88- هذا شأن شعيب في دعوته قومه ، أما القوم فقد تمالأوا على الباطل ، وتولى أكابرهم الذين استكبروا عن الدعوة ، واستنكفوا أن يتبعوا الحق ، وواجهوا شعيباً بما يضمرون ، فقالوا له : إنا لا محالة سنخرجك ومن آمن معك من قريتنا ، ونطردكم ، ولا ننجيكم من هذا العذاب إلا أن تصيروا في ديننا الذي هجرتموه . فرد عليهم شعيب - عليه السلام - قائلا : أنصير في ملتكم ونحن كارهون لها لفسادها ؟ لا يكون ذلك أبداً .
ولقد كان من المنتظر أن يتقبل قوم شعيب هذه المواعظ تقبلا حسنا ، وأن يصدقوه فيما يبلغه عن ربه ، ولكن المستكبرين منهم عموا وصموا عن الحق ، واستمع إلى القرآن وهو يحكى موقفهم فيقول : { قَالَ الملأ . . . } .
أى : قال الأشراف المستكبرون من قوم شعيب له رداً على مواعظه لهم : والله لنخرجنك يا شعيب أنت والذين آمنوا معك من قريتنا بغضا لكم ، ودفعا لفتنتكم المترتبة على مساكنتنا ومجاورتنا ، أو لتعودن وترجعن إلى ملتنا وما نؤمن به من تقاليد ورثناها عن آبائنا ومن المستحيل علينا تركها . فعليك يا شعيب أنت ومن معك أن تختاروا لأنفسكم أحد أمرين : الإخراج من قريتنا أو العودة إلى ملتنا .
هكذا قال المترفون المغرورون لشعيب وأتباعه باستعلاء وغلظة وغضب .
وجملة { قَالَ الملأ } إلخ . مستأنفة استئنافا بيانيا ، كأنه قيل : فماذا كان رد قوم شعيب على نصائحه لهم ؟ فكان الجواب : قال الملأ . . . إلخ .
وقد أكدوا قولهم بالجملة القسمية للمبالغة في إفهامه أنهم مصممون على تنفيذ ما يريدونه منه ومن أتباعه .
ونسبوا الإخراج إليه أولا وإلى أتباعه ثانيا ، للتنبيه على أصالته في ذلك ، وأن الذين معه إنما هم تبع له ، فإذا ما خرج هو كان خروج غيره أسهل .
وجملة : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } معطوفة على جملة { لَنُخْرِجَنَّكَ } وهى - أى جملة { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } المقصود الأعظم عندهم ، فهؤلاء المستكبرون يهمهم في المقام الأول أن يعود من فارق ملتهم وديانتهم إليها ثانية .
والتعبير بقولهم : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } يقتضى أن شعيبا ومن معه كانوا على ملتهم ثم خرجوا منها ، وهذا محال بالنسبة لشعيب - عليه السلام - فإن الأنبياء معصومون - حتى قبل النبوة - عن ارتكاب الكبائر فضلا عن الشرك .
وقد أجيب عن ذلك بأن المستكبرين قد قالوا ما قالوا من باب التغليب ، لأنهم لما رأوا أن أتباعه كانوا من قبل ذلك على ملتهم ثم فارقوهم واتبعوا شعيبا ، قالوا لهم : إما أن تخرجوا مع نبيكم الذي اتبعتموه وإما أن تعودوا إلى ملتنا التي سبق أن كنتم فيها ، فأدرجوا شعيبا معهم في الأمر بالعودة إلى ملتهم من باب تغليبهم عليه هنا ، هذا هو الجواب الذي ارتضاه كثير من العلماء وعلى رأسهم صاحب الكشاف ، فقد قال : فإن قلت : كيف خاطبوا شعيبا عليه السلام - بالعود في الكفر في قولهم : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } وكيف أجابهم بقوله : { إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ } والأنبياء - عليهم السلام - لا يجوز عليهم من الصغائر إلا ما ليس فه تنفير ، فضلا عن الكبائر ، فضلا عن الكفر ؟
قلت : قالوا : { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ } فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا : لتعودن فغلب الجماعة على الواحد ، فجعلوهم عائدين جميعاً ، إجراء للكلام على حكم التغليب . وعلى ذلك أجرى شعيب - عليه السلام - جوابه فقال : { إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } وهو يريد عودة قومه ، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئا من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب .
هذا هو الجواب الذي اختاره الزمخشرى وتبعه فيه بعض العلماء ، وهناك أجوبة أخرى ذكرها المفسرون ومنها :
1 - أن هذا القول جار على ظنهم أنه كان في ملتهم ، لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم .
2 - أنه صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس وإيهاماً لهم بأنه كان على دينهم وما صدر عن شعيب - عليه السلام - كان على طريق المشاكلة .
3 - أن قولهم : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } بمعنى : أو لتصيرن ، إذ كثيراً ما يرد " عاد " بمعنى " صار " فيعمل عمل كان . ولا يستدعى الرجوع إلى حالة سابقة ، بل عكس ذلك ، وهو الانتقال من حال سابقة إلى حال مؤتنفة ، وكأنهم قالوا لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتصيرن كفاراً مثلنا " .
قال الإمام الرازى : تقول العرب : قد عاد إلى فلان مكره ، يريدون : قد صار منه المكر ابتداء .
