ثم حكى - سبحانه - الأسباب التى منعت بعض الناس من الإِيمان فقال : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً } .
والمراد بالناس : كفار مكة ومن حذا حذوهم فى الشرك والضلال والمراد بسنة الأولين : ما أنزله - سبحانه - بالأمم السابقة من عذاب بسبب إصرارها على الكفر والجحود .
والمعنى : وما منع الكفار من الإِيمان وقت أن جاءهم الهدى عن طريق نبيهم صلى الله عليه وسلم ومن أن يستغفروا ربهم من ذنوبهم ، إلا ما سبق فى علمنا ، من أنهم لا يؤمنون ، بل يستمرون على كفرهم حتى تأتيهم سنة الأولين ، أى : سنتنا فى إهلاكهم بعذاب الاستئصال بسبب إصرارهم على كفرهم .
ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف ، و " أن " وما بعدها فى قوله { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ } فى تأويل فاعل الفعل { منع } .
والمعنى : وما منع الناس من الإيمان والاستغفار وقت مجئ الهدى إليهم ، إلا طلب إتيان سنة الأولين ، كأن يقولوا - كما حكى الله - تعالى - عن بعضهم : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فسنة الأولين أنهم طلبوا من أنبيائهم تعجيل العذاب ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر .
وقوله : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً } بيان لعذاب آخر ينتظرونه .
وكلمة { قُبُلا } قرأها عاصم والكسائى وحمزة - بضم القاف والباء - على أنها جمع قبيل وهو النوع فيكون المعنى : أو يأتيهم العذاب على صنوف وأنواع مختلفة ، ومن جهات متعددة يتلو بعضها بعضا .
وقرأها الباقون : { قِبَلا } - بكسر القاف وفتح الباء - بمعنى عيانا ومواجهة .
والمعنى : أو يأتيهم العذاب عيانا وجهارا ، وأصله من المقابلة ، لأن المتقابلين يعاين ويشاهد كل منهما الآخر .
وهى على القراءتين منصوبة على الحالية من العذاب .
فحاصل معنى الآية الكريمة أن هؤلاء الجاحدين لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا حين نزول العذاب الدنيوى بهم وهو ما اقتضته سنة الله - تعالى - فى أمثالهم ، أو حين نزول أصناف العذاب بهم فى الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤْمِنُوَاْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىَ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبّهُمْ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنّةُ الأوّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً } .
يقول عزّ ذكره : وما منع هؤلاء المشركين يا محمد الإيمان بالله إذ جاءهم الهدى بيان الله ، وعلموا صحة ما تدعوهم إليه وحقيقته ، والاستغفار مما هم عليه مقيمون من شركهم ، إلا مجيئهم سنتنا في أمثالهم من الأمم المكذبة رسلها قبلهم ، أو إتيانهم العذاب قُبُلا .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أو يأتيهم العذاب فجأة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : أوْ يَأتِيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً قال فجأة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : معناه : أو يأتيهم العذاب عيانا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله أوْ يَأتِيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً قال : قبلاً معاينة ذلك القبل .
وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة ذات عدد أوْ يَأْتِيَهُمْ العَذَابُ قُبُلاً بضمّ القاف والباء ، بمعنى أنه يأتيهم من العذاب ألوان وضروب ، ووجهوا القُبُل إلى جمع قبيل ، كما يُجمع القتيل القُتُل ، والجديد الجُدُد . وقرأ جماعة أخرى : «أوْ يَأْتِيَهُمْ العَذَابُ قِبَلاً » بكسر القاف وفتح الباء ، بمعنى أو يأتيهم العذاب عيانا من قولهم : كلمته قِبَلاً . وقد بيّنت
القول في ذلك في سورة الأنعام بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
عطف على جملة { ولقد صرفنا في هذا القرآن } [ الكهف : 54 ] الخ . ومعناها متصل تمام الاتصال بمعنى الجملة التي قبلها بحيث لو عطفت عليها بفاء التفريع لكان ذلك مقتضى الظاهر وتعتبر جملة { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } [ الكهف : 54 ] معترضة بينهما لولا أن في جعل هذه الجملة مستقلة بالعطف اهتماماً بمضمونها في ذاته ، بحيث يعدّ تفريعه على مضمون التي قبلها يحيد به عن الموقع الجدير هُو به في نفوس السامعين إذ أريد أن يكون حقيقة مقررة في النفوس . ولهذه الخصوصية فيما أرى عُدل في هذه الجملة عن الإضمار إلى الإظهار بقوله : وما منع الناس } وبقوله : { إذ جاءهم الهدى } دون أن يقول : وما منعهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى قصداً لاستقلال الجملة بذاتها غير مستعانة بغيرها ، فتكون فائدة مستقلة تسْتأهل توجه العقول إلى وعيها لذاتها لا لأنها فرع على غيرها .
