ثم بين - سبحانه - أن الساعة آتية لا ريب فيها فقال : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا واتبع هَوَاهُ فتردى } .
أى : إن الساعة التى هى وقت البعث والحساب والثواب والعقاب ، آتية أى : كائنة وحاصلة لا شك فيها .
وقوله { أَكَادُ أُخْفِيهَا } أى : أقرب أن أخفى وقتها ولا أظهره لا إجمالا ولا تفصيلا ، ولولا أن فى إطلاع أصفيائى على بعض علاماتها فائدة ، لما تحدثت عنها .
قالوا : " والحكمة فى إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت ، أن الله - تعالى - وعد بعدم قبول التوبة عند قربهما ، فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى قرب ذلك الوقت ثم يتوب ، فيتخلص من عقاب المعصية فتعريف الموت كالإغراء بفعل المعصية ، وهو لا يجوز .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } أقرب أن أخفى الساعة ولا أظهرها ، بأن أقول إنها آتية . . . أو أريد إخفاء وقتها المعين وعدم إظهاره . . . فكاد بمعنى أراد ، وإلى هذا ذهب الأخفش وغيره . . . وروى عن ابن عباس أن المعنى : أكاد أخفيها من نفسى ، فكيف أظهركم عليها . . وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا أراد المبالغة فى كتمان الشىء قال : كدت أخفيه عن نفسى .
وقال أبو على : المعنى أكاد أظهرها بأن أوقعها ، وهذا بناء على أن أخفيها من ألفاظ السلب بمعنى أزيل خفاءها . . .
ويبدو لنا أن الإخفاء هنا على حقيقته ، وأن المقصود من الآية الكريمة إخفاء وقت مجىء الساعة من الناس ، حتى يكونوا على استعداد لمجيئها عن طريق العمل الصالح الذى ينفعهم يوم القيامة .
فحكمة الله - تعالى - اقتضت إخفاء وقت الساعة ، وعدم إطلاع أحد عليها إلا بالمقدار الذى يأذن الله - تعالى - به لرسله .
قال الإمام ابن جرير ما ملخصه : " والذى هو أولى بتأويل الآية من القول : قول من قال معناه : أكاد أخفيها من نفسى . . . لأن المعروف من معنى الإخفاء فى كلام العرب : التسر . يقال : قد أخفيت الشىء إذا سترته . . . وإنما اخترنا هذا القول على غيره لموافقته أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين .
وقوله : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } متعلق بآتية ، وجملة { أَكَادُ أُخْفِيهَا } معترضة بينهما .
أى : إن الساعة آتية لا ريب فيها ، لكى تجزى كل نفس على حسب سعيها وعملها فى الدنيا .
قال - تعالى - : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } وقال - سبحانه - : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }
فأما الساعة فهي الموعد المرتقب للجزاء الكامل العادل ، الذي تتوجه إليه النفوس فتحسب حسابه ؛ وتسير في الطريق وهي تراقب وتحاسب وتخشى الانزلاق . . والله سبحانه يؤكد مجيئها : ( إن الساعة آتية )وأنه يكاد يخفيها . فعلم الناس بها قليل لا يتجاوز ما يطلعهم عليه من أمرها بقدر ما يحقق حكمته من معرفتهم ومن جهلهم . . والمجهول عنصر أساسي في حياة البشر وفي تكوينهم النفسي . فلا بد من مجهول في حياتهم يتطلعون إليه . ولو كان كل شيء مكشوفا لهم - وهم بهذه الفطرة - لوقف نشاطهم وأسنت حياتهم . فوراء المجهول يجرون . فيحذرون ويأملون ، ويجربون ويتعلمون . ويكشفون المخبوء من طاقاتهم وطاقات الكون من حولهم ؛ ويرون آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق ؛ ويبدعون في الأرض بما شاء لهم الله أن يبدعوا . . وتعليق قلوبهم ومشاعرهم بالساعة المجهولة الموعد ، يحفظهم من الشرود ، فهم لا يدرون متى تأتي الساعة ، فهم من موعدها على حذر دائم وعلى استعداد دائم . ذلك لمن صحت فطرته واستقام .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىَ * فَلاَ يَصُدّنّكَ عَنْهَا مَن لاّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىَ } .
يقول تعالى ذكره : إن الساعة التي يبعث الله فيها الخلائق من قبورهم لموقف القيامة جائية أكادُ أُخْفِيها . فعلى ضمّ الألف من أخفيها قراءة جميع قرّاء أمصار الإسلام ، بمعنى : أكاد أخفيها من نفسي ، لئلا يطلع عليها أحد ، وبذلك جاء تأويل أكثر أهل العلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " أكادُ أُخْفِيها " يقول : لا أظهر عليها أحدا غيري .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " إنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أُخْفِيها " قال : لا تأتيكم إلاّ بغتة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد " إنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أُخْفِيها " قال : من نفسي .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " أكادُ أُخْفِيها " قال : من نفسي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس " أكادُ أُخْفِيها " قال : من نفسي .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : " أكادُ أُخْفِيها " قال : يخفيها من نفسه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : " أكادُ أُخْفِيها " وهي في بعض القراءة : «أخفيها من نفسي » . ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقرّبين ، ومن الأنبياء المرسلين .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قال : في بعض الحروف : «إنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أُخْفِيها مِنْ نَفْسِي » .
وقال آخرون : إنما هو : «أكادُ أَخْفِيها » بفتح الألف من أَخفيها بمعنى : أظهرها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا محمد بن سهل ، قال : سألني رجل في المسجد عن هذا البيت .
دَابَ شَهْرَيْنِ ثُمّ شَهْرا دَمِيكا *** بِأرِيكَيْنِ يَخْفيانِ غَمِيرا
فقلت : يظهران ، فقال ورقاء بن إياس وهو خلفي : أقرأنيها سعيد بن جبير : «أكادُ أَخْفِيها » بنصب الألف .
وقد رُوي عن سعيد بن جبير وفاق لقول الاَخرين الذين قالوا : معناه : أكاد أخفيها من نفسي . ذكر الرواية عنه بذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ومنصور ، عن مجاهد ، قالا إنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أُخْفِيها قالا : من نفسي .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير أكادُ أُخْفِيها قال : من نفسي .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل الاَية من القول ، قول من قال : معناه : أكاد أخفيها من نفسي ، لأن تأويل أهل التأويل بذلك جاء . والذي ذُكر عن سعيد بن جبير من قراءة ذلك بفتح الألف قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها قراءة الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به نقلاً مستفيضا .
فإن قال قائل : ولم وجهت تأويل قوله أكادُ أُخْفِيها بضم الألف إلى معنى : أكاد أخفيها من نفسي ، دون توجيهه إلى معنى : أكاد أظهرها ، وقد علمت أن للإخفاء في كلام العرب وجهين : أحدهما الإظهار ، والاَخر الكتمان وأن الإظهار في هذا الموضع أشبه بمعنى الكلام ، إذ كان الإخفاء من نفسه يكاد عند السامعين أن يستحيل معناه ، إذ كان محالاً أن يخفي أحد عن نفسه شيئا هو به عالم ، والله تعالى ذكره لا تخفى عليه خافية ؟ قيل : الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت ، وإنما وجّهنا معنى أُخْفِيها بضمّ الألف إلى معنى : أسترها من نفسي ، لأن المعروف من معنى الإخفاء في كلام العرب : الستر . يقال : قد أخفيت الشيء : إذا سترته . وأن الذين وجّهوا معناه إلى الإظهار ، اعتمدوا على بيت لامرىء القيس ابن عابس الكندي .
حُدثت عن معمر بن المثنى أنه قال : أنشدنيه أبو الخطاب ، عن أهله في بلده :
فإنْ تُدْفِنُوا الدّاءَ لا نُخْفِهِ *** وإنْ تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدُ
بضمّ النون من لا نخفه ، ومعناه : لا نظهره ، فكان اعتمادهم في توجيه الإخفاء في هذا الموضع إلى الإظهار على ما ذكروا من سماعهم هذا البيت ، على ما وصفت من ضم النون من نخفه . وقد أنشدني الثقة عن الفرّاء :
*** فإنْ تَدْفِنُوا الدّاءَ لا نَخْفِهِ ***
بفتح النون من نخفه ، من خفيته أخفيه ، وهو أولى بالصواب لأنه المعروف من كلام العرب . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الفتح في الألف من أَخفيها غير جائز عندنا لما ذكرنا ، ثبت وصحّ الوجه الاَخر ، وهو أن معنى ذلك : أكاد استرها من نفسي .
