والظرف فى قوله - تعالى - { وَإِذَ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً } متعلق بمحذوف تقديره اذكر ، وقوله : { أَسَرَّ } من الإسرار بالشىء بمعنى كتمانه وعدم إشاعته .
والمراد ببعض أزواجه : حفصة - رضى الله عنها - .
والمراد بالحديث قوله لها - كما جاء فى بعض الروايات - : " بل شربت عسلا عند زينب ، ولن أعود ، وقد حلفت فلا تخبرى بذلك أحدا . . " .
أو قوله لها فى شأن مارية : " إنى قد حرمتها على نفسى ، فاكتمى ذلك فأخبرت بذلك عائشة " .
أى : واذكر - أيها العاقل لتعتتبر وتتعظ - وقت أن أسر النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى زوجه حفصة حديثا ، يتعلق بشربه العسل فى بيت زينب بنت جحش ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لحفصة لا تخبرى بذلك أحدا " .
{ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أى : فلما أخبرت حفصة عائشة بهذا الحديث الذى أمرت بكتمانه { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } أى : وأطلع الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ما قالته حفصة لعائشة .
فالمراد بالإظهار : الاطلاع ، وهو مشتق من الظهور بمعنى التغلب .
وعبر بالإظهار عن الاطلاع ، لأن حفصة وعائشة كانتا حريصتين على عدم معرفة ما دار بينهما فى هذا الشأن ، فلما أطلع الله - تعالى - نبيه على ذلك كانتا بمنزلة من غلبتا على أمرهما .
وقوله - سبحانه - : { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } بيان للمسلك السامى الذى سلكه - صلى الله عليه وسلم - فى معاتبته لحفصة على إفشائها لما أمرها أن تكتمه والمفعول الأول لعرف محذوف أى : عرفها بعضه .
أى : فحين خاطب - صلى الله عليه وسلم - حفصة فى شأن الحديث الذى أفشته ، اكتفى بالإشارة إلى جانب منه ، ولم يذكر لها تفاصيل ما قاله لها سابقا .
لسمو أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - إذ فى ذكر التفاصيل مزيد من الخجل والإحراج لها .
قال بعضهم : ما زال التغافل من فعل الكرام وما استقصى كريم قط وقال الشاعر :
ليس الغبى بسيد فى قومه . . . لكن سيد قومه المتغابى
وإنما عرفها - صلى الله عليه وسلم - ببعض الحديث ، ليوقفها على خطئها وعلى أنه كان من الواجب عليها أن تحفظ سره - صلى الله عليه وسلم - .
قالوا : ولعل حفصة رضى الله عنها - قد فعلت ذلك ، ظنا منها أنه لا حرج فى إخبار عائشة بذلك ، أو أنها اجتهدت فأخطأت ، ثم تابت وندمت على خطئها .
ثم حكى - سبحانه - ما قالته حفصة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وما رد به عليها فقال : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِيَ العليم الخبير } .
أى : فلما سمعت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أنه قد أطلع على ما قالته لعائشة ، قالت له : من أخبرك بما دار بينى وبينها ؟ فأجابها - صلى الله عليه وسلم - بقوله : أخبرنى بذلك الله - تعالى - العليم بجميع أحوال عباده وتصرفاتهم . . الخبير بما تكنه الصدور ، وبما يدور فى النفوس من هواجس وخواطر .
وإنما قالت له - صلى الله عليه وسلم - : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } لتتأكد من أن عائشة لم تخبره - صلى الله عليه وسلم - بما دار بينهما فى هذا الشأن . . . فلما قالت لها - صلى الله عليه وسلم - : { نَبَّأَنِيَ العليم الخبير } تحقق ظنها فى كتمان عائشة لما قالته لها ، وتيقنت أن الذى أخبره بذلك هو الله - عز موجل - .