وقال صاحب الانتصاف : إنه يسلم استعمال " العود " بمعنى الرجوع إلى أمر سابق ، ويجاب عن ذلك بمثل الجواب عن قوله - تعالى - : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات } ، والإخراج يستدعى دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه . ونحن نعلم أن المؤمن الناشىء في الإيمان لم يدخل قط في ظلمة الكفر ، ولا كان فيها . وكذلك الكافر الأصلى ، لم يدخل قط في نور الإيمان ولا كان فيه ، ولكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله العبد متيسراً لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده ، فعبر عن تمكن المؤمن من الكفر ثم عدوله إلى الإيمان ، إخباراً بالإخراج من الظلمات إلى النور توفيقا من الله له ، ولطفا به ، وبالعكس في حق الكافر ، وفائدة اختياره في هذه المواضع ، تحقيق التمكن والاختيار ؛ لإقامة حجة الله على عباده " .
هذه بعض الأجوبة التي أجاب بها العلماء على قول شعيب { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } ولعل أرجحها هو الرأى الذي اختاره صاحب الكشاف " لبعده عن التكلف ، واتساقه مع رد شعيب عليهم " . فقد قال لهم :
{ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } . أى : أتجبروننا على العودة إلى ملتكم حتى ولو كنا كارهين لها ، لاعتقادنا أنها باطلة وقبيحة ومنافية للعقول السليمة والأخلاق المستقيمة . لا . لن نعود إليها بأى حال من الأحوال . فالهمزة لانكار الوقوع ونفيه ، والتعجيب من أحوالهم الغريبة حيث جهلوا أن الدخول في العقائد اختيارى محض ، ولا ينفع فيه الاجبار أو الاكراه .
ولكن الطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان في الأرض وجود ممثل في جماعة من الناس لا تدين للطاغوت . . إن وجود جماعة مسلمة في الأرض ، لا تدين إلا للّه ، ولا تعترف بسلطان إلا سلطانه ، ولا تحكم في حياتها شرعاً إلا شرعه ، ولا تتبع في حياتها منهجاً إلا منهجه . . إن وجود جماعة مسلمة كهذه يهدد سلطان الطواغيت - حتى لو انعزلت هذه الجماعة في نفسها ، وتركت الطواغيت لحكم اللّه حين يأتي موعده .
إن الطاغوت يفرض المعركة فرضاً على الجماعة المسلمة - حتى لو آثرت هي ألا تخوض معه المعركة - إن وجود الحق في ذاته يزعج الباطل . وهذا الوجود ذاته هو الذي يفرض عليه المعركة مع الباطل . . إنها سنة اللّه لا بد أن تجري . .
( قال الملأ الذين استكبروا من قومه : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ، أو لتعودن في ملتنا ) .
هكذا في تبجح سافر ، وفي إصرار على المعركة لا يقبل المهادنة والتعايش !
إلا أن قوة العقيدة لا تتلعثم ولا تتزعزع أمام التهديد والوعيد . . لقد وقف شعيب عليه السلام عند النقطة التي لا يملك أن يتزحزح وراءها خطوة . . نقطة المسالمة والتعايش - على أن يترك لمن شاء أن يدخل في العقيدة التي يشاء ؛ وأن يدين للسلطان الذي يشاء : في انتظار فتح اللّه وحكمه بين الفريقين - وما يملك صاحب دعوة أن يتراجع خطوة واحدة وراء هذه النقطة ، تحت أي ضغط أو أي تهديد من الطواغيت . . وإلا تنازل كلية عن الحق الذي يمثله وخانه . . فلما أن تلقى الملأ المستكبرون عرضه هذا بالتهديد بالإخراج من قريتهم أو العودة في ملتهم ، صدع شعيب بالحق ، مستمسكاً بملته ، كارهاً أن يعود في الملة الخاسرة التي أنجاه اللّه منها ، واتجه إلى ربه وملجئه ومولاه يدعوه ويستنصره ويسأله وعده بنصرة الحق وأهله :
قال : أو لو كنا كارهين ؟ قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها . وما يكون لنا أن نعود فيها - إلا أن يشاء اللّه ربنا ، وسع ربنا كل شيء علماً - على اللّه توكلنا . ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الفاتحين . .
وفي هذه الكلمات القلائل تتجلى طبيعة الإيمان ، ومذاقه في نفوس أهله ، كما تتجلى طبيعة الجاهلية ومذاقها الكريه . كذلك نشهد في قلب الرسول ذلك المشهد الرائع . . مشهد الحقيقة الإلهية في ذلك القلب وكيف تتجلى فيه .
يستنكر تلك القولة الفاجرة : ( لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ) . . يقول لهم : أتجبروننا على ما نكره من ملتكم التي نجانا اللّه منها ؟ !
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ الْمَلاُ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنّكَ يَشُعَيْبُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنّا كَارِهِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : قالَ المَلأُ الّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يعني بالملأ : الجماعة من الرجال ، ويعني بالذين استكبروا : الذين تكبروا عن الإيمان بالله والانتهاء إلى أمره واتباع رسوله شعيب لما حذّرهم شعيب بأس الله على خلافهم أمر ربهم ، وكفرهم به . لَنُخْرِجَنّك يا شُعَيْبُ ومن تبعك وصدّقك وآمن بك ، وبما جئت به معك من قريتنا . أو لَتَعُودُنّ في مِلّتِنا يقول : لترجعَنّ أنت وهم في ديننا وما نحن عليه . قال شعيب مجيبا لهم : أَوَ لَوْ كُنّا كارِهِين ؟ .
ومعنى الكلام : أن شعيبا قال لقومه : أتخرجوننا من قريتكم ، وتصدّوننا عن سبيل الله ، ولو كنا كارهين لذلك ؟ ثم أدخلت ألف الاستفهام على واو «أوَ لَوْ » .