على أن عموم { الناس } هنا أشمل من عموم لفظ { الناس } في قوله : { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس } [ الكهف : 54 ] فإن ذلك يعم الناس الذين يسمعون القرآن في أزمان ما بعد نزول تلك الآية ، وهذا يعم الناس كلهم الذين امتنعوا من الإيمان بالله .
وكذلك عموم لفظ { الهدى } يشمل هدى القرآن وما قبله من الكتب الإلهية وأقوال الأنبياء كلها ، فكانت هذه الجملة قياساً تمثيلياً بشواهد التاريخ وأحوال تلقي الأمم دعوات رسلهم .
فالمعنى : ما منع هؤلاء المشركين من الإيمان بالقرآن شيء يَمنع مثلُه ، ولكنهم كالأمم الذين قبلهم الذين جاءهم الهدى بأنواعه من كتب وآيات وإرشاد إلى الخير .
والمرد ب { الأولين } السابقون من الأمم في الضلال والعناد . ويجوز أن يراد بهم الآباء ، أي سنة آبائهم ، أي طريقتهم ودينهم ، ولكل أمة أمةٌ سبقتها .
و { أن تأتيهم } استثناء مفرغ هو فاعل { وما منع } . « ولن يؤمنوا » منصوب على نزع الخافض ، أي من أن يؤمنوا .
ومعنى { تأتيهم سنة الأولين } تحل فيهم وتعتريهم ، أي تُلقى في نفوسهم وتسول إليهم . والمعنى : أنهم يُشبهون خلق من كانوا قبلهم من أهل الضلال ويقلدونهم ، كما قال تعالى : { أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [ الذاريات : 53 ] .
وسنة الأولين : طريقتهم في الكفر . وإضافة ( سنة ) إليهم تشبه إضافة المصدر إلى فاعله ، أي السنة التي سَنّها الأولون . وإسناد مَنْعهم من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين استعارة .
والمعنى : ما منع الناس أن يؤمنوا إلا الذي منع الأولين قبلهم من عادة العناد والطغيان وطريقتهم في تكذيب الرسل والاستخفاف بهم .
وذكر الاستغفار هنا بعد ذكر الإيمان تلقين إياهم بأن يبادروا بالإقلاع عن الكفر وأن يتوبوا إلى الله من تكذيب النبي ومكابرته .
و ( أو ) هي التي بمعنى ( إلى ) ، وانتصاب فعل يأتيهم العذاب } ( بأن ) مضمرة بعد ( أو ) . و ( أو ) متصلة المعنى بفعل { منع } ، أي منعهم تقليدُ سنة الأولين من الإيمان إلى أن يأتيهم العذاب كما أتى الأولين .
هذا ما بدا لي في تفسير هذه الآية وأراه أليق بموقع هاته الآية من التي قبلها .
فأما جميع المفسرين فقد تأولوا الآية على خلاف هذا على كلمة واحدة فجعلوا المراد بالناس عينَ المراد بهم في قوله : { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل } [ الكهف : 54 ] ، أي ما منع المشركين من الإيمان بالله ورسوله . وجعلوا المراد بالهدى عين المراد بالقرآن ، وحملوا سنة الأولين على معنى سنة الله في الأولين ، أي الأمم المكذبين الماضين ، أي فإضافة { سنة } إلى { الأولين } مِثل إضافة المصدر إلى مفعوله ، وهي عادة الله فيهم ، أي يعذبهم عذاب الاستيصال .
