{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أي اذكر أو أندر يوم الخ فيوم مفعول به لمقدر ، وقيل : هو ظرف لظلام ، وقال الزمخشري : يجوز أن ينتصب ب { نفخ } [ ق : 20 ] كأنه قيل : ونفخ في الصور يوم ، وعليه يشار ب { ذلك } [ ق : 20 ] إلى { يَوْمَ نَقُولُ } لأن الإشارة إلى ما بعد جائزة لاسيما إذا كانت رتبته التقديم فكأنه قيل : ذلك اليوم أي يوم القول يوم الوعيد ، ولا يحتاج إلى حذف على ما مر في الوجه الذي أشير به إلى النفخ .
وهذا الوجه كما قال في «الكشف » : فيه بعد لبعده عن العامل وتخلل ما لا يصلح اعتراضاً على أن زمان النفخ ليس يوم القول إلا على سبيل فرضه ممتداً واقعاً ذلك في جزء منه وهذا في جزء وكل خلاف الظاهر فكيف إذا اجتمعت .
وقال أبو حيان : هو بعيد جداً قد فصل عليه بين العامل والمعمول بجمل كثيرة فلا يناسب فصاحة القرآن الكريم وبلاغته ، والظاهر إبقاء السؤال والجواب على حقيقتهما ، وكذا في نظير ذلك من اتكاء النار والإذن لها بنفسين وتحاج النار والجنة ، ونحن متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم لا يمنع مانع ولا مانع ههنا ، فإن القدرة صالحة والعقل مجوز والظواهر قاضية بوقوع ماجوزه العقل ، وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس على أمور الدنيا .
وقال الرماني : الكلام على حذف مضاف أي نقول لخزنة جهنم ، وليس بشي .
وقال غير واحد ؛ هو من باب التمثيل والمعنى أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها نطرح فيها من الجنة والناس فوجاً بعد فوج حتى تمتلىء ولا تقبل الزيادة ، فالاستفهام للإنكار أي لا مزيد على امتلائها وروى هذا عن ابن عباس . ومجاهد . والحسن ، وجوز في نفي الزيادة أن يكون على ظاهره وأن يكون كناية أو مجازاً عن الاستكثار ، وقيل : المعنى أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها فراغ وخلو ، فالاستفهام للتقرير أي فيها موضع للمزيد لسعتها ، وجوز أن يكون ذلك كناية عن شدة غيظها على العصاة كأنها طالبة لزيادتهم .
واستشكل دعوى أن فيها فراغاً بأنه مناف لصريح قوله تعالى : { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ } [ ص : 85 ] الآية . وأجيب بأنه لا منافاة لأن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن يسكنها وإن كان فيها فراغ كثير كما يقال : إن البلدة ممتلئة بأهلها ليس فيها دار خالية مع ما بينها من الأبنية والأفضية أو أن ذلك باعتبار حالين فالفراغ في أول الدخول فيها ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلىء ، هذا ويدل غير ما حديث أنها تطلب الزيادة حقيقة إلا أنه لا يدري حقيقة ما يوضع فيها حتى تمتلىء إذ الأحاديث في ذلك من المتشابهات التي لا يراد بها ظواهرها عند الأكثرين .
أخرج أحمد . والبخاري . ومسلم . والترمذي . والنسائي . وغيرهم عن أنس قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشى الله لها خلقاً آخر فيسكنهم في فضول الجنة »
وأخرج الشيخان . وغيرهما عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله تعالى للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فإم النار فلا تمتلى حتى يضع رجله فتقول قط قط فهناك تمتلىء ويزوى بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحداً وأما الجنة فإن الله تعالى ينشى لها خلقاً » وأول أهل التأويل ذلك ، فقال النضر بن شميل : إن القدم الكفار الذين سبق في علمه تعالى دخولهم النار والقدم تكون بمعنى المتقدم كقوله تعالى : { قَدَمَ صِدْقٍ } [ يونس : 2 ] وظاهر الحديث عليه يستدعي دخول غير الكفار قبلهم وهو في غاية البعد ؛ ولعل في الأخبار ما ينافيه .
