرث بن محمد ، قال : حدثنا ابن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : إذا أصاب رجل رجلاً ولا يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب ، قال : وكان مجاهد يقول عند هذا : أصاب عروة ابن الزبير عين إنسان عند الركن فيما يستلمون ، فقال له : يا هذا أنا عروة بن الزبير ، فإن كان بعينك بأس فأنا بها .
وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعل على غير عمد ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه فعفا له المصاب بذلك عن حقه قبله ، فلا تبعة له حينئذٍ قبل المصيب في الدنيا ولا في الاَخرة لأن الذي كان وجب له قبله مال لا قصاص وقد أبرأه منه ، فإبراؤه منه كفّارة له من حقه الذي كان له أخذه به ، فلا طلبة له بسبب ذلك قبله في الدنيا ولا في الاَخرة ، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه من أصابه ، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به فيكون بفعله إنما يستحقّ به العقوبة من ربه لأن الله عزّ وجلّ قد وضع الجُناح عن عباده فيما أخطئوا فيه ولم يتعمدوه من أفعالهم ، فقال في كتابه : لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما أخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ . وقد يراد في هذا الموضع بالدم : العفو عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ لمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ .
يقول تعالى ذكره : ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوارة من قود النفس القائلة قصاصا بالنفس المقتولة ظلما . ولم يفقأ عين الفاقيء بعين المفقوءة ظلما قصاصا ممن أمه الله به بذلك في كتابه ، ولكن أقاد من بعض ولم يُقِد من بعض ، أو قتل في بعضِ اثنين بواحد ، وإن من يفعل ذلك من الظالمين ، يعني ممن جاء على حكم الله ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعا .
{ وكتبنا عليهم وفرضنا على اليهود . { فيها } في التوراة . { أن النفس بالنفس } أي أن النفس تقتل بالنفس . { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن } رفعها الكسائي على أنها جمل معطوفة على أن وما في حيزها باعتبار المعنى وكأنه قيل : وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، والعين بالعين ، فإن الكتابة والقراءة تقعان على الجمل كالقول ، أو مستأنفة ومعناها : وكذلك العين مفقوءة بالعين ، والأنف مجدوعة بالأنف ، والأذن مصلومة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن ، أو على أن المرفوع منها معطوف على المستكن في قوله بالنفس ، { وإنما ساغ لأنه في الأصل مفصول عنه بالطرف ، والجار والمجرور حال مبينة للمعنى ، وقرأ نافع { والأذن بالأذن } وفي أذنيه بإسكان الذال حيث وقع . { والجروح قصاص } أي ذات قصاص ، وقرأه الكسائي أيضا بالرفع ووافقه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر على أنه إجمال للحكم بعد التفضيل . { فمن تصدق } من المستحقين . { به } بالقصاص أي فمن عفا عنه . { فهو } فالتصدق . { كفارة له } للمتصدق يكفر الله به ذنوبه . وقيل للجاني يسقط عنه ما لزمه . وقرئ " فهو كفارته له " أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء . { ومن لم يحكم بما أنزل الله } من القصاص وغيره . { فأولئك هم الظالمون } .
«الكتب » في هذه الآية هو حقيقة كتب في الألواح ، وهو بالمعنى كتب فرض وإلزام ، والضمير في { عليهم } لبني إسرائيل وفي { فيها } للتوراة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { أن النفس بالنفس } بنصب النفس على اسم { أن } وعطف ما بعد ذلك منصوباً على { النفس } ويرفعون «والجروحُ قصاص » على أنها جملة مقطوعة . وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كله . و { قصاص } خبر { أن } وروى الواقدي عن نافع أنه رفع «والجروحُ » وقرأ الكسائي «أن النفسَ بالنفس » نصباً ورفع ما بعد ذلك ، فمن نصب «والعينَ » جعل عطف الواو مشركاً في عمل «أن » ولم يقطع الكلام مما قبله . ومن رفع «والعينُ » فيتمثل ذلك من الاعراب أن يكون قطع مما قبل ، وصار عطف الواو عطف جملة كلام لا عطف تشريك في عامل ، ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على المعنى لأن معنى قوله : { وكتبنا عليهم أن النفس بالنفس } قلنا لهم النفس بالنفس ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى : { يطاف عليهم بكأس من معين }{[4563]} يمنحون كأساً من معين عطف وحوراً عيناً على ذلك ، ويحتمل أن يعطف قوله { والعين } على الذكر المستتر{[4564]} في الطرق الذي هو الخبر ، وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في قوله تعالى : { إنه يراكم هو قبيلة من حيث لا ترونهم }{[4565]} وقد جاء مثله غير مؤكد في قوله تعالى : { ما أشركنا ولا آباؤنا }{[4566]} .