وجعلوا إسناد المنع من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين ، بتقدير مضاف ، أي انتظار أن تأتيهم سنة الله في الأولين ، أي ويكون الكلام تهكماً وتعريضاً بالتهديد بحلول العذاب بالمشركين ، أي لا يؤمنون إلا عند نزول عذاب الاستيصال ، أي على معنى قوله تعالى : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا } [ يونس : 102 ] .
وجعلوا قوله : { أو يأتيهم العذاب قبلاً } قسيماً لقوله : { إلا أن تأتيهم سنة الأولين } ، فحرف ( أو ) للتقسيم ، وفعل { يأتيهم } منصوب بالعطف على فعل { أن تأتيهم سنة الأولين } بالاستيصال المفاجىء أو يأتيهم العذاب مواجهاً لهم . وجعلوا { قِبلاً } حالاً من { العذاب } ، أي مقابلاً . قال الكلبي : وهو عذاب السيف يوم بدر . ولعله يريد أنه عذاب مقابلةٍ وجهاً لوجه ، أي عذاب الجلاد بالسيوف . ومعناه : أن المُشركين منهم من ذاق عذاب السيف في غزوات المسلمين ، ومنهم من مات فهو يرى عذاب الآخرة . وعلى هذا التفسير الذي سلكوه ينسلخ من الآية معنى التذييل ، وتُقصر على معنى التهديد .
والإتيان : مجاز في الحصول في المستقبل ، لوجود ( أن ) المصدرية التي تخلص المضارع للاستقبال ، وهو استقبال نسبي فلكل أمة استقبال سنة من قبلها .
والسنة : العادة المألوفة في حال من الأحوال .
وإسناد منعهم الإيمان إلى إتيان سنة الأولين أو إتيان العذاب إسناد مجاز عقلي . والمراد : ما منعهم إلا سبب إتيان سنة الأولين لهم أو إتيان العذاب . وسبب ذلك هو التكبر والمكابرة والتمسك بالضلال ، أي أنه لا يوجد مانع يمنعهم الإيمان يخولهم المعذرة به ولكنهم جروا على سنن من قبلهم من الضلال . وهذا كناية عن انتفاء إيمانهم إلى أن يحل بهم أحد العذابين .
وفي هذه الكناية تهديد وإنذار وتحذير وحث على المبادرة بالاستغفار من الكفر . وهو في معنى قوله تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 96 ، 97 ] .
و{ قِبَلاً } حال من العذاب . وهو بكسر القاف وفتح الباء في قراءة الجمهور بمعنى المقابل الظاهر . وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف { قبلاً } بضمتين وهو جمع قبيل ، أي يأتيهم العذاب أنواعاً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ ذكره: وما منع هؤلاء المشركين يا محمد الإيمان بالله إذ جاءهم الهدى بيان الله، وعلموا صحة ما تدعوهم إليه وحقيقته، والاستغفار مما هم عليه مقيمون من شركهم، إلا مجيئهم سنتنا في أمثالهم من الأمم المكذبة رسلها قبلهم، أو إتيانهم العذاب قُبُلا.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: أو يأتيهم العذاب فجأة...
وقال آخرون: معناه: أو يأتيهم العذاب عيانا...
وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته جماعة ذات عدد "أوْ يَأْتِيَهُمْ العَذَابُ قُبُلاً "بضمّ القاف والباء، بمعنى أنه يأتيهم من العذاب ألوان وضروب، ووجهوا القُبُل إلى جمع قبيل، كما يُجمع القتيل القُتُل، والجديد الجُدُد. وقرأ جماعة أخرى: "أوْ يَأْتِيَهُمْ العَذَابُ قِبَلاً" بكسر القاف وفتح الباء، بمعنى أو يأتيهم العذاب عيانا من قولهم: كلمته قِبَلاً...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما مَنَعَ الناسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى} أي لم يمنع الناسَ أن يؤمنوا إلا التعنُّتُ والعِنادُ لأنه قد أكثر عليهم من الحجج والآيات ما لو لم يُعاندوا، ولا كابَروا، لالتَزَموا الإيمانَ بها والتصديقَ. لكن الذي منعهم عن الإيمان ما ذكرنا من عنادهم وتعنتهم {إلا أن تأتيَهم سُنَّةُ الأوَّلِين} الاستئصالُ والإهلاكُ. فيقول: لا يؤمنون إلا في ذلك الوقت... وقُبْلًا: مقابلة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
معناه ما منعهم من الإيمان بعد مجيئ الدلالة وأن يستغفروا ربهم على سبق من معاصيهم إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين، من مجيئ العذاب من حيث لا يشعرون، أو مقابلة من حيث يرون. وإنما هم بامتناعهم من الإيمان بمنزلة من يطلب هذا حتى يؤمن كرها، لأنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، كما يقول القائل لغيره: ما منعك أن تقبل قولي إلا أن تضرب، إلا أنك لم تضرب، لان مشركي العرب طلبوا مثل ذلك، فقالوا "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم "
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {وَمَا مَنَعَ الناس} الإيمان والاستغفار {إِلا} انتظار {أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} وهي الإهلاك {أَوْ} انتظار أن {يَأْتِيهِمُ العذاب} يعني عذاب الآخرة {قُبُلاً} عياناً. وقرىء: «قِبَلا» أنواعاً: جمع قبيل. و «قَبَلا»، بفتحتين: مستقبلاً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه آيةُ تأُّسٍف عليهم وتنبيهٍ على فساد حالهم، لأن هذا المنع لم يكن بقصْدٍ منهم أن َيمتنعوا ليجيئهم العذابُ، وإنما امتنعوا هم مع اعتقادهم أنهم مُصيبون، لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا، فكأن حالهم تقتضي التأسف عليهم، و {الناس} يراد به كفار عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين تَوَلَّوْا دَفْعَ الشريعةِ وتكذيبَها... و «الاستغفار» هنا طلب المغفرة على فارِطِ الذّنْبِ كُفراً وغيرَه، و {سنة الأولين} هي عذاب الأمم المذكورة من الغرق والصيحة والظُّلَّة والريح وغير ذلك...، {أو يأتيهم العذاب قبلاً}... والمعنى عذاباً غيرَ المعهودِ...
... والمعنى أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نزول عذاب الاستئصال فيهلكوا، أو أن يتواصل أنواع العذاب والبلاء حال بقائهم في الحياة الدنيا، واعلم أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا على هذين الشرطين، لأن العاقل لا يرضى بحصول هذين الأمرين، إلا أن حالهم شبيه بحال من وقف العمل على هذين الشرطين...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات [والآثار] والدلالات الواضحات، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانًا، كما قال أولئك لنبيهم: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187]، وآخرون قالوا: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت: 29]، وقالت قريش: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر: 7، 6] إلى غير ذلك [من الآيات الدالة على ذلك].