وفى تذلل الآية الكريمة بقوله : { العليم الخبير } إشارة حكيمة وتنبيه بليغ ، إلى أن من الواجب على كل عاقل ، أن يكون ملتزما لكتمان الأسرار التى يؤتمن عليها ، وأن إذاعتها - ولو فى أضيق الحدود - لا تخفى على الله - عز وجل - لأنه - سبحانه - عليم بكل معلوم ، ومحيطب بخبايا النفوس وخلجاتها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَ أَسَرّ النّبِيّ إِلَىَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمّا نَبّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هََذَا قَالَ نَبّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : وَإذْ أسَرّ النّبِيّ محمد صلى الله عليه وسلم إلى بَعْض أزْوَاجِهِ ، وهو في قول ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن بن زيد والشعبي والضحاك بن مزاحم : حَفْصَةُ . وقد ذكرنا الرواية في ذلك قبل .
وقوله : حَديثا والحديث الذي أسرّ إليها في قول هؤلاء هو قوله لمن أسرّ إليه ذلك من أزواجه تحريمُ فتاته ، أو ما حرّم على نفسه مما كان الله جلّ ثناؤه قد أحله له ، وحلفه على ذلك وقوله : «لا تَذْكُرِي ذَلِكَ لأَحَدٍ » .
وقوله : فَلَمّا نَبّأَتْ بِهِ يقول تعالى ذكره : فلما أخبرت بالحديث الذي أسرّ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبتها وأظْهَرَهُ عَلَيْهِ يقول : وأظهر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على أنها قد أنبأت بذلك صاحبتها .
وقوله : عَرّفَ بَعْضَهُ وأعْرَضَ عَنْ بَعْض اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار غير الكسائي : عَرّفَ بتشديد الراء ، بمعنى : عرّف النبيّ صلى الله عليه وسلم حفصة بعض ذلك الحديث وأخبرها به ، وكان الكسائي يذكر عن الحسن البصريّ وأبي عبد الرحمن السلمي وقتادة ، أنهم قرأوا ذلك : «عَرَفَ » بتخفيف الراء ، بمعنى : عرف لحفصة بعض ذلك الفعل الذي فعلته من إفشائها سرّه ، وقد استكتمها إياه : أي غضب من ذلك عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجازاها عليه من قول القائل لمن أساء إليه : لأعرفنّ لك يا فلان ما فعلت ، بمعنى : لإجازينك عليه قالوا : وجازاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من فعلها بأن طلقها .
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه عَرّفَ بَعْضَهُ بتشديد الراء ، بمعنى : عرّف النبيّ صلى الله عليه وسلم حفصة ، يعني ما أظهره الله عليه من حديثها صاحبتها لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وقوله : وأعْرَضَ عَنْ بَعْض يقول : وترك أن يخبرها ببعض . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإذْ أسَرّ النّبِيّ إلى بَعْضِ أزْوَاجِهِ حَدِيثا قوله لها : لا تذكريه فَلَمّا نَبّأَتْ بِهِ وأظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرّفَ بَعْضهُ وأعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ وكان كريما صلى الله عليه وسلم .
وقوله : فَلَمّا نَبّأَها بِهِ يقول : فلما خبر حفصة نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بما أظهره الله عليه من إفشائها سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة قالت منْ أنْبأَكَ هَذَا يقول : قالت حفصةُ لرسول الله : من أنبأك هذا الخبر وأخبرك به قالَ نَبّأَنَي العَلِيمُ الخَبِيرُ يقول تعالى ذكره : قال محمد نبيّ الله لحفصة : خبرني به العليم بسرائر عباده ، وضمائر قلوبهم ، الخبير بأمورهم ، الذي لا يخفى عنه شيء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلَمّا نَبّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أنْبَأَكَ هَذَا ولم تشكّ أن صاحبتها أخبرت عنها قالَ نَبّأَنِي الْعَلِيمُ الخَبِيرُ .
وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه يعني حفصة حديثا تحريم مارية أو العسل أو أن الخلافة بعده لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فلما نبأت به أي فلما أخبرت حفصة عائشة رضي الله تعالى عنهما بالحديث وأظهره الله عليه واطلع النبي صلى الله عليه وسلم على الحديث أي على إفشائه عرف بعضه عرف الرسول صلى الله عليه وسلم حفصة بعض ما فعلت وأعرض عن بعض عن أعلام بعض تكرما أو جازاها على بعض بتطليقه إياها وتجاوز عن بعض ويؤيده قراءة الكسائي بالتخفيف فإنه لا يحتمل ههنا غيره لكن المشدد من باب إطلاق اسم المسبب على السبب والمخفف بالعكس ويؤيد الأول قوله فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير فإنه أوفق للإسلام .