قال القاضي أبو محمد : ولسيبويه رحمه الله في هذه الآية أن العطف ساغ دون توكيد بضمير منفصل لأن الكلام طال ب { لا } في قوله : { ولا آباؤنا } فكانت { لا } عوضاً من التوكيد كما طال الكلام في قولهم حضر القاضي اليوم امرأة ، قال ابو علي : وهذا إنما يستقيم أن يكون عوضاً إذا وقع قبل حرف العطف فهناك يكون عوضاً من الضمير الواقع قبل حرف العطف ، فأما إذا وقع بعد حرف العطف فلا يسد مسد الضمير ، ألا ترى أنك قلت حضر امرأة القاضي اليوم ، لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه .
قال القاضي أبو محمد : وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم فإنه بعد حرف العطف مؤثر لا سيما في هذه الآية ، لأن { لا } ربطت المعنى إذ قد تقدمها نفي ، ونفت هي أيضاً عن الآباء فتمكن العطف ، قال أبو علي ومن رفع «والجروحُ قصاص » فقطعه مما قبله فإن ذلك يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي احتملها رفع [ والعين ] ويجوز أن يستأنف : [ والجروح ] ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة ، لكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة .
ويقوي أنه من المكتوب عليهم نصُب من نصبه . وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ «أنْ النفسُ بالنفس » بتخفيف «أن » ورفع «النفسُ » ثم رفع ما بعدها إلى آخر الآية . وقرأ أبيّ بن كعب بنصب «النفس » وما بعدها ثم قرأ : «وأن الجروح قصاص » بزيادة «أن » الخفيفة ورفع «الجروحُ » .
ومعنى هذه الآية الخبر بأن الله تعالى كتب فرضاً على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ، ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه . ومضى عليه إجماع الناس ، وذهب قوم من العلماء إلى تعميم قوله : { النفس بالنفس } فقتلوا الحر بالعبد والمسلم بالذمي ، والجمهور على أنه عموم يراد به الخصوص في المتماثلين . وهذا مذهب مالك وفيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يقتل مسلم بكافر »{[4567]} وقال ابن عباس رضي الله عنه : رخص الله لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزز بعضهم على بعض وكون بني النضير على الضعف في الدية من بني قريظة أو على أن لا يقاد بينهم بل يقنع بالدية ، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية وأعلم أنهم خالفوا كتابهم ، وحكى الطبري عن ابن عباس : كان بين حيين من الأنصار قتال فصارت بينهم قتلى وكان لأحدهما طول على الآخر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الحر بالحر والعبد بالعبد{[4568]} . قال الثوري : وبلغني عن ابن عباس أنه قال ثم نسختها { النفس بالنفس } .
قال القاضي أبو محمد : وكذلك قوله تعالى : { والجروح قصاص } هو عموم يراد به الخصوص في جراح القود ، وهي التي لا يخاف منها على النفس ، فأما ما خيف منه كالمأمومة{[4569]} وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها . و «القصاص » مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه . فكأن الجاني يقتص أثره ويتبع فيما سنه فيقتل كما قتل ، وقوله تعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } يحتمل ثلاثة معان ، أحدها أن تكون «من » للجروح أو ولي القتيل . ويعود الضمير في قوله : { له } عليه أيضاً ، ويكون المعنى أن من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفا عن حقه في ذلك فإن ذلك العفو كفارة له عن ذنوبه ويعظم الله أجره بذلك ويكفر عنه ، وقال بهذا التأويل عبد الله بن عمر وجابر بن زيد وأبو الدرداء وذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول :«ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة{[4570]} » ، وذكر مكي حديثاً من طريق الشعبي أنه يحط من ذنوبه بقدر ما عفا من الدية والله أعلم .
وقال به أيضاً قتادة والحسن ، والمعنى الثاني أن تكون «من » للجروح أو ولي القتيل ، والضمير في { له } يعود على الجارح أو القاتل إذا تصدق المجروح أو على الجارح بجرحه وصح عنه : فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب ، فكما أن القصاص كفارة فكذلك العفو كفارة ، وأما أجر العافي فعلى الله تعالى ، وعاد الضمير على من لم يتقدم له ذكر لأن المعنى يقتضيه ، قال بهذا التأويل ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي ومجاهد وإبراهيم وعامر الشعبي وزيد بن أسلم ، والمعنى الثالث أن تكون للجارح أو القاتل والضمير في { له } يعود عليه أيضاً ، والمعنى إذا جنى جان فجهل وخفي أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن الحق من نفسه فذلك الفعل كفارة لذنبه ، وذهب القائلون بهذا التأويل إلى الاحتجاج بأن مجاهداً قال إذا أصاب رجل رجلاً ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب ، وروي أن عروة بن الزبير أصاب عين إنسان عند الركن وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير . فإن كان بعينك بأس فأنا بها .
قال القاضي أبو محمد : وانظر َأن { تصدق } على هذا التأويل يحتمل أن يكون من الصدقة ومن الصدق ، وذكر مكي بن أبي طالب وغيره أن قوماً تأولوا الآية أن المعنى { والجروح قصاص } فمن أعطى دية الجرح وتصدق بذلك فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل قلق . وقد تقدم القول على قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله } الآية . وفي مصحف أبيّ بن كعب «ومن يتصدق به فإنه كفارة له » .