وأما وجه صحة القول في ذلك ، فهو أن الله تعالى ذكره خاطب بالقرآن العرب على ما يعرفونه من كلامهم وجرى به خطابهم بينهم فلما كان معروفا في كلامهم أن يقول أحدهم إذا أراد المبالغة في الخبر عن إخفائه شيئا هو له مسرّ : قد كدت أن أخفي هذا الأمر عن نفسي من شدّة استسراري به ، ولو قدرت أخفيه عن نفسي أخفيته ، خاطبهم على حسب ما قد جرى به استعمالهم في ذلك من الكلام بينهم ، وما قد عرفوه في منطقهم . وقد قيل في ذلك أقوال غير ما قلنا ، وإنما اخترنا هذا القول على غيره من الأقوال لموافقة أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين ، إذ كنا لا نستجيز الخلاف عليهم ، فيما استفاض القول به منهم ، وجاء عنهم مجيئا يقطع العذر . فأما الذين قالوا في ذلك غير قولنا ممن قال فيه على وجه الانتزاع من كلام العرب ، من غير أن يعزوه إلى إمام من الصحابة أو التابعين ، وعلى وجه يحتمل الكلام غير وجهه المعروف ، فإنهم اختلفوا في معناه بينهم ، فقال بعضهم : يحتمل معناه : أريد أخفيها قال : وذلك معروف في اللغة . وذُكر أنه حُكي عن العرب أنهم يقولون : أولئك أصحابي الذين أكاد أنزل عليهم ، وقال : معناه : لا أنزل إلاّ عليهم . قال : وحُكي : أكاد أبرح منزلي : أي ما أبرح منزلي ، واحتجّ ببيت أنشده لبعض الشعراء :
كادَتْ وكِدْتُ وَتِلكَ خَيْرُ إرَادَةٍ *** لَوْ عادَ مِنْ عَهْد الصّبابَةِ ما مَضَى
وقال : يريد : بكادت : أرادت قال : فيكون المعنى : أريد أخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى . قال : ومما يُشبه ذلك قول زيد الخيل :
سَرِيعٌ إلى الهَيْجاءِ شاكٍ سِلاحُهُ *** فَمَا إنْ يَكادُ قِرْنُهُ يَتَنَفّسُ
وقال : كأنه قال : فما يتنفس قرنه ، وإلا ضعف المعنى قال : وقال ذو الرّمّة :
إذا غَيّرَ النّأْيُ المُحِبّينَ لَمْ يَكَدْ *** رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبّ مَيّةَ يَبْرَحُ
قال : وليس المعنى : لم يكد يبرح : أي بعد يُسر ، ويبرح بعد عُسر وإنما المعنى : لم يبرح ، أو لم يرد يبرح ، وإلا ضعف المعنى قال : وكذلك قول أبي النجم :
وَإنْ أتاكَ نَعِيّ فانْدُبَنّ أبا *** قَدْ كادَ يَضْطَلِعُ الأعْداءَ والخُطَبَا
وقال : يكون المعنى : قد اضطلع الأعداء ، وإلاّ لم يكن مدحا إذا أراد كاد ولم يرد يفعل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن الساعة آتية أكاد ، قال : وانتهى الخبر عند قوله أكاد لأن معناه : أكاد أن آتي بها قال : ثم ابتدأ فقال : ولكني أخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى . قال : وذلك نظير قول ابن ضابىء :
هَمَمْتُ ولَمْ أفْعَلْ وكِدْتُ ولَيْتَنِي *** تَرَكْتُ على عُثمانَ تَبْكِي أقارِبُهُ
فقال : كدت ، ومعناه : كدت أفعل .
وقال آخرون : معنى أُخفيها : أظهرها ، وقالوا : الإخفاء والإسرار قد توجههما العرب إلى معنى الإظهار ، واستشهد بعضهم لقيله ذلك ببيت الفرزدق :
فَلَمّا رأى الحَجّاجَ جَرّدَ سَيْفَهُ *** أسَرّ الحَرُورِيّ الّذِي كانَ أضْمَرَا
وقال : عَنَى بقوله : أسرّ : أظهر . قال : وقد يجوز أن يكون معنى قوله : وأسَرّوا النّدَامَةَ : أظهروها . قال : وذلك أنهم قالوا : يا لَيْتَنا نُرَدّ وَلا نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنا . وقال جميع هؤلاء الذين حكينا قولهم جائز أن يكون قول من قال : معنى ذلك : أكاد أخفيها من نفسي ، أن يكون أراد : أخفيها من قِبلي ومن عندي . وكلّ هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرنا توجيه منهم للكلام إلى غير وجهه المعروف ، وغير جائز توجيه معاني كلام الله إلى غير الأغلب عليه من وجوهه عند المخاطبين به ، ففي ذلك مع خلافهم تأويل أهل العلم فيه شاهد عدل على خطأ ما ذهبوا إليه فيه .
وقوله : " لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى " يقول تعالى ذكره : إن الساعة آتية لتجزى كلّ نفس يقول : لتثاب كلّ نفس امتحنها ربها بالعبادة في الدنيا بما تسعى ، يقول : بما تعمل من خير وشرّ ، وطاعة ومعصية .