عرف بعضه : أعلمها ببعض الحديث الذي أفشته .
{ وَإِذَ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } ، وقد تمّ شرحُ هذا فيما سبق
أما « عرّف بعضَه وأعرضَ عن بعض » فهو أن الله أطلَع رسولَه على ما دار بين حفصة وعائشة ، وأخبر الرسول حفصةَ ببعض الحديث الذي أفشَتْه ، وأعرضَ عن بعض الحديث وهو قولُه : وقد حلفتُ .
{ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِيَ العليم الخبير } .
فلما أخبر حفصةَ أنه يعرف ما دار بينَهما استغربتْ وسألتْه : من الذي أخبرك بهذا ؟ قال : أخبرني به اللهُ العليم بكل شيء ، الخبيرُ الذي لا تخفَى عليه خافية .
قرأ الكسائي وحده : عرف بعضه بفتح العين والراء بلا تشديد ، والباقون عرَّف بتشديد الراء المفتوحة .
{ وَإِذ أَسَرَّ } أي واذكر ( إِذْ أَسَرَّ ) { النبي إلى بَعْضِ أزواجه } هي حفصة على ما عليه عامة المفسرين ، وزعم بعض الشيعة أنها عائشة وليس له في ذلك شيعة ، نعم رواه ابن مردويه عن ابن عباس وهو شاذ { حَدِيثاً } هو قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات : «لكني كنت أشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً » { فَلَمَّا نَبَّأَتْ } أي أخبرت .
وقرأ طلحة أنبأت { بِهِ } أي بالحديث عائشة لأنهما كانتا متصادقتين ، وتضمن الحديث نقصان حظ ضرتهما زينب من حبيبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث إنه عليه الصلاة والسلام كما في البخاري . وغيره كان يمكث عندها لشرب ذلك وقد اتخذ ذلك عادة كما يشعر به لفظ كان فاستخفها السرور فنبأت بذلك { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } أي جعل الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً على الحديث مطلعاً عليه من قوله تعالى : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ } [ التوبة : 33 ] والكلام على ما قيل : على التجوز ، أو تقدير مضاف أي على إفشائه ، وجوز كون الضمير لمصدر { نَبَاتُ } وفيه تفكيك الضمائر ، أو جعل الله تعالى الحديث ظاهراً على النبي صلى الله عليه وسلم فهو نظير ظهر لي هذه المسألة وظهرت على إذا كان فيه مزيد كلفة واهتمام بشأن الظاهر فلا تغفل { عَرَّفَ } أي النبي صلى الله عليه وسلم حفصة { بَعْضَهُ } أي الحديث أي أعلمها وأخبرها ببعض الحديث الذي أفشته .
والمراد أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : قلت كذا لبعض ما أسره إليها قيل : هو قوله لها : «كنت شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش فلن أعود » { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } هو على ما قيل قوله عليه الصلاة والسلام : «وقد حلفت » فلم يخبرها به تكرماً لما فيه من مزيد خجلتها حيث إنه يفيد مزيد اهتمامه صلى الله عليه وسلم بمرضاة أزواجه وهو لا يحب شيوع ذلك ، وهذا من مزيد كرمه صلى الله عليه وسلم .
وقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه ما استقصى كريم قط ، وقال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام ، وقال الشاعر :
ليس الغبي بسيد في قومه *** لكن سيد قومه المتغابي
وجوز أن يكون { عَرَّفَ } بمعنى جازى أي جازاها على بعض بالعتب واللوم أو بتطليقه عليه الصلاة والسلام إياها ، وتجاوز عن بعض ، وأيد بقراءة السلمى . والحسن . وقتادة . وطلحة . والكسائي . وأبي عمرو في رواية هارون عنه { عَرَّفَ } بالتخفيف لأنه على هذه القراءة لا يحتمل معنى العلم لأن العلم تعلق به كله بدليل قوله تعالى : { حَرَّمَ الله عَلَيهِ } مع أن الإعراض عن الباقي يدل على العلم فتعين أن يكون بمعنى المجازاة .