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين إعراضهم، بين موجبه عندهم فقال: {وما منع} ولما كان الناس تبعاً لقريش قال: {الناس} أي الذين جادلوا بالباطل، الإيمان -هكذا كان الأصل، ولكنه عبر عن هذا المفعول الثاني بقوله تعالى: {أن يؤمنوا} ليفيد التجديد وذمهم على الترك {إذ} أي حين {جاءهم الهدى} بالكتاب على لسان الرسول، وعطف على المفعول الثاني- معبراً بمثل ما مضى لما مضى -قولَه تعالى: {ويستغفروا ربهم} أي المحسن إليهم. ولما كان الاستثناء مفرغاً، أتى بالفاعل فقال تعالى: {إلا أن} أي طلب أن {تأتيهم سنة الأولين} في إجابتهم إلى ما اقترحوه على رسلهم، المقتضي للاستئصال لمن استمر على الضلال، ومن ذلك طلبهم أن يكون النبي ملكاً، وذلك نقمة في صورة نعمة و إتيان بالعذاب دبراً، أي مستوراً {أو} طلب أن {يأتيهم العذاب قبلاً} أي مواجهة ومعاينة ومشاهدة من غير ستر له، هو في قراءة من كسر القاف وفتح الباء واضح، من قولهم: لقيت فلاناً قبلاً، أي معاينة، وكذا في قراءة من ضمهما، من قولهم: أنا آتيك قبلاً لا دبراً، أي مواجهة من جهة وجهك لا من جهة قفاك، قال تعالى: إن كان قميصه قدَّ من قبل} [يوسف: 26]، ويصح أن يراد بهذه القراءة الجماعة، لأن المراد بالعذاب الجنس أي يأتيهم أصنافاً مصنفة صنفاً صنفا ونوعاً نوعاً، وقد مضى في الأنعام بيانه، وهذا الشق قسيم الإتيان بسنة الأولين، فمعناه: من غير أن يجابوا إلى ما اقترحوا كما تقدم في التي قبلها {فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وقالوا لن نؤمن لك} [الإسراء:89-90]- إلى قوله تعالى: {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً} [الإسراء: 92] الآية وهذه الآية من الاحتباك: ذكر {سنة الأولين} أولاً يدل على ضدها ثانياً، وذكر المكاشفة ثانياً يدل على المساترة أولاً...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والمعنى أنّ ما تضَمَّنه القرآنُ الكريم من الأمور المستوجبةِ للإيمان بحيث لو لم يكن مثلَ هذه الحكمةِ القوية لَمَا امتنع الناسُ من الإيمان وإن كانوا مَجْبولين على الجدَل المفْرِط...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فلقد جاءهم من الهدى ما يكفي للاهتداء. ولكنهم كانوا يطلبون أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم من هلاك -استبعادا لوقوعه واستهزاء- أو أن يأتيهم العذاب مواجهة يرون أنه سيقع بهم. وعندئذ فقط يوقنون فيؤمنون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عُدِلَ في هذه الجملة عن الإضمار إلى الإظهار بقوله: وما مَنَعَ الناسَ} وبقوله: {إذ جاءهم الهدى} دون أن يقول: وما منعهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى قَصْداً لاستقلال الجملة بذاتها غيرَ مستعانةٍ بغيرها، فتكون فائدةً مستقِلّةً تسْتأهِل توجُّهَ العقولِ إلى وعيها لذاتها لا لأنها فرعٌ على غيرها... على أن عموم {الناس} هنا أشملُ من عموم لفظ {الناس} في قوله: {ولقد صَرّفْنا في هذا القرآن للناس} [الكهف: 54] فإن ذلك يَعُمُّ الناسَ الذين يسمعون القرآنَ في أزمانِ ما بعدَ نزولِ تلك الآية، وهذا يَعُمُّ الناسَ كلَّهم الذين امتنعوا من الإيمان بالله. وكذلك عموم لفظ {الهدى} يشمل هدى القرآن وما قبله من الكتب الإلهية وأقوال الأنبياء كلها... {الأوَّلِين}... يجوز... أن يُراد بهم الآباء، أي سنّة آبائهم، أي طريقتهم ودينهم، ولكل أُمّةٍ أُمَّةٌ سبقتها...
ومعنى {تأتيَهم سُنّةُ الأوَّلِين} تَحُلُّ فيهم وتَعتريهم، أي تُلقى في نفوسهم وتُسَوَّلُ إليهم...
وسُنّة الأولين: طريقتهم في الكفر. وإضافة (سُنّة) إليهم تشبه إضافة المصدر إلى فاعله، أي السُّنَّةُ التي سَنَّها الأولون...
و (أو) هي التي بمعنى (إلى)، وانتصابُ فِعْلِ "يأتيَهم "العذابُ} (بأنْ) مُضمَرةً بعد (أو). و (أو) متصلةُ المعنى بفعل {مَنَعَ}، أي مَنَعَهم تقليدُ سُنَّةِ الأوّلِين من الإيمان إلى أنْ يأتيَهم العذابُ كما أتَى الأوَّلين...
