غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَا وَٱدۡعُوهُ خَوۡفٗا وَطَمَعًاۚ إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (56)

54

ثم نهى عن مجامع المفاسد والمضار بقوله : { ولا تفسدوا في الأرض } فيدخل فيه خمسة أشياء : المنع من إفساد النفوس بالقتل ، ومن إفساد الأموال بقطع الطريق والسرقة ، وإفساد الأنساب بالزنا واللواط والقذف ، وإفساد العقول بشرب المسكرات ، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة ، وذلك أن قوله : { لا تفسدوا } منع عن إدخال ماهية الفساد في الوجود والمنع من الماهية يقتضي المنع من جميع أنواعه . ومعنى : { بعد إصلاحها } بعد أن أصلح خلق الأرض على الوجه المطابق لمنافع الخلق الموافق لمصالح المكلفين ، أو المراد إصلاح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع ، فإن الإقدام على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع يقتضي وقوع الهرج والمرج وحدوث الفتن في الأرض . وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار الحرمة فإن وجدنا نصاً خاصاً يدل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديماً للخاص على العام . وفيها أيضاً دلالة على أن كل عقد وقع التراضي به بين الخصمين فإنه منعقد صحيح لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفساداً بعد الإصلاح ، فإن وجدنا نصاً يدل على عدم صحة بعض تلك العقود قضينا فيه بالبطلان عملاً بالأخص . فجميع أحكام الله تعالى داخلة تحت عموم هذه الآية الدالة على أن الأصل في المضار والآلام الحرمة كما كانت داخلة تحت عموم قوله :

{ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] بأنها كانت تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل ، فكل واحدة من الآيتين مطابقة ومؤكدة للأخرى ، ثم لما بين أن الدعاء لا بد أن يكون مقروناً بالتضرع والإخفاء وبعدم المنافي وهو الإفساد بالوجوه الخمسة ، ذكر أن فائدة الدعاء والباعث عليه أحد الأمرين الخوف من العقاب والطمع في الثواب . واعترض عليه بأن أهل السنة يقولون : التكاليف إنما وردت بمقتضى الإلهية والعبودية أي كونه إلهاً لنا ، وكوننا عبيداً له اقتضى أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء ولا يعتبر فيه كونه في نفسه صلاحاً وحسناً . والمعتزلة يقولون : إنها وردت لأنها في نفسها مصالح . فعلى القولين من أتى بها للخوف من العقاب والطمع في الثواب لم يأت بها لوجه وجوبها فوجب أن لا يصح . وأجيب بأن المراد من الآية ادعوه مع الخوف من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها أي كونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في جميع أعمالكم ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم قد أديتم حق ربكم كقوله : { والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة } [ المؤمنون : 6 ] . والجواب الصحيح عندي أن غاية التكليف من الآمر غير غايته من المأمور إذاً فهب أن الغاية الأولى هي المصلحة أو الإلهية والعبودية فلم لا يجوز أن تكون الغاية الثانية الخلاص من العذاب والوصول إلى الثواب ؟ ثم ختم الآية بقوله : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } ظاهره أن يقال قريبة . وذكروا في حذف علامة التأنيث وجوهاً : فقيل : لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي . وقال الزجاج : لأن الرحمة غير حقيقي . وقال الزجاج : لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد ، أو لأن المراد بالرحمة الترحم أو الرحم . وقيل : إنه صفة موصوف محذوف أي شيء قريب ، أو شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول كما شبه ذاك به فقيل : قتلاء وأسراء ، وقيل : لأنه بزنة المصدر كالنقيض صوت العقبان أو الدجاجة والضغيب صوت الأرنب . وقيل : المراد ذات مكان قريب كلابن وتامر ، وروى الواحدي بإسناده عن ابن السكيت تقول العرب : هو قريب مني وهما قريب مني وهي قريب لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني . قال بعض المفسرين : معنى هذا القرب أن الإنسان يزداد بعداً عن الماضي وقرباً من المستقبل أي الآخرة التي هي مقام رحمة الله . ويمكن أن يقال : المراد به قرب الحصول سواء كان في الدنيا أو في الآخرة كقوله : { ألا إن نصر الله قريب } [ البقرة : 214 ] قالت المعتزلة : إن ماهية الرحمة لما كانت حصة المحسنين وجب أن لا يحصل للكافر والفاسق منها شيء ، والغرض أن صاحب الكبيرة لا يكون له نصيب من العفو . وأجيب بأن المحسن من صدر عنه الإحسان ولو من بعض الوجوه ، فكل من آمن بالله تعالى وأقر بالتوحيد والنبوة فقد أحسن والدليل عليه الإجماع . على أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فإنه يسمى مؤمناً محسناً ، على أن قوله ماهية الرحمة نصيب المحسنين ممنوع لأن الكافر أيضاً في رحمة الله ونعمته في الدنيا بدليل قوله : { ومن كفر فأمتعه } [ البقرة : 126 ] .

/خ58