28- بيَّن الله لكم مثلا مُنْتزعاً من أنفسكم وقد ضربه الله - عز وجل - لمن جعل له شريكاً من خلقه : هل لكم من عبيدكم شركاء فيما ملّكناكم من الأموال وغيرها ؟ فأنتم وهم مستوون فيها ، تخافون هؤلاء العبيد فلا تتصرفون في شيء مما تملكون دون إذنهم كما يخاف الأحرار بعضهم بعضاً ، فإذا كنتم لا تعقلون هذا ولا تفعلونه ، فكيف تجعلون بعض مملوكات الله شركاء له ؟ مثل هذا التفصيل نبين الآيات لقوم يتدبرون في ضرب الأمثال .
وبعد هذا التطواف المتنوع فى آفاق الأنفس ، وفى أعماق هذا الكون ، ضرب - سبحانه - مثلا لا مجال للجدل فيه ، لوضوحه واعتماده على المنطق السليم ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يمضى فى طرييقه المستقيم ، كما أمر المؤمنين بأن يلتجئوا إليه - سبحانه - وحده وأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضبه ، فقال - تعالى - : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً . . . . لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } .
و { مِّنْ } فى قوله - سبحانه - : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ابتدائية ، والجار والمجرور فى محل نصب ، صفة لقوله : { مَّثَلاً } .
أى : ضرب لكم - أيها الناس - مثلا ، يظهر منه بطلان الشكر ظهورا واضحا ، وهذا المثل كائن من أحوال أنفسكم ، التى هى أقرب شئ لديكم .
قال القرطبى : والآية نزلت فى كفار قريش ، كانوا يقولون فى التلبية : " لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك . . " .
وقوله - تعالى - : { هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } تصوير وتفضيل للمثل ، والاستفهام للإِنكار والنفى . و { مِّن } الأولى للتبعيض ، والثانية لتأكيد النفى ، وقوله { شُرَكَآءَ } مبتدأ ، وخبره { لَّكُمْ } وقوله : { مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } متعلق بمحذوف حال من شركاء .
وقوله : { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } جواب للاستفهام الذى هو بمعنى النفى . والجملة مبتدأ وخبر . وقوله : { تَخَافُونَهُمْ } خبر ثان لأنتم ، وقوله : { كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } صفة لمصدر محذوف ، أى : تخافونهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من هو من نوعكم .
والمعنى : ضرب الله - تعالى - لكم - أيها الناس - مثلا منتزعا من أنفسكم التى هى أقرب شئ إليكم ، وبيان هذا المثل : أنكم لا ترضون أن يشارككم فى أموالاكم التى رزقناكم إياها ، عبيدكم وإماؤكم ، مع أنهم مثلكم فى البشرية ، ونحن الذين خلقناهم كما خلقناكم ، بل إنكم لتخافون على أموالكم منهم ، أن يشاركوكم فيها ، كما تخافون عليها من الأحرار المشابهين لكم فى الحرية وفى جواز التصرف فى تلك الأموال . فإذا كان هذا شأنكم مع عبيدكم - الذين هم مثلكم فى البشرية ، والذين لم تخلقوهم بل نحن الذين خلقناكم وخلقناهم - فكيف أجزتم لأنفسكم أن تشركوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة ، مع أنه - سبحانه - هو الخالق لكم ولهم ، والرازق لكم ولهم ؟ ! !
إن تصرفكم هذا ظاهر التناقض والبطلان ، لأنكم لم ترضوا أن يشارككم غيركم فى أموالكم ، ورضيتم أن تشركوا مع الله - تعالى - : غيره فى العبادة ، مع أنه - سبحانه - هو الخالق والرازق لكل شئ .
فالمقصود من الآية الكريمة ، إبطال الشرك بأبلغ أسلوب ، وأوضح بيان ، وأصدق حجة ، وأقوى دليل .
ولذا ختمها - سبحانه - بقوله : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أى : مثل ذلك التفصيل الجلى الواضح ، نفصل الآيات الدالة على وحدانيتنا ، لقوم يعقلون هذه الأمثال ، وينتفعون بها فى إخلاص العبادة لله الواحد القهار .
قال الإِمام القرطبى : قال بعض العلماء : هذه الآية أصل فى الشركة بين المخلوقين ، لافتقار بعضهم إلى بعض ، ونفيها عن الله - سبحانه - وذلك أنه قال - سبحانه - : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } فيجب أن يقولوا : ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا ، فيقال لهم : فكيف يتصور أن تنزهوا أنفسكم عن مشاركة عبيدكم ، وتجعلوا عبيدى شركائى فى خلقى ، فهذا حكم فاسد ، وقلة نظر وعمى قلب ! !
فإذا أبطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة ، والخلق كلهم عبدي الله - تعالى - فيبطل أن يكون شئ من العالم شركا لله - تعالى - فى شئ من أفعاله .
ثم قال - رحمه الله - : وهذه المسألة أفضل للطالب ، من حفظ ديوان كامل فى الفقه ، لأن جميع العبادات البدنية ، لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة فى القلب فافهم ذلك .
وعندما تنتهي تلك الجولة التي طوف فيها القلب البشري بتلك الآفاق والآماد ، والأعماق والأغوار ، والظواهر والأحوال ، يواجهه سياق السورة بإيقاع جديد :
ضرب لكم مثلا من أنفسكم : هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم . فأنتم فيه سواء ، تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ? كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون . .
ضرب هذا المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقا من خلقه : جنا أو ملائكة أو أصناما وأشجارا . وهم لا يرتضون أن يشاركهم مواليهم في شيء مما تحت أيديهم من مال . ولا يسوون عبيدهم بأنفسهم في شيء من الاعتبار . فيبدو أمرهم عجبا . يجعلون لله شركاء من عبيده وهو الخالق الرازق وحده . و يأنفون أن يجعلوا لأنفسهم من عبيدهم شركاء في مالهم . ومالهم ليس من خلقهم إنما هو من رزق الله . وهو تناقض عجيب في التصور والتقدير .
وهو يفصل لهم هذا المثل خطوة خطوة : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم )ليس بعيدا عنكم ولا يحتاج إلى رحلة أو نقلة لملاحظته وتدبره . . ( هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء ? ) . . وهم لا يرضون أن يشاركهم ما ملكت أيمانهم في شيء من الرزق فضلا على أن يساووهم فيه ( تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) . . أي تحسبون حسابهم معكم كما تحسبون حساب الشركاء الأحرار ، وتخشون أن يجوروا عليكم ، وتتحرجوا كذلك من الجور عليهم ، لأنهم أكفاء لكم وأنداد ? هل يقع شيء من هذا في محيطكم القريب وشأنكم الخاص ? وإذا لم يكن شيء من هذا يقع فكيف ترضونه في حق الله وله المثل الأعلى ?
وهو مثل واضح بسيط حاسم لا مجال للجدل فيه ، وهو يرتكن إلى المنطق البسيط وإلى العقل المستقيم : ( كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ) . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.