وقال ابن الأثير : قدمه أي الذين قدمهم لها من شرار خلقه فهم قدم الله تعالى للنار كما أن المسلمين قدمه للجنة والقدم كل ما قدمت من خير أو شر وهو كما ترى ، ويبعده مافي حديث أحمد . وعبد بن حميد . وابن مردويه عن أبي سعيد مرفوعاً «فيلقى فيها أي النار أهلها فتقول : هل من مزيد ويلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يأتيها عز وجل فيضع قدمه عليها فتنزوي وتقول : قدني قدني » وأولوا الرجل بالجماعة ومنه ما جاء في أيوب عليه السلام أنه كان يغتسل عرياناً فخر عليه رجل من جراد ، والإضافة إلى ضميره تعالى تبعد ذلك ، وقيل : وضع القدم أو الرجل على الشيء مثل للردع والقمع فكأنه قيل : ياتيها أمر الله تعالى فيكفها من طلب المزيد .
وقريب منه ما ذهب إليه بعض الصوفية أن القدم يكنى بها عن صفة الجلال كما يكنى بها عن صفة الجمال ، وقيل : أريد بذلك تسكين فورتها كما يقال للأمر : تريد إبطاله وضعته تحت قدمي أو تحت رجلي ، وهذان القولان أولى مما تقدم والله تعالى أعلم . والمزيد إما مصدر ميمي كالمحيد أو اسم مفعول أعل إعلال المبيع .
وقرأ الأعرج . وشيبة . ونافع . وأبو بكر . والحسن . وأبو رجاء . وأبو جغفر . والأعمش { يَوْمَ يَقُولُ } بياء الغيبة . وقرأ عبد الله . والحسن . والأعمش أيضاً { يُقَالُ } مبنياً للمفعول .
{ 30-35 } { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }
يقول تعالى ، مخوفًا لعباده : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ } وذلك من كثرة ما ألقي فيها ، { وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } أي : لا تزال تطلب الزيادة ، من المجرمين العاصين ، غضبًا لربها ، وغيظًا على الكافرين .
وقد وعدها الله ملأها ، كما قال تعالى { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } حتى يضع رب العزة عليها قدمه الكريمة المنزهة عن التشبيه ، فينزوي بعضها على بعض ، وتقول : قط قط ، قد اكتفيت وامتلأت .
قوله تعالى : { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد 30 وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد 31 هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ 32 من خشي الرحمان بالغيب وجاء بقلب منيب 33 ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود 34 لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد } .
قوله : { يوم نقول لجهنم هل امتلأت } { يوم } منصوب بفعل مقدر ، أي وأنذرهم { يوم نقول لجهنم هل امتلأت } وذلك أن جهنم موعودة من الله أن يملأها من أعدائه الجاحدين . والنار بتوقدها المتسعّر ولظاها المتأجج المضطرم دائمة التغيظ من الجاحدين المكذبين فهي تتربص بهم لالتهامهم وتحريقهم . وهي كلما ألقمت فوجا من العصاة المكذبين استزادت وهتفت { وتقول هل من مزيد } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنّمَ "يقول: وما أنا بظلام للعبيد في "يَوْمَ نَقُولُ لجَهَنّمَ هَلْ امْتَلأْتِ" وذلك يوم القيامة، ويوم نقول من صلة ظلاّم. وقال تعالى ذكره لجهنم يوم القيامة: هَلِ امْتَلأْتِ؟ لما سبق من وعده إياها بأنه يملأها من الجِنّة والناس أجمعين.
وأما قوله: "هَلْ مِنْ مَزِيدٍ" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛
فقال بعضهم: معناه: ما من مزيد. قالوا: وإنما يقول الله لها: هل امتلأت بعد أن يضع قدمه فيها، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قطِ قطِ، من تضايقها، فإذا قال لها وقد صارت كذلك: هل امتلأت؟ قالت حينئذ: هل من مزيد: أي ما من مزيد، لشدّة امتلائها، وتضايق بعضها إلى بعض...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: زدني، إنما هو هل من مزيد، بمعنى الاستزادة...
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو بمعنى الاستزادة، هل من شيء أزداده؟
وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدثني أحمد بن المقدام العجلي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاويّ، قال: حدثنا أيوب، عن محمد، عن أبي هُريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ، لَمْ يَظْلِمِ اللّهُ أحَدا مِنْ خَلْقِهِ شَيْئا، وَيُلْقِي فِي النّارِ، تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حتى يَضَعَ عَلَيْها قَدَمَهُ، فَهُنالكَ يَمْلأُها، وَيُزْوَى بَعْضُها إلى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ».
