وقوله - سبحانه - : { وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً . . } بيان لما أنطق الله به امرأة فرعون للدفاع عن موسى - عليه السلام - .
قال الجمل : وامرأة فرعون هى : آسيا بنت مزاحم ، وكانت من خيار النساء ، ومن بنات الأنبياء ، وكانت أما للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم .
ويكفى فى مدحها قوله - تعالى - : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } أى : وقالت امرأة فرعون بعد أن أخرج موسى من التابوت ، ورأته بين أيدى فرعون وآله : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } أى : هذا الطفل هو قرة عين لى ولك ، أى : هو محل السرور والفرح لعينى ولعينك يا فرعون .
فالجملة الكريمة كناية عن السرور به ، إذ لفظ { قُرَّةُ } مأخوذ من القرار بمعنى الاستقرار ، وذلك لأن العين إذا رأت ما تحبه ، استقر نظرها عليه ، وانشغلت به عن غيره .
ثم أضافت إلى ذلك قولها { لاَ تَقْتُلُوهُ } والخطاب لفرعون وجنده .
ثم عللت النهى عن قتله بقولها : { عسى أَن يَنْفَعَنَا } فى مستقبل حياتنا ، فنجنى من ورائه خيرا .
{ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } لنا ، فإن هيئته وصورته تدل على النجابة والجمال واليمن وهكذا شاءت إرادة الله - تعالى - ، أن تجعل امرأة فرعون ، سببا فى إنقاذ موسى من القتل ، وفى أن يعيش فى بيت فرعون ، ليكون له فى المستقبل عدوا وحزنا .
وقوله - تعالى - : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } جملة حالية ، أى : فعلوا ما فعلوا والحال أنهم لا يشعرون أن هلاكهم سيكون على يديه .
والظاهر أن هذه الجملة من كلام الله - تعالى - ، وليست حكاية لما قالته امرأة فرعون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرّةُ عَيْنٍ لّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىَ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَقالَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ له هذا قُرةُ عَيْنٍ لي ولَكَ يا فرعون فقرّة عين مرفوعة بمضمر هو هذا ، أو هو . وقوله : لا تَقْتُلُوهُ مسألة من امرأة فرعون أن لا يقتله . وذُكِر أن المرأة لما قالت هذا القول لفرعون ، قال فرعون : أمّا لك فنعم ، وأما لي فلا ، فكان كذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي مَعْشر ، عن محمد بن قيس ، قال : قالت امرأة فرعون : قُرةُ عَيْنٍ لي ولَكَ ، لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا قال فرعون : قرّة عين لك ، أما لي فلا . قال محمد بن قيس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَوْ قالَ فِرْعَوْنُ : قُرةُ عَيْنٍ لي ولَكِ ، لَكانَ لَهُما جَمِيعا » .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : اتخذه فرعونُ ولدا ، ودُعِيَ على أنه ابن فرعون فلما تحرّك الغلام أرته أمه آسية صبيا ، فبينما هي ترقصه وتلعب به ، إذ ناولته فرعون ، وقالت : خذه قرةَ عين لي ولك ، قال فرعون : هو قرّة عين لك ، لا لي . قال عبد الله بن عباس : لو أنه قال : وهو لي قرّة عين إذن لآمن به ، ولكنه أبى .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قالت امرأة فرعون : قُرّةُ عَيْنٍ لي ولَكَ تعني بذلك موسى .
حدثنا العباس بن الوليد ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن يزيد ، قال : حدثنا القاسم بن أبي أيوب ، قال : ثني سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : لما أتت بموسى امرأة فرعونَ فرعون قالت : قُرّةُ عَيْنٍ لي ولَكَ قال فرعون : يكون لك ، فأما لي فلا حاجة لي فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَالّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أقَرّ فِرْعَوْنُ أنْ يَكُونَ لَهُ قُرّةَ عَيْنٍ كمَا أقَرّتْ ، لَهَدَاهُ اللّهُ بِهِ كمَا هَدَى بِهِ امْرأتَهُ ، وَلَكِنّ اللّهَ حَرَمَهُ ذلكَ » .
وقوله : لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا ذُكِر أن امرأة فرعون قالت هذا القول حين همّ بقتله . قال بعضهم : حين أُتيَ به يوم التقطه من اليم . وقال بعضهم : يوم نَتَف من لحيته أو ضربه بعصا كانت في يده . ذكر من قال : قالت ذلك يوم نتف لحيته :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما أتيَ فرعون به صبيا أخذه إليه ، فأخذ موسى بلحيته فنتفها ، قال فرعون : عليّ بالذباحين ، هو هذا قالت آسية : لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا إنما هو صبيّ لا يعقل ، وإنما صنَع هذا من صباه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا قال : أُلقِيَتْ عليه رحمتها حين أبصرته .
وقوله : وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وهم لا يشعرون هلاكهم على يده . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال : وهم لا يشعرون أن هلكتهم على يديه ، وفي زمانه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال : إن هلاكهم على يديه .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال : آل فرعون إنه لهم عدوّ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بما هو كائن من أمرهم وأمره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : قالت امرأة فرعون آسية : لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يقول الله : وهم لا يشعرون أي بما هو كائن بما أراد الله به .
وقال آخرون : بل معنى قوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بنو إسرائيل لا يشعرون أنّا التقطناه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس لا تقتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ قال : يقول : لا تدري بنو إسرائيل أنّا التقطناه .
والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : معنى ذلك : وفرعون وآله لا يشعرون بما هو كائن من هلاكهم على يديه .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات به لأنه عُقَيب قوله : وَقالَتِ امْرأةُ فِرْعَوْنَ قُرّةُ عَيْنٍ لي ولَكَ ، لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتّخِذَهُ وَلَدا وإذا كان ذلك عقبه ، فهو بأن يكون بيانا عن القول الذي هو عقبه أحقّ من أن يكون بيانا عن غيره .
{ وقالت امرأة فرعون } أي لفرعون حين أخرجته من التابوت . { قرة عين لي ولك } هو قرة عين لنا لأنهما لما رأياه أخرج من التابوت أحباه ، أو لأنه كانت له ابنة برصاء وعالجها الأطباء بريق حيوان بحري يشبه الإنسان فلطخت برصها بريقه فبرئت ، وفي الحديث أنه قال : لك لا لي . ولو قال هو لي كما هو لك لهداه الله كما هداها . { لا تقتلوه } خطاب بلفظ الجمع للتعظيم . { عسى أن ينفعنا } فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع ، وذلك لما رأت من نور بين عينيه وارتضاعه إبهامه لبنا وبرء البرصاء بريقه . { أو نتخذه ولدا } أو نتبناه فإنه أهل له . { وهم لا يشعرون } حال من الملتقطين أو من القائلة والمقول له أي وهم لا يشعرون أنهم على الخطأ في التقاطه أو في طمع النفع منه والتبني له ، أو من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس أي { وهم لا يشعرون } أنه لغيرنا وقد تبنيناه .