غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (55)

54

ثم لما بيّن كمال قدرته وحكمته وأرشد إلى التكليف الموصل إلى سعادة الدارين أتبعه ذكر ما يستعان به على تحصيل المطالب والمآرب الدينية والدنيوية فقال : { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } قال في الكشاف : نصب على الحال أي ذوي تضرع وخفية وكذلك { خوفاً وطمعاً } قلت : ويحتمل الانتصاب على المصدر مثل : رجع القهقرى . والتضرع التذلل وهو إظهار ذل النفس والخفية بالضم أو الكسر ضد العلانية . قال بعض العلماء : الدعاء هاهنا بمعنى العبادة لئلا يلزم التكرار وعطف الشيء على نفسه في قوله : { وادعوه خوفاً وطمعاً } والأظهر أنه على الأصل . ومن الناس من أنكر الدعاء قال : لأن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع أو كان مراداً في الأزل أو كان على وفق الحكمة والمصلحة وقع لا محالة وإلا فلا فائدة فيه .

وأيضاً إنه نوع من سوء الأدب وعدم الرضا بالقضاء وقد يطب ما ليس بنافع له . وفيه من الاشتغال بغير الله وعدم التوكل عليه ما لا يخفى . والحق أن الدعاء نوع من أنواع العبادة ورفضه يستدعي رفض كثير من السوائل والوسائط والروابط ، ولو لم يكن فيه إلاّ معرفة ذلة العبودية وعزة الربوبية لكفى بذلك فائدة ، ولهذا روي عنه صلى الله عليه وسلم وآله : «ما من شيء أكرم على الله سبحانه من الدّعاء » إلا أنه لا بد فيه من الإخلاص والصون عن الرياء والسمعة ، وإليهما أشار بقوله : { تضرعاً وخفية } ونحن قد أطنبنا في تحقيق الدعاء وشرائطه في سورة البقرة في تفسير قوله :

{ وإذا سألك عبادي عني } [ البقرة : 186 ] ثم ختم الآية بقوله : { إنه لا يحب المعتدين } وللمسلمين اتفاق على أنه ليس معنى المحبة عند إطلاقها على الله شهوة النفس وميل الطبع ولكنها عبارة عن إيصاله الثواب والخير إلى العبد ، وهذا مبني على قول الكعبي وأبي الحسين أنه تعالى غير موصوف بالإرادة ، وأن كونه مريداً لأفعال نفسه عبارة عن إيجادها وفعلها ، وكونه مريداً لأفعال غيره هو كونه آمراً بها . وأما الأشاعرة ومعتزلة البصرة القائلون بصفة الإرادة فإنهم فسروا المحبة بإرادة إيصال الثواب . وقال بعض العلماء : إنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخيرات إلى ذلك الابن وكانت هذه الإرادة أثراً من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها . غاية ما في الباب أن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة في النفس وذلك في حقه تعالى محال . إلا أنا نقول : لم لا يجوز أن يقال أن محبة الله صفة أخرى يترتب عليها إيصال الثواب أو إرادة الإيصال ؟ لكنا لا نعرف تلك المحبة ما هي وكيف هي لأن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء . نظير ذلك أن أهل السنة يثبتون كونه مرئياً ثم يقولون إن تلك الرؤية لا كرؤية الأجسام والألوان . ويعني بالمعتدين المجاوزين ما أمروا به فيشمل كل من خالف أمر الله ونهيه . وقال الكلبي وابن جريج : من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء ويؤيده أنه أمر بالدعاء مقروناً بالإخفاء وظاهره الوجوب إذ قد أثنى على زكريا فقال : { إذ نادى ربه نداء خفياً } [ مريم : 3 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية » وعنه صلى الله عليه وسلم : «خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي » وعنه صلى الله عليه وآله : «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ قوله إنه لا يحب المعتدين » ومن هنا اختلف أرباب الطريقة أن الأولى في العبادات الإخفاء أم الإظهار فقيل : الأولى الإخفاء صوناً لها عن الرياء . وقيل : الأولى الإظهار ليرغب غيره في الاقتداء . وتوسط الشيخ محمد بن علي الحكيم الترمذي فقال : إن كان خائفاً على نفسه من الرياء فالأولى في حقه الإخفاء ، وإن بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمناً من شائبة الرياء فالأولى في حقه الإظهار ليحصل فائدة الاقتداء . قال الشافعي : إظهار التأمين أفضل . وقال أبو حنيفة : الإخفاء أفضل لأنه إن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله : { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية } وإن كان اسماً من أسماء الله تعالى على ما قيل فكذلك لقوله تعالى : { واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة } فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية .

/خ58