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{يوم نقول لجهنم هل امتلأت} وهذا استفهام تحقيق، وذلك أن الله عز وجل وعدها أن يملأها، فلما ملأها قال لها {هل امتلأت وتقول هل من مزيد} أي هل بقي في موضع لم يمتلئ، أي قد امتلأت...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة: هل امتلأت؟ وذلك أنه وعدها أن سيملأها من الجنة والناس أجمعين، فهو سبحانه يأمر بمن يأمر به إليها، ويلقى وهي تقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} أي: هل بقي شيء تزيدوني؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية، وعليه تدل الأحاديث: قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدثنا حَرَمي بن عُمَارة حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُلقَى في النار، وتقول: هل من مزيد، حتى يضع قدمه فيها، فتقول قط قط "...
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط، وعزتك وكَرَمِك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة". ثم رواه مسلم من حديث قتادة، بنحوه. ورواه أبان العطار وسليمان التيمي، عن قتادة، بنحوه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يوم} ولما كان المقصود الإعلام بأن النار كبيرة مع ضيقها، فهي تسع من الخلائق ما لا يقع تحت حصر، وأنها مع كراهتها لمن يصلاها وتجهمها لهم تحب تهافتهم فيها وجلبهم إليها عبر عنه على طريق الكناية بقوله: {نقول} أي على ما لنا من العظمة التي لا- يسوغ لشيء أن يخفى عنها {لجهنم} دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم إظهاراً للهول بتصوير الأمر المهدد به، وتقريع الكفار، وتنبيه من يسمع هذا الخبر عن هذا السؤال من الغفلة: {هل امتلأت}...
وذلك بعد أن يلقى فيها من الخلائق ما لا يحيط به الوصف، فتقول: لا، {وتقول} طاعة لله ومحبة في عذاب أعدائه وإخباراً بأنها لم تمتلئ لأن النار من شأنها أنها كلما زيدت حطباً زادت لهباً: {هل من مزيد} أي زيادة أو شيء من العصاة إزادة، سواء كان كثيراً أو قليلاً، فإني أسع ما يؤتى به إليّ ولا تزال كذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(هل امتلأت؟) واكتفيت! ولكنها تتلمظ وتتحرق، وتقول في كظة الأكول النهم: (هل من مزيد؟!).. فيا للهول الرعيب!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ظرف متعلق ب {قال لا تختصموا لدى} [ق: 28]. والتقدير: قال لهم في ذلك القول يوم يقول قولاً آخر لجهنم {هل امتلأت}. ومناسبته تعليقه به أن هذا القول لجهنم مقصود به ترويع المدفوعين إلى جهنم أن لا يطمعوا في أن كثرتهم يضيق بها سعة جهنم فيطمع بعضهم أن يكون ممن لا يوجد له مكان فيها، فحكاه الله في القرآن عبرة لمن يسمعه من المشركين وتعليماً لأهل القرآن المؤمنين ولذلك استوت قراءة {يقول} بالياء، وهي لنافع وأبي بكر عن عاصم جريا على مقتضى ظاهر ما سبقه من قوله: {قال لا تختصموا لدى}. وقراءة الباقين بالنون على الالتفات بل هو التفات تابع لتبديل طريق الإخبار من الحديث عن غائب إلى خطاب حاضر.
والقول الأول حقيقي وهو كلام يصدر من جانب الله بمحض خلقه دون واسطة. فلذلك أسند إلى الله كما يقال القرآن كلام الله.
والاستفهام في {هل امتلأت} مستعمل في تنبيه أهل العذاب إلى هذا السؤال على وجه التعريض.
وأما القول لجهنم فيجوز أن يكون حقيقة بأن يخلق الله في أصوات لهيبها أصواتاً ذات حروف يلتئم منها كلام، ويجوز أن يكون مجازاً عن دلالة حالها على أنها تسع ما يلقى فيها من أهل العذاب بأن يكشف باطنها للمعروضين عليها حتى يروا سعتها...
والاستفهام في {هل من مزيد} مستعمل للتشويق والتمنّي.
وفيه دلالة على أن الموجودات مشوقة إلى الإيفاء بما خلقت له كما قال الشيطان {قال فبما أغويتني لأقعُدَنّ لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16]. وفيه دلالة على إظهار الامتثال لما خلقها الله لأجله، ولأنها لا تتلكّأ ولا تتعلل في أدائه على أكمل حال في بابه.