قال الأزهري في «التهذيب » : من قرأ { عَرَّفَ } بالتخفيف أراد معنى غضب وجازى عليه كما تقول للرجل يسيء إليك : والله لأعرفن لك ذلك ، واستحسنه الفراء ، وقول «القاموس » : هو بمعنى الإقرار لا وجه له ههنا ، وجعل المشدد من باب إطلاق المسبب على السبب والمخفف بالعكس ، ويجوز أن تكون العلاقة بين المجازاة والتعريف اللزوم ، وأيد المعنى الأول بقوله تعالى : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ } لتعرف هل فضحتها عائشة أم لا ؟ { مَنْ أَنبَأَكَ هذا قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم الخبير } الذي لا تخفي عليه خافية فإنه أوفق للإعلام ، وهذا على ما في «البحر » على معنى بهذا ، وقرأ ابن المسيب . وعكرمة عراف بعضه بألف بعد الراء وهي إشباع ، وقال ابن خالويه . ويقال : إنها لغة يمانية .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس . وابن أبي حاتم عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر إلى حفصة تحريم مارية وأن أبا بكر . وعمر يليان الناس بعده فأسرت ذلك إلى عائشة فعرف بعضه وهو أمر مارية وأعرض عن بعض وهو أن أبا بكر . وعمر يليان بعده مخافة أن يفشو ، وقيل : بالعكس ، وقد جاء أسرار أمر الخلافة في عدة أخبار ؛ فقد أخرج ابن عدي . وأبو نعيم في فضائل الصديق ، وابن مردويه من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه . وابن عباس قالا : إن أمارة أبي بكر . وعمر لفي كتاب الله { وَإِذَ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أزواجه حَدِيثاً } قال لحفصة : " أبوك . وأبو عائشة واليا الناس بعدي فإياك أن تخبري أحداً " .
وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة عن الضحاك أنه قال : في الآية أسر صلى الله عليه وسلم إلى حفصة أن الخليفة من بعده أبو بكر ومن بعد أبي بكر عمر ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران نحوه ، وفي «مجمع البيان » للطبرسي من أجل الشيعة عن الزجاج قال : لما حرم عليه الصلاة والسلام مارية القبطية أخبر أنه يملك من بعده أبو بكر . وعمر فعرفها بعض ما أفشت من الخبر وأعرض عن بعض أن أبا بكر . وعمر يملكان من بعدي ، وقريب من ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه إلا أنه زاد في ذلك أن كل واحدة منهما حدثت أباها بذلك فعاتبهما في أمر مارية وما أفشتا عليه من ذلك ، وأعرض أن يعاتبهما في الأمر الآخر انتهى .
وإذا سلم الشيعة صحة هذا لزمهم أن يقولوا بصحة خلافة الشيخين لظهوره فيها كما لا يخفي ، ثم إن تفسير الآية على هذه الأخبار أظهر من تفسيرها على حديث العسل لكن حديثه أصح ، والجمع بين الأخبار مما لا يكاد يتأتى .
وقصارى ما يمكن أن يقال : يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد شرب عسلاً عند زينب كما هو عادته ، وجاء إلى حفصة فقالت له ما قالت فحرم العسل ، واتفق له عليه الصلاة والسلام قبيل ذلك أو بعيده أن وطىء جاريته مارية في بيتها في يومها على فراشها فوجدت فحرم صلى الله عليه وسلم مارية ، وقال لحفصة ما قال تطييباً لخاطرها واستكتمها ذلك فكان منها ما كان ، ونزلت الآية بعد القصتين فاقتصر بعض الرواة على إحداهما . والبعض الآخر على نقل الأخرى ، وقال كل : فأنزل الله تعالى { يا أيها النبي } [ التحريم : 1 ] الخ ، وهو كلام صادق إذ ليس فيه دعوى كل حصر علة النزول فيما نقله فإن صح هذا هان أمر الاختلاف وإلا فاطلب لك غيره ، والله تعالى أعلم .
