الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَوۡمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمۡتَلَأۡتِ وَتَقُولُ هَلۡ مِن مَّزِيدٖ} (30)

{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ } قرأ قتادة ، والأعرج ، وشيبة ، ونافع ( نقول ) ( بالتاء ) ