غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ} (191)

190

فقوله : { الذين يذكرون الله } إشارة إلى عبودية اللسان . وقوله : { قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } وهو في موضع حال آخر أي معتمدين على الجنب إشارة إلى عبودية سائر الجوارح والأركان . والمراد أنهم ذاكرون في أغلب أحوالهم كما قال صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله " . وقيل : المراد بالذكر ههنا الصلاة أي يصلون في حال القيام فإن عجزوا ففي حال القعود ، فإن عجزوا ففي حال الاعتماد . وهذا موافق لمذهب الشافعي في ترتيب صلاة المريض العاجز ويوافق بحثاً طبياً ، وهو أن الاستلقاء يمنع من استكمال الفكر والتدبر بخلاف الاضطجاع على الجنب . والصلاة إذا كانت عن فكر وتدبر كانت أولى ، ولأن الاستغراق في النوم يكون في هيئة الاستلقاء أكثر فذاك وضع الغافلين . وقال أبو حنيفة : بل يصلي مستلقياً إن عجز عن القعود حتى لو وجد خفة قعد . وقوله : { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } إشارة إلى عمل الجنان . وقد عرفت معنى الفكر في البحث الخامس من تفسير قوله :{ وعلم آدم الأسماء }

[ البقرة :31 ] وإنما لم يقل و " يتفكرون في الله " كما قال : { يذكرون الله } لقوله صلى الله عليه وسلم : " تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق " والسبب فيه أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة وإنما يمكن على نعت المخالفة ، فإنا نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها ، وبإمكانها على وجوبه ، وبافتقارها على غناه . فالفكر في المخلوقات ممكن وفي الخالق غير ممكن ، كيف وإن الفكر ترتيب المقدمات على وجه منتج ، والمقدمة لها موضوع ومحمول لا بد من تصورهما ، وتصوره سبحانه محال لأن تصور الشيء عبارة عن حصول صورته في النفس ، فتكون الصورة محاطة والنفس محيطة بها ، ولا يحيط بالواجب شيء ألا إنه بكل شيء محيط ، لكنه إذا تفكر في مخلوقاته ولا سيما السماوات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم ، وإلى الأرض مع ما عليها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان ، عرف أوّلاً أن لها رباً وصانعاً فيقول : { بنا } .

ثم يعترف بأن في كل من ذلك حكماً ومقاصد وفوائد لا يحيط بتفاصيلها إلا موجدها فيقول : { ما خلقت هذا باطلاً } ثم إذا قاس أحوال هذه المصنوعات إلى صانعها علم أن ذاته تعالى منزه عن مشابهة شيء من هذه المصنوعات فيعلم أنه ليس بجوهر ولا عرض ولا مركب ولا مؤلف ولا في حيز وجهة فيقول : { سبحانك } أي أنزهك عما لا يليق بلك من مناسبة الجواهر والأعراض . ثم إذا بلغ من الاستغراق في بحار العظمة والجلال هذا المبلغ وجد نفسه ذرة من ذرات الكائنات واقعة في حضيض عالم البشرية محاطة بالطبائع والأركان ، فيتضرع إلى خالق السماوات والأرض أن يخلصه من قيد العناصر ويعرج به من الأرض ويقيه عذاب كرة النار ويوصله إلى معارج السماوات وذلك قوله { فقنا عذاب النار } ،

/خ200