واستدل بالآية على أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق ، وأنه يلزمه كتمه ، وفيها على ما قيل : دلالة على أنه يحسن حسن العشرة مع الزوجات والتلطف في العتب والإعراض عن استقصاء الذنب ، وقد روي أن عبد الله بن رواحة وكان من النقباء كانت له جارية فاتهمته زوجته ليلة ، فقال قولاً بالتعريض ، فقالت : إن كنت لم تقربها فاقرأ القرآن فأنشد :
شهدت فلم أكذب بأن محمدا *** رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى . ويحيى كلاهما *** له عمل في دينه متقبل
وأن التي بالجزع من بطن نخلة *** ومن دانها كل عن الخير معزل
وفينا رسول الله يتلو كتابه *** كما لاح معروف من الصبح ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا *** به موقنات إن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا رقدت بالكافرين المضاجع
شهدت بأن وعد الله حق *** وأن النار مثوى الكافرينا
وأن محمداً يدعو بحق *** وأن الله مولى المؤمنينا
وأن العرش فوق الماء طاف *** وفوق العرش رب العالمينا
ويحمله ملائكة شداد *** ملائكة الإله مسومينا
فقالت : أما إذ قرأت القرآن فقد صدقتك ، وفي رواية أنها قالت وقد كانت رأته على ما تكره إذن صدق الله وكذب بصري ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فتبسم ، وقال : «خيركم خيركم لنسائه » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه} يعني حفصة {حديثا فلما نبأت} حفصة {به} عائشة يقول: أخبرت به عائشة يعني الحديث الذي أسر إليها النبي صلى الله عليه وسلم من أمر مارية {وأظهره الله عليه} يعني أظهر الله النبي صلى الله عليه وسلم على قول حفصة لعائشة فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها ببعض ما قالت لعائشة، ولم يخبرها بعملها أجمع، فذلك قوله: {عرف} النبي صلى الله عليه وسلم {بعضه} بعض الحديث {وأعرض عن بعض} الحديث... {فلما نبأها} النبي صلى الله عليه وسلم {به} بما أفشت عليه {قالت} حفصة للنبي صلى الله عليه وسلم {من أنبأك هذا} الحديث {قال} النبي صلى الله عليه وسلم {نبأني} يعني أخبرني {العليم} بالسر {الخبير} به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: "وَإذْ أسَرّ النّبِيّ محمد صلى الله عليه وسلم إلى "بَعْض أزْوَاجِهِ"، وهو في قول ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن بن زيد والشعبي والضحاك بن مزاحم: حَفْصَةُ. وقد ذكرنا الرواية في ذلك قبل. وقوله: "حَديثا "والحديث الذي أسرّ إليها في قول هؤلاء هو قوله لمن أسرّ إليه ذلك من أزواجه تحريمُ فتاته، أو ما حرّم على نفسه مما كان الله جلّ ثناؤه قد أحله له، وحلفه على ذلك وقوله: «لا تَذْكُرِي ذَلِكَ لأَحَدٍ».
وقوله: "فَلَمّا نَبّأَتْ بِهِ" يقول تعالى ذكره: فلما أخبرت بالحديث الذي أسرّ إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبتها "وأظْهَرَهُ عَلَيْهِ" يقول: وأظهر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على أنها قد أنبأت بذلك صاحبتها.
وقوله: "عَرّفَ بَعْضَهُ وأعْرَضَ عَنْ بَعْض" اختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأته عامة قرّاء الأمصار غير الكسائي: "عَرّفَ" بتشديد الراء، بمعنى: عرّف النبيّ صلى الله عليه وسلم حفصة بعض ذلك الحديث وأخبرها به، وكان الكسائي يذكر عن الحسن البصريّ وأبي عبد الرحمن السلمي وقتادة، أنهم قرأوا ذلك: «عَرَفَ» بتخفيف الراء، بمعنى: عرف لحفصة بعض ذلك الفعل الذي فعلته من إفشائها سرّه، وقد استكتمها إياه: أي غضب من ذلك عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجازاها عليه من قول القائل لمن أساء إليه: لأعرفنّ لك يا فلان ما فعلت، بمعنى: لأجازينك عليه، قالوا: وجازاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من فعلها بأن طلقها. وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه "عَرّفَ بَعْضَهُ" بتشديد الراء، بمعنى: عرّف النبيّ صلى الله عليه وسلم حفصة، يعني ما أظهره الله عليه من حديثها صاحبتها لإجماع الحجة من القرّاء عليه. وقوله: "وأعْرَضَ عَنْ بَعْض" يقول: وترك أن يخبرها ببعض...
وقوله: "فَلَمّا نَبّأَها بِهِ" يقول: فلما خبر حفصة نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بما أظهره الله عليه من إفشائها سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة قالت: "منْ أنْبأَكَ هَذَا" يقول: قالت حفصةُ لرسول الله: من أنبأك هذا الخبر وأخبرك به؟ "قالَ نَبّأَنَي العَلِيمُ الخَبِيرُ" يقول تعالى ذكره: قال محمد نبيّ الله لحفصة: خبرني به العليم بسرائر عباده، وضمائر قلوبهم، الخبير بأمورهم، الذي لا يخفى عنه شيء...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... قوله تعالى: {عرف بعضه وأعرض عن بعض}... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفها بعض ما أنبأت من القصة التي أسر إليها، ولم يعرّفها البعض، لأنه لم يكن القصد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرها بذلك النبإ الذي أسرّت به إليها، وإنما كان المقصود منه تنبيهها بما أظهرت من السر، وأفشت إلى صاحبتها لتنزجر عن المعاودة إلى مثله...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(وإذ أسر النبي)... فالإسرار: إلقاء المعنى إلى نفس المحدث على وجه الإخفاء عن غيره... والإسرار نقيض الإعلان...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وأعرض عن بعض} أي تكرماً وحياء وحسن عشرة، قال الحسن: ما استقصى كريم قط، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حينئذ حفصة، ثم إن الله تعالى أمره بمراجعتها، وروي أنه عاتبها ولم يطلقها، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بالخبر، وأنها أفشته إلى عائشة، ظنت أن عائشة فضحتها، فقالت: من أنبأك هذا؟ على جهة التثبت؟ فلما أخبرها أن الله تعالى أخبره، سكتت وسلمت...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإذ} أي و اذكروا كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم وطاهر شمائله في عشرتهن حين {أسر النبي} أي الذي شأنه أن يرفعه الله دائماً...
{إلى بعض أزواجه} وهي حفصة رضي الله عنها، كنى عنها صيانة لهن لأن حرمتهن رضي الله عنهن من حرمته صلى الله عليه وسلم {حديثاً} ليس هو من شأن الرسالة ولو كان من شأنها لهم به وأعلنه ولم يخص به ولا أسره وذلك هو تحريم مارية رضي الله عنها ووعده بأن يترك العسل وبشارته بولاية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يبين الحديث ويفصله إكراماً له صلى الله عليه وسلم وحفظاً لسره...
{فلما نبأت} أي أخبرت إخباراً عظيماً جليلاً لشرفه في نفسه ولأنه من عند الله وبالغت في ذلك وأخبرت {به} كله من جميع وجوهه...
{وأظهره الله} أي أطلعه الملك الذي له الإحاطة بكل شيء {عليه} أي الحديث بأنه قد أفشى مناصحة له في إعلامه بما يقع في غيبته ليحذره إن كان شراً ويثيب عليه إن كان خيراً {عرف} أي النبي صلى الله عليه وسلم التي أسر إليها {بعضه} وهو أمر الخلافة عتاباً لها عليه لأنه كان أوصاها أن لا تظهره، والكف عن بعض العتب أبعث على حياء المعتوب وأعون على توبته وعدم عدده إلى فعل مثله {وأعرض عن بعض} وهو أمر السرية والعسل تكرما منه أن يستقصي في العتاب وحياء وحسن عشرة...
{فلما نبأها} بما فعلت من إفشاء ما عرفها منه على وجه لم يغادر من ذلك الذي عرفها {به} شيئاً منه ولا من عوارضه ليزداد بصيرة... {قالت} أي ظناً منها أن عائشة رضي الله عنها أفشت عليها {من أنبأك هذا} أي مطلق إخبار، واستأنف قوله: {قال نبأني} وحذف المتعلق اختصاراً للفظ وتكثيراً للمعنى بالتعميم إشارة إلى أنه أخبره بجميع ما دار بينها وبين عائشة رضي الله عنهما مما عرفها به ومن غيره على أتم ما كان {العليم} أي المحيط بالعلم {الخبير} أي المطلع على الضمائر والظواهر فهو أهل لأن يحذر فلا يتكلم سراً ولا جهراً إلا بما يرضيه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا).. ومن النص نطلع على نموذج من تلك الفترة العجيبة في تاريخ البشرية. الفترة التي يعيش فيها الناس مع السماء. والسماء تتدخل في أمرهم علانية وتفصيلا. ونعلم أن الله قد أطلع نبيه على ما دار بين زوجيه بشأن ذلك الحديث الذي أسره إلى بعض أزواجه. وأنه [صلى الله عليه وسلم] حين راجعها فيه اكتفى بالإشارة إلى جانب منه. ترفعا عن السرد الطويل، وتجملا عن الإطالة في التفصيل؛ وأنه أنبأها بمصدر علمه وهو المصدر الأصيل: (فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض. فلما نبأها به قالت: من أنبأك هذا؟ قال: نبأني العليم الخبير).. والإشارة إلى العلم والخبرة هنا إشارة مؤثرة في حالة التآمر والمكايدات المحبوكة وراء الأستار! ترد السائلة إلى هذه الحقيقة التي ربما نسيتها أو غفلت عنها، وترد القلوب بصفة عامة إلى هذه الحقيقة كلما قرأت هذا القرآن...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {أسر} أخبر بما يراد كتمانه عن غير المخبر أو سأله عدم إفشاء شيء وقع بينهما وإن لم يكن إخباراً وذلك إذا كان الخبر أو الفعل يراد عدم فشوّه فيقوله صاحبه سرّاً والسرّ ضد الجهر، و {بعض أزواجه} هي حفصة بنت عمر بن الخطاب. وعدل عن ذكر اسمها ترفعاً عن أن يكون القصد معرفة الأعيان وإنما المراد العلم بمغزى القصة وما فيها مما يجتنب مثله أو يقتدى به. وكذلك طي تعيين المنبَّأة بالحديث وهي عائشة. وذكرت حفصة بعنوان بعض أزواجه للإِشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع سِرّه في موضعه لأن أولى الناس بمعرفة سرّ الرجل زوجهُ. وفي ذلك تعريض بملامها على إفشاء سرّه لأن واجب المرأة أن تحفظ سرّ زوجها إذا أمرها بحفظه أو كان مثله مما يجب حفظه.
ومعنى و {وأظهره الله عليه} أطلعه عليه وهو مشتق من الظهور بمعنى التغلب...
.وضمير {عليه} عائد إلى الإِنباء المأخوذ من {نبأت به} أو على الحديث بتقدير مضاف يدل عليه قوله: {نبأت به} تقديره: أظهره الله على إفشائه. وهذا تنبيه إلى عناية الله برسوله صلى الله عليه وسلم وانتصاره له لأن إطلاعه على ما لا علم له به مما يهمه، عناية ونصح له. ومفعول {عرف} الأولُ محذوف لدلالة الكلام عليه، أي عرفها بعضه، أي بعض ما أطْلعه الله عليه، وأعرض عن تعريفها ببعضه. وإنما عرّفها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليوقفها على مخالفتها واجب الأدب من حفظ سرّ زوجها. وقولها: {من أنبأك هذا} يدل على ثقتها بأن عائشة لا تفشي سرّها وعلمت أنه لا قبل للرسول صلى الله عليه وسلم بعلم ذلك إلا من قبل عائشة أو من طريق الوحي فرامت التحقق من أحد الاحتمالين. والاستفهام حقيقي ولك أن تجعله للتعجب من علمه بذلك. وفي هذا كفاية من تيقظها بأن إفشاءها سرّ زوجها زَلة خُلقية عظيمة حجبها عن مراعاتها شدة الصفاء لعائشة وفرط إعجابها بتحريم مارية لأجلها، فلم تتمالك عن أن تبشر به خليلتها ونصيرتها ولو تذكرت لتبين لها أن مقتضى كتم سرّ زوجها أقوى من مقتضى إعلامها خليلتها فإن أواصر الزوجية أقوى من أواصر الخلة وواجب الإِخلاص لرسول الله أعلى من فضيلة الإِخلاص للخلائل. وإيثار وصفي {العليم الخبير} هنا دون الاسم العَلَم لما فيهما من التذكير بما يجب أن يعلمه الناس من إحاطة الله تعالى علماً وخُبْراً بكل شيء. و {العليم}: القوي العلم وهو في أسمائه تعالى دالّ على أكمل العلم، أي العلم المحيط بكل معلوم. و {الخبير}: أخص من العليم لأنه مشتق من خبر الشيء إذا أحاط بمعانيه ودخائله ولذلك يُقال خبرته، أي بلوته وتطلعتُ بواطن أمره. أتبع وصف {العليم} بوصف {الخبير} إيماء إلى أن الله علم دخيلة المخاطبة وما قصدته من إفشاء السرّ للأخرى...