وقوله تعالى : { وإذ أسر النبي } الآية معناه اذكر يا محمد ذلك ، على وجه التأنيب والعتب لهن ، وقال الجمهور الحديث هو قوله في أمر مارية ، وقال آخرون : بل هو قوله : «إنما شربت عسلاً » ، وبعض أزواجه هي حفصة ، و { نبأت } معناه ، أخبرت ، وهذه قراءة الجمهور ، وقرأ طلحة : «أنبأت » وكان إخبارها لعائشة ، وهذا ونحوه هو التظاهر الذي عوتبتا فيه ، وقال ميمون بن مهران : الحديث الذي أسر إلى حفصة ، أنه قال لها :
«وأبشري بأن أبا بكر وعمر يملكان أمر أمتي بعدي خلافة » ، وتعدت «نبأ » في هذه الآية مرة إلى مفعولين ومرة إلى مفعول واحد ، لأن ذلك يجوز في أنبأ ونبأ إذا كان دخولها على غير الابتداء والخبر ، فمتى دخلت على الجملة تعدت إلى ثلاثة مفاعيل ، ولا يجوز الاقتصار . وقوله تعالى : { وأظهره الله عليه } أي أطلعه ، وقرأ الكسائي وحده وأبو عبد الرحمن وطلحة وأبو عمرو بخلاف والحسن وقتادة : «عرَف » بتخفيف الراء ، وقرأ الباقون وجمهور الناس : «عرّف » بشدها ، والمعنى في اللفظة مع التخفيف جازى بالعتب واللوم ، كما تقول لإنسان يؤذيك : قد عرفت لك هذا ولأعرفن لك هذا بمعنى لأجازينك عليه ، ونحوه في المعنى قوله تعالى : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ، فأعرض عنهم }{[11186]} [ النساء : 63 ] ، فعلم الله زعيم بمجازاتهم ، وكذلك معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ، والمعنى مع الشد في الراء علم به وأنب عليه ، وقوله تعالى : { وأعرض عن بعض } أي تكرماً وحياء وحسن عشرة ، قال الحسن : ما استقصى كريم قط ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حينئذ حفصة ، ثم إن الله تعالى أمره بمراجعتها ، وروي أنه عاتبها ولم يطلقها ، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بالخبر ، وأنها أفشته إلى عائشة ، ظنت أن عائشة فضحتها ، فقالت : من أنبأك هذا ؟ على جهة التثبت ، فلما أخبرها أن الله تعالى أخبره ، سكتت وسلمت .
هذا تذكير وموعظة بما جرى في خلال تينك الحادثتين ثني إليه عنان الكلام بعد أن قضي ما يهم من التشريع للنبيء صلى الله عليه وسلم بما حرّم على نفسه من جرَّائهما .
وهو معطوف على جملة { يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } [ التحريم : 1 ] بتقدير واذكر .
وقد أعيد ما دلت عليه الآية السابقة ضمناً بما تضمنته هذه الآية بأسلوب آخر ليبن عليه ما فيه من عبر ومواعظ وأدب ، ومكارم وتنبيه وتحذير .
فاشتملت هذه الآيات على عشرين معنى من معاني ذلك . إحداها ما تضمنه قوله : { إلى بعض أزواجه } .
الثاني : قوله : { فلما نبأت به } .
والثالث : { وأظهره الله عليه } .
السادس : { قالت من أنبأك هذا } .
السابع : { قال نبأني العليم الخبير } .
الثامن والتاسع والعاشر : { إن تتوبا إلى الله إلى فإن الله هو مولاه } [ التحريم : 4 ] .
الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر : { وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة } [ التحريم : 4 ] .
الرابع عشر والخامس عشر : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً } [ التحريم : 5 ] .
السادس عشر : { خيراً منكن } [ التحريم : 5 ] .
( السابع عشر : { مسلمات } [ التحريم : 5 ] إلخ .
الثامن عشر : { سائحات } [ التحريم : 5 ] .
التاسع عشر : { ثيبات وأبكاراً } [ التحريم : 5 ] ، وسيأتي بيانها عند تفسير كل آية منها .
العشرون : ما في ذكر حفصة أو غيرها بعنوان { بعض أزواجه } دون تسميته من الاكتفاء في الملام بذكر ما تستشعِر به أنها المقصودة باللوم .
وإنما نبّأها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه علم إفشاءها الحديث بأمر من الله ليبني عليه الموعظة والتأديب فإن الله ما أطلعه على إفشائها إلا لغرض جليل .
والحديث هو ما حصل من اختلاء النبي صلى الله عليه وسلم بجاريته مارية وما دار بينه وبين حفصة وقوله لحفصة : « هي عليّ حرام ولا تخبري عائشة » وكانتا متصافيتين وأطلع الله نبيئه صلى الله عليه وسلم على أن حفصة أخبرت عائشة بما أسرّ إليها .
والواو عاطفة قصة على قصة لأن قصة إفشاء حفصة السرّ غير قصة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بعض ما أحلّ له .
ولم يختلف أهل العلم في أن التي أسر إليها النبي صلى الله عليه وسلم الحديث هي حفصة ويأتي أن التي نَبأتْها حفصة هي عائشة . وفي « الصحيح » عن ابن عباس قال : مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه فلما رجع ببعض الطريق قلت : يا أمير المؤمنين مَن اللتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه ؟ فقال : تلك حفصة وعائشة وساق القصة بطولها .
وأصل إطلاق الحديث على الكلام مجاز لأنه مشتق من الحدثان فالذي حدث هو الفعل ونحوه ثم شاع حتى صار حقيقة في الخبر عنه وصار إطلاقه على الحادثة هو المجاز فانقلب حال وضعه واستعماله .
و { أسر } أخبر بما يراد كتمانه عن غير المخبر أو سأله عدم إفشاء شيء وقع بينهما وإن لم يكن إخباراً وذلك إذا كان الخبر أو الفعل يراد عدم فشوّه فيقوله صاحبه سرّاً والسرّ ضد الجهر ، قال تعالى : { ويعلم ما تسرون وما تعلنون } [ التغابن : 4 ] فصار { أسر } يطلق بمعنى الوصاية بعدم الإِفشاء ، أي عدم الإِظهار قال تعالى : { فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم } [ يوسف : 77 ] .
و { أسر } : فعل مشتق من السرّ فإن الهمزة فيه للجعل ، أي جعله ذا سرّ ، يقال : أسرّ في نفسه ، إذا كتم سرّه . ويقال : أسرّ إليه ، إذا حدثه بسرّ فكأنه أنهاه إليه ، ويقال : أسرّ له إذا أسرّ أمراً لأجله ، وذلك في إضمار الشر غالباً وأسرّ بكذا ، أي أخبر بخبر سرّ ، وأسرّ ، إذا وضع شيئاً خفياً . وفي المثَل « يُسِرّ حَسْواً في ارتغاء » .
و { بعض أزواجه } هي حفصة بنت عمر بن الخطاب . وعدل عن ذكر اسمها ترفعاً عن أن يكون القصد معرفة الأعيان وإنما المراد العلم بمغزى القصة وما فيها مما يجتنب مثله أو يقتدى به . وكذلك طي تعيين المنبَّأة بالحديث وهي عائشة .
وذكرت حفصة بعنوان بعض أزواجه للإِشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع سِرّه في موضعه لأن أولى الناس بمعرفة سرّ الرجل زوجهُ . وفي ذلك تعريض بملامها على إفشاء سرّه لأن واجب المرأة أن تحفظ سرّ زوجها إذا أمرها بحفظه أو كان مثله مما يجب حفظه .
وهذا المعنى الأول من المعاني التهذيبية التي ذكرناها آنفاً .
ونبَّأ : بالتضعيف مرادف أنبأ بالهمز ومعناهما : أخبر ، وقد جمعهما قوله : { فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير } .
وقد قيل : السرّ أمانة ، أي وإفشاؤه خيانة .
وفي حديث أم زرع من آدابهم العربية القديمة قالت الحادية عشرة : « جَارية أبي زرع فَما جارية أبي زرع لا تَبث حديثنا تبثيثاً ولا تنفث ميرثنا تنفيثاً » .
وكلام الحكماء والشعراء في السرّ وحفظه أكثر من أن يحصى . وهو المعنى الثاني من المعاني التهذيبية التي ذكرناها .
ومعنى و { وأظهره الله عليه } أطلعه عليه وهو مشتق من الظهور بمعنى التغلب .
استعير الإِظهار إلى الإِطْلاَع لأن إطلاع الله نبيئه صلى الله عليه وسلم على السرّ الذي بين حفصة وعائشة كان غلبةً له عليهما فيما دبرتاه فشبهت الحالة الخاصة من تآمر حفصة وعائشة على معرفة سرّ النبي صلى الله عليه وسلم ومن علمه بذلك بحال من يغالب غيره فيغلبه الغير ويكشف أمره فالإِظهار هنا من الظهور بمعنى الانتصار . وليس هو من الظهور ضد الخفاء ، لأنه لا يتعدى بحرف ( على ) .
وضمير { عليه } عائد إلى الإِنباء المأخوذ من { نبأت به } أو على الحديث بتقدير مضاف يدل عليه قوله : { نبأت به } تقديره : أظهره الله على إفشائه .
وهذا تنبيه إلى عناية الله برسوله صلى الله عليه وسلم وانتصاره له لأن إطلاعه على ما لا علم له به مما يهمه ، عناية ونصح له .
وهذا حاصل المعنى الثالث من المعاني التي اشتملت عليها الآيات وذكرناها آنفاً .
ومعفول { عرف } الأولُ محذوف لدلالة الكلام عليه ، أي عرفها بعضه ، أي بعض ما أطْلعه الله عليه ، وأعرض عن تعريفها ببعضه . والحديث يحتوي على أشياء : اختلاء النبي بسريته مارية ، وتحريمها على نفسه ، وتناوله العسل في بيت زينب ، وتحريمه العودة إلى مثل ذلك ، وربّما قد تخلل ذلك كلام في وصف عثور حفصة على ذلك بغتة ، أو في التطاول بأنها استطاعت أن تريحهن من ميله إلى مارية . وإنما عرّفها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليوقفها على مخالفتها واجب الأدب من حفظ سرّ زوجها .
وهذا هو المعنى الرابع من المعاني التي سبقت إشارتي إليها .
وإعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعريف زوجه ببعض الحديث الذي أفشته من كرم خلقه صلى الله عليه وسلم في معاتبة المفشية وتأديبها إذ يحصل المقصود بأن يعلم بعضَ ما أفشته فتوقن أن الله يغار عليه .
قال سفيان : ما زَال التغافل من فعل الكرام ، وقال الحسن : ما استقصى كريمٌ قط ، وما زاد على المقصود بقلب العتاب من عتاب إلى تقريع .
وهذا المعنى الخامس من مقاصد ذكر هذا الحديث كما أشرنا إليه آنفاً .
وقولها : { من أنبأك هذا } يدل على ثقتها بأن عائشة لا تفشي سرّها وعلمت أنه لا قبل للرسول صلى الله عليه وسلم بعلم ذلك إلا من قبل عائشة أو من طريق الوحي فرامت التحقق من أحد الاحتمالين .
والاستفهام حقيقي ولك أن تجعله للتعجب من علمه بذلك .
وفي هذا كفاية من تيقظها بأن إفشاءها سرّ زوجها زَلة خُلقية عظيمة حجبها عن مراعاتها شدة الصفاء لعائشة وفرط إعجابها بتحريم مارية لأجلها ، فلم تتمالك عن أن تبشر به خليلتها ونصيرتها ولو تذكرت لتبين لها أن مقتضى كتم سرّ زوجها أقوى من مقتضى إعلامها خليلتها فإن أواصر الزوجية أقوى من أواصر الخلة وواجب الإِخلاص لرسول الله أعلى من فضيلة الإِخلاص للخلائل .
وهذا هو الأدب السادس من معاني الآداب التي اشتملت عليها القصة وأجملنا ذكرها آنفاً .
وإيثار وصفي { العليم الخبير } هنا دون الاسم العَلَم لما فيهما من التذكير بما يجب أن يعلمه الناس من إحاطة الله تعالى علماً وخُبْراً بكل شيء .
و { العليم } : القوي العلم وهو في أسمائه تعالى دالّ على أكمل العلم ، أي العلم المحيط بكل معلوم .
و { الخبير } : أخص من العليم لأنه مشتق من خبر الشيء إذا أحاط بمعانيه ودخائله ولذلك يُقال خبرته ، أي بلوته وتطلعتُ بواطن أمره ، قال ابن بُرَّجان ( بضم الموحدة وبجيم مشددة ) في « شرح الأسماء » : « الفرق بين الخُبر والعلم وسائر الأشياء الدالة على صفة العلم أن تتعرف حصول الفائدة من وجه وأضِف ذلك إلى تلك الصفة وسَم الفائدة بذلك الوجه الذي عنه حَصَلَتْ فمتى حصلت من موضع الحُضور سميت مشاهدة والمتصف بها هو الشاهد والشهيد .
وكذلك إن حصلت من وجه سمع أو بصر فالمتصف بها سميع وبصير . وكذلك إن حصَلت من عِلْم أو علامة فهو العلم والمتصف به العالم والعليم ، وإن حصلت عن استكشاف ظاهر المخبُور عن باطنه بِبَلوى أو امتحان أو تجربة أو تبليغ فهو الخبْر . والمسمّى به « الخبير » اه . وقال الغزالي في « المقصد الأسنى » : « العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خِبرة وسمي صاحبها خبيراً اه » .
فيتضح أن أتباع وصف { العليم } بوصف { الخبير } إيماء إلى أن الله علم دخيلة المخاطبة وما قصدته من إفشاء السرّ للأخرى .
وقد حصل من هذا الجواب تعليمها بأن الله يطلع رسول صلى الله عليه وسلم على ما غاب إن شاء قال تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ، 27 ] وتنبيهاً على ما أبطنته من الأمر .
وهو الأدب السابع من آداب هذه الآيات .
واعلم أن نبّأ وأنبأ مُترادفان وهما بمعنى أخبر وأن حقهما التعدية إلى مفعول واحد لأجل ما فيهما من همزة تعدية أو تضعيف . وإن كان لم يسمع فعل مجرد لهما وهو مما أميت في كلامهم استغناء بفعل علم . والأكثر أن يتعديا إلى ما زاد على المفعول بحرف جر نحو : نَبأتُ به . وقد يحذف حرف الجر فيعدّيان إلى مفعولين ، كقوله هنا : { من أنبأك هذا } أي بهذا ، وقول الفرزدق :
نبئت عبد الله بالجو أصبحت *** كراماً مواليها لآماً ما صميمها
وقد يضمنان معنى : اعلم ، فيعديان إلى ثلاثة مفاعيل كقول النابغة :
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها *** يهدي إليّ غرائب الأشعار
ولكثرة هذا الاستعمال ظن أنه معنى لهما وأغفل التضمين فنسب إلحاقهما ب ( اعلم ) إلى سيبويه والفارسي والجرجاني وألْحَق الفراء خبّر وأخبر ، وألحق الكوفيون حدَّث .
قال زكريا الأنصاري : لم تسمع تعديتها إلى ثلاثة في كلام العرب إلا إذا كانت مبنية إلى المجهول .
وقرأ الجمهور { عرف } بالتشديد . وقرأه الكسائي { عَرَف } بتخفيف الراء ، أي علم بعضه وذلك كناية عن المجازاة ، أي جازى عن بعضه التي أفشته باللوم أو بالطلاق على رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ولم يصح وقد يكنى عن التوعد بفعل العلم . ونحوه كقوله تعالى : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } [ النساء : 63 ] . وقول العرب للمسيء : لأعرفن لك هذا . وقولك : لقد عرفت ما صنعت .