والإتيان: مجاز في الحصول في المستقبل، لوجود (أن) المصدرية التي تُخَلِّصُ المضارعَ للاستقبال، وهو استقبالٌ نسبيٌّ فلكل أمّةٍ استقبالُ سُنَّةِ مَنْ قَبْلَها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن هذا تصويرٌ محكَمٌ لحالهم في طغيانهم وغُلَوائهم كأنهم ينتظرون العذاب ولا ينتظرون الهداية فشَبَّه سبحانه وتعالى حالَهم في الشر، واستمكانَه في نفوسهم واسترسالَهم في الطغيان بحالِ مَنْ يَمنعهم الهدايةَ مجرّدُ انتظارِ العذاب، وهذا تصويرٌ لإمعانهم في الطغيان والظلم والعدوان مجاوزة حدود العقل والفكر...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
حواجز بين الدعوة والإيمان بها:
وتبقى مشاكل الدعوة هي التي تلحّ على الأجواء القرآنية، لأنها تمثل الحواجز التي تحول بين الناس وبين الإيمان، من خلال خضوع مجتمع الكفر لبعض الذهنيات المتخلّفة، أو العقليات المتحجرة، أو العُقد المتنوعة، أو الخلفيات الفكرية التي تجعل الإنسان يعيش في حصار دائم في دائرة الفكرة... وهذا ما يريد القرآن في هذه الآيات، أن يحرّك الحديث حوله مع النبي (صلى الله عليهوسلم)، ليثير أمامه الواقع لئلا يشعر بالضعف أمام حالة التمرُّد، وليعتبر المسألة طبيعية في نطاق هذا الواقع. العصبية تمنع من الإيمان {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} ويتراجعوا عما هُم فيه من الكفر والضلال، فينفتحوا على آفاق الهدى، ويرجعوا إلى الله، ويستغفروه عما أجرموا في حقه في التنكر لعقيدة التوحيد، أو لخط الرسالة... {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِين} الذين كانوا يتمرّدون على الله وعلى الرسل، بالكفر والضلال والعصيان، لأنهم لا يريدون الإيمان، ولا يستعدون للدخول في حوارٍ مع الرسل، ولا يركنون إلى فكرٍ يوجههم، ولا إلى علمٍ يهديهم، بل ينطلقون في مواقفهم من موقع العصبية الذاتية أو القبلية أو التاريخية التي تربطهم بعقيدة الآباء والأجداد، أو غير ذلك، فيبادرون إلى إطلاق التحدي في وجه النبي، أن يأتيهم بعذاب الله الذي يهلكهم إن كان من الصادقين. ويحاول النبيُّ بكل الوسائل أن يقرّب إليهم الفكرة، ويحذِّرهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، فلا يستجيبون له، فينزل الله العذاب عليهم ويهلكهم بالصاعقة، أو بالصيحة، أو بالزلزال، أو بالطوفان، أو بغير ذلك من ألوان العذاب، فيستأصلهم، فلا يبقى منهم أحد إلا المؤمنون. وهذا ما عاشه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في بعض مواقف قومه منه، فقد أبوا أن يؤمنوا لأنهم لا يلتزمون إرادة الإيمان، ولا يعيشونها، ولم يجدوا أمامهم إلا أن يهربوا من دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) لهم إلى الحوار، وذلك بإطلاق التحدي في وجهه، أن تأتيهم سنة الأولين، فيستريح منهم، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} أي مواجهةً وعياناً ومقابلةً، بحيث يرونه ويشاهدونه عند إقباله عليهم، ليؤمنوا بعد ذلك. أما تفسير العلاقات بين طلبهم هذا، وبين عدم الإيمان، لتكون سنّة الأوّلين إو إتيان العذاب مانعاً لهم عن الإيمان، فقد يكون معناه، أنهم كانوا يظنون أو يعتقدون أن المسألة أعني العذاب ليست بهذه الجدية، وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) ليس قادراً على الاستجابة لهم، لأنهم لا يعتقدون بنبوّته، لعدم تقديمه لهم المعاجز التي اقترحوها عليه، وبذلك يعتبرون الطلب الذي يقدمونه خروجاً من مأزق الدعوة النبوية إلى الفكر والتأمل والحوار الذي لا يريدونه... وبذلك لا يكون هذا مانعاً حقيقياً، ولكنه مانعٌ افتراضيٌّ باعتبار أنهم يتخذونه حجةً على عدم الإيمان، لأن النبي لم يستجب لهم في ذلك، مما يعتبرونه دليلاً على عدم صدقه بادعاء النبوة، ولكنهم ليسوا جادين بذلك، لأن النبي أراد لهم أن يناقشوا الإيمان معه من موقع العقل والفكر، ليهتدوا على هذا الأساس، بعيداً عن مسألة المعاجز، أو التهديد بالعذاب المباشر، لأن أمره بيد الله، وقد اقتضت حكمته أن لا