مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

{ مّثْلُهُمْ كَمِثْلِِ الذي استوقد نَاراً } لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان ، ولضرب الأمثال في إبراز خفيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق تأثير ظاهر ، ولقد كثر ذلك في الكتب السماوية ومن سور الإنجيل سورة الأمثال . والمثل في أصل كلامهم هو المثل وهو النظير . يقال : مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل ولم يضربوا مثلاً إلا قولاً فيه غرابة ولذا حوفظ عليه فلا يغير . وقد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قيل : حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً ، وكذلك قوله { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } [ الرعد : 35 ] أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة الشأن ، ثم أخذ في بيان عجائبها ولله المثل الأعلى أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة ووضع «الذي » موضع الذين كقوله { وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] فلا يكون تمثيل الجماعة بالواحدة ، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أريد الفوج الذي استوقد ناراً على أن ذوات المنافقين لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد . ومعنى استوقد أوقد ، ووقود ووقود النار سطوعها ، والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق ، واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطراباً . { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } الإضاءة فرط الإنارة ومصداقه قوله { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً } [ يونس : 5 ] وهي في الآية متعدية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله ، والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء . وجواب فلما { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } وهو ظرف زمان والعامل فيه جوابه مثل «إذا » . و«ما » موصولة و«حوله » نصب على الظرف أو نكرة موصوفة والتقدير : فلما أضاءت شيئاً ثابتاً حوله . وجمع الضمير وتوحيده للحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى . والنور ضوء النار وضوء كل نير ، ومعنى أذهبه أزاله وجعله ذاهباً ، ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به . والمعنى أخذ بنورهم وأمسكه وما يمسك فلا مرسل له فكان أبلغ من الإذهاب . ولم يقل ذهب الله بضوئهم لقوله «فلما أضاءت » لأن ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة والمراد إزالة النور عنهم رأساً ، ولو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً ، ألا ترى كيف ذكر عقيبه { وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات } والظلمة عرض ينافي النور . وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله { لاَّ يُبْصِرُونَ } وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد ، فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه «وتركهم في ظلمات » أصله «هم في ظلمات » ثم دخل «ترك » فنصب الجزأين والمفعول الساقط من «لا يبصرون » من قبيل المتروك المطروح لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلاً .

وإنما شبهت حالهم بحال المستوقد لأنهم غب الإضاءة وقعوا في ظلمة وحيرة ، نعم المنافق خابط في ظلمات الكفر أبداً ولكن المواد ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق المفضية بهم إلى ظلمة العقاب السرمدي . وللآية تفسير آخر وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات وتنكير النار للتعظيم .