محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ} (30)

ثم أرشد إلى آداب عظيمة تتناول المستأذنين عند دخولهم وغيرهم ، بقوله تعالى :

{ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي مقتضى إيمانكم الغض عما حرم الله تعالى النظر إليه { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } أي عن الإفضاء بها إلى محرم ، أو عن الإبداء والكشف { ذَلِكَ } أي الغض والحفظ { أَزْكَى لَهُمْ } أي أطهر للنفس وأتقى للدين { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } أي بأفعالهم وأحوالهم . وكيف يجيلون أبصارهم ، وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم . فعليهم ، إذا عرفوا ذلك ، أن يكونوا منه على تقوى وحذر ، في كل حركة وسكون . أفاده الزمخشري .

تنبيهات :

الأول – قال السيوطي في ( الإكليل ) : في الآية تحريم النظر إلى النساء وعورات الرجال وتحريم كشفها . أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : كل شيء في القرآن من ( حفظ الفرج ) فهو من الزنى ، إلا هذه الآية والتي بعدها ، فهو أن لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة . انتهى .

وليس بمتعين : وعليه فيكون النهي عن الزنى يعلم منه بطريق الأولى . أو الحفظ عن الإبداء يستلزم الحفظ عن الإفضاء .

الثاني – إن قيل : لم أتى ب ( من ) التبعيضية في غض الأبصار وقيدها به دون حفظ الفروج ؟ مع أنه غير مطلق ومقيد في قوله تعالى {[5812]} : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } لأن المستثنى في الحفظ هو الأزواج والسراري ، وهو قليل بالنسبة لما عداه . فجعل كالعدم ولم يقيد به . مع أنه معلوم من الآية الأخرى . بخلاف ما يطلق فيه البصر . فإنه يباح في أكثر الأشياء ، إلا نظر ما حرم عن قصد . فقيد ( الغض به ) ومدخول ( من ) التبعيضية ينبغي أن يكون أقل من الباقي . وقيل : إن الغض والحفظ عن الأجانب . وبعض الغض ممنوع بالنسبة إليهم ، وبعضه جائز . بخلاف الحفظ فلا وجه لدخول ( من ) فيه . كذا في ( العناية ) . الثالث – سر تقديم غض الأبصار على حفظ الفروج ، هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور . كما قال الحماسي {[5813]}

وكنت ، إذا أرسلت طرفك رائدا *** لقلبك يوما ، أتعبتك المناظر

ولأن البلوى فيه أشد وأكثر . ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه . فبودر إلى منعه . ولأنه يتقدم الفجور في الواقع ، فجعل النظم على وفقه .

الرابع : غض البصر من أجل الأدوية لعلاج أمراض القلوب . وفيه حسم لمادتها قبل حصولها . فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس . ومن أطلق لحظاته ، دامت حسراته .

كل الحوادث مبداها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ( الجواب الشافي ) : في غض البصر عدة منافع : أحدها – امتثال أمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده . وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى . وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة ، إلا بامتثال أوامر ربه ، وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره .

الثاني – أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم ، الذي لعل فيه هلاكه ، إلى قلبه .

الثالث – أنه يورث القلب أنسا بالله وجمعية على الله . فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده من الله . وليس على العبد شيء أضر من إطلاق البصر . فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه .

الرابع – أنه يقوي القلب ويفرحه . كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه .

الخامس – أنه يكسب القلب نورا . كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة ، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر ، فقال {[5814]} : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم } ثم قال {[5815]} إثر ذلك : { الله نور السماوات والأرض } أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن ، الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه . وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب . كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان . فما شئت من بدعة وضلالة ، واتباع هوى واجتناب هدى ، وإعراض عن أسباب السعادة ، واشتغال بأسباب الشقاوة . فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب . فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام .

السادس – أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل والصادق والكاذب . وكان شاه بن شجاع الكرماني يقول : من عمر ظاهره باتباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم . وكف نفسه عن الشهوات ، واعتاد أكل الحلال – لم تخطئ له فراسة .

وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة ، والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله . ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه . فإذا غض بصره عن محارم الله ، عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته عوضا عن حبسه بصره الله . ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة ، والفراسة الصادقة المصيبة ، التي إنما تنال ببصيرة القلب . وضد هذا ما وصف الله به اللوطية من العمه الذي هو ضد البصيرة ، فقال تعالى {[5816]} : { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل ، والعمه الذي هو فساد البصيرة . فالتعلق بالصور يوجب إفساد العقل ، وعمه البصيرة يسكر القلب ، كما قال القائل :

سكران : سكر هوى وسكر مدامة *** ومتى إفاقة من به سكران ؟

وقال الآخر :

قالوا : جننت بمن تهوى فقلت لهم : *** العشق أعظم مما بالمجانين

العشق لا يستفيق الدهر صاحبه *** وإنما يصرع المجنون في الحين

السابع – أنه يورث القلب ثباتا وشجاعة وقوة . ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة ، وسلطان القدرة والقوة . كما في الأثر ( الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ) . وضد هذا تجده في المتبع هواه ، من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها . وما جعل الله سبحانه فيمن عصاه . كما قال الحسن : إنهم وإن طقطقت بهم البغال ، وهملجت بهم البراذين ، فإن المعصية لا تفارق رقابهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه . وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته ، والذل قرين معصيته ، فقال تعالى {[5817]} : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } وقال تعالى {[5818]} : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } والإيمان قول وعمل ظاهر وباطن . وقال تعالى {[5819]} : { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } أي من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله وذكره ، من الكلم الطيب . والعمل الصالح . وفي دعاء القنوت {[5820]} : ( إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ) ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه . وله من العز بحسب طاعته . ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه . وله من الذل بحسب معصيته .

الثامن – أنه يسد على الشيطان مدخله من القلب . فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب ، أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي . فيمثل له صورة المنظور إليه ، ويزينها ويجعلها صنما يعكف عليه القلب . ثم يعده ويمنيه . ويوقد على القلب نار الشهوة . ويلقي عليه حطب المعاصي . التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة . فيصير القلب في اللهب . فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار . وتلك الزفرات والحرقات . فإن القلب قد أحاطت به نيران بكل جانب . فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور ، ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة ، أن جعل لهم في البرزخ تنور من نار ، وأودعت أرواحهم فيه ، إلى حشر أجسادهم . كما أراها الله نبيه صلى الله عليه وسلم في المنام في {[5821]} الحديث المتفق على صحته .

التاسع – أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها . وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول عليه بينه وبينها . فتفرط عليه أموره ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن أمر ربه ، قال تعالى {[5822]} : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه .

العاشر – أن بين العين والقلب منفذا وطريقا يوجب انفعال أحدهما عن الآخر . وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده . فإذا فسد القلب فسد النظر . وإذا فسد النظر فسد القلب . وكذلك في جانب الصلاح . فإذا خربت العين وفسدت ، خرب القلب وفسد ، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ . فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه . وإنما يسكن فيه أضداد ذلك . فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر ، تطلعك على ما وراءها . انتهى .


[5812]:(23 المؤمنون 5).
[5813]:ديوان الحماسة الحماسية رقم 465. لم يعلم قائله. وثانيه: رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه، ولا عن بعضه أنت صابر والرائد الذي يتقدم الواردة، ليتأمل حال الماء والكلإ لهم.
[5814]:(24 النور 30).
[5815]:(24 النور 35).
[5816]:(150 الحجر 72).
[5817]:(63 المنافقون 8).
[5818]:(3 آل عمران 139).
[5819]:(35 فاطر 10).
[5820]:أخرجه أبو داود في: 8 – كتاب الوتر، 5 - باب القنوت في الوتر، حديث رقم 1425.
[5821]:يشير إلى حديث رؤياه صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخرجه البخاري في: 91 – كتاب التعبير، 48 – باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح عن سمرة بن جندب، حديث رقم 501.
[5822]:(18 الكهف 28).