غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

111

ثم ذكر أن حكم سائر المؤمنين كذلك فقال : { التائبون } قال الزجاج : إنه مبتدأ محذوف الخبر أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا كقوله { وكلاً وعد الله الحسنى } [ النساء : 95 ] وقيل : التائبون رفع على البدل من الضمير في { يقاتلون } وقيل : مبتدأ خبره { العابدون } وما بعده أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال . أما تفسير هذه الأوصاف فقد قال ابن عباس والحسن : التائبون هم الذين تابوا من الشرك وتبرؤوا عن النفاق . ومال آخرون إلى التعميم ليشمل المعاصي أيضاً إذ لا دليل على التخصيص { والعابدون } قال ابن عباس : هم الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم . وقال الحسن : هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء ، والعبادة لا شك أنها عبارة عن نهاية التعظيم وغاية الخضوع . وقال قتادة : وهم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم . و { الحامدون } هم الذين يقومون بحق شكر نعم الله ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم ، وذلك أن الحمد ذكر من كان قبل آدم لقول الملائكة { ونحن نسبح بحمدك } [ البقرة : 30 ] وذكر أهل الدنيا يقولون في كل يوم سبع عشرة مرة الحمد لله رب العالمين ، وذكر من يكون بعد خراب الدنيا لقوله : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] و{ السائحون } قال عامة المفسرين : هم الصائمون لقوله : «سياحة أمتي الصيام » . ثم قيل : هذا صوم الفرض . وقيل : الذين يديمون الصيام . قال الأزهري : إنما قيل للصائم سائح لأن الذي يسح في الأرض متعبدٌ لا زاد معه فيكون ممسكاً عن الأكل والشرب كالصائم . وقيل : أصل السياحة الاستمرار على الذهاب كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي عنه من الأكل والشرب والوقاع . وقال أهل المعنى : الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب انفتحت عليه أبواب المعاني والحكم وتحلت له أنوار المعارف والحقائق فيحصل له سياحة في عالم العقول . وقيل : السائحون طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم في مظانه ، وكانت السياحة في بني إسرائيل . قال عكرمة عن وهب بن منبه : لا ريب أن للسياحة أثراً عظيماً في تكميل النفس لأنه يلقى أنواعاً من الضر والبؤس فيصبر عليها ، وقد ينقطع زاده فيتوكل على الله فيصير ذلك ملكه له ، وقد ينتفع بالمشاهد والزيارات للأحياء وللأموات ويستفيد ممن هو فوقه ويفيد من هو دونه ويكتسب التجارب ومعرفة الأحوال والأخلاق والسير والآثار { الراكعون الساجدون } يعني المصلين قال بعض العلماء : إنما جعل الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر هيئات المصلي موافقة للعادة كالقيام والقعود ، وإنما الفصل بين المصلي وغيره بالركوع والسجود . وقيل : أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود فخصا بالذكر تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع . ثم قال : { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } ومعناهما مذكور فيما مر إلا أن هاهنا بحثاً آخر وهو أنه لم أدخل الواو في قوله : { والناهون } { والحافظون } دون سائر الأوصاف ؟ وأجيب بأن النسق يجيء بالواو وبغيرها كقوله :

{ غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب } [ غافر : 2 ] أو المراد أن الموصوفين بالصفات الستة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ويكون فيه ترغيب في الجهاد لأن رأس المعروف الإيمان بالله ورأس المنكر الكفر به والجهاد يوجب حصول الإيمان وإزالة الكفر ، أو النهي عن المنكر أصعب أقسام التكاليف لإفضائه في الأغلب إلى الخصومة وثوران الغضب فأدخل عليه الواو تنبيهاً على هذه المخالفة والمباينة . ولبعض النحويين جواب عام يشمل هذه الآية وما في «الكهف » في قوله : { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } [ الآية : 22 ] وما في «الزمر » في قوله في ذكر الجنة { وفتحت أبوابها } [ الآية : 73 ] وما في «التحريم » في قوله : { ثيبات وأبكاراً } [ الآية : 5 ] وذلك أنهم سموا هذه الواوات واو الثمانية قائلين إن السبعة نهاية العدد ولهذا أكثر ذكرها في القرآن والأخبار . فالثمانية تجري مجرى استئناف كلام فلهذا فصل بالواو . وأما قوله : { والحافظون لحدود الله } فكإجمال بعد تفصيل ؛ وذلك أن التكاليف إما أن تتعلق بمصالح الدين وهي باب العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذر ونحوها ، أو بمصالح الدنيا وهي المعاملات . وإنها إما لجلب المنافع أو لدفع المضار والمنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية . فالمقصودة بالأصالة هي المنافع الحاصلة من طرق الحواس الخمس وهي المذوقات ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة والصيد والذبائح والضحايا ، والملموسات ويدخل فيها باب أحكام الوقاع فمنها ما يفيد حله كالنكاح والرضاع وما يتبعهما من المهر والنفقة والسكنى وأحوال القسم والنشوز ، ومنها ما يوجب إزالته كالطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان ، ومن أحكام الملموسات البحث عما يحل لبسه واستعماله وعما لا يحل كالأواني الذهبية وغيرها . والمبصرات وهو باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل ، والمسموعات وهو باب ما يحل سماعه وما لا يحل ، والمشمومات وقد قيل إنه ليس للفقهاء فيه مجال ، ويحتمل أن يقال إن منها جواز استعمال الطيب في بعض الأوقات ومنعه في بعضها كحالة الإحرام . ومنها ما يكره كأكل البصل والثوم للمصلي بالجماعة في المسجد . والمنافع المقصودة بالتبعية هي الأموال والبحث عنها إما من جهة الأسباب المفيدة للملك كالإرث والهبة والوصية وإحياء الموات والالتقاط وأخذ الفيء والغنائم والزكاة ، وكالبيع بيع العين بالعين أو بيع الدين بالعين وهو السلم أو بالعكس كما إذا اشترى شيئاً في الذمة أو بيع الدين بالدين وهو بيع الكاليء بالكالئ المنهي عنه إلا عند تقاص الدينين ، أو من جهة الأسباب المفيدة للمنفعة كالإجارة والجعالة وعقد المضاربة ، أو من جهة الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف فيه كالوكالة والوديعة ، أو من جهة الأسباب التي تمنع المالك التصرف في ملكه كالرهن والإجارة والتفليس . وأما دفع المضار والمضرة إما في النفس وهو كتاب الجراح أو في الدين وهو كتاب الجهاد وباب الارتداد وأحكام البغاة ، وإما في النسب وهو باب أحكام الزنا والقذف واللعان ، وإما في العقل كباب تحريم الخمر ، وإما في المال والضرر فيه إما على سبيل الإعلان والجهار وهو الغصب وقطع الطريق ، أو على سبيل الخفية وهو السرقة . وهاهنا باب آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه عن نفسه لضعفه فلهذا السبب أمر الله بنصب الإمام لتنفيذ الأحكام ، وقد يكون للإمام نواب وهم الأمراء والقضاة وليس قول الغير مقبولاً إلا بحجة وهي الشهادة والأيمان فحصل من ذلك كتاب آداب القضاء وباب الدعاوى والبينات . فهذا ما أمكن من ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده ، وكلها منوطة بأعمال الجوارح دون أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى . ولكن قوله : { والحافظون لحدود الله } يشمل ذلك أيضاً بل رعايته أهم من رعاية أحوال الظواهر .

ثم ختم الآية بتكرير البشارة وفيه من كمال العناية ما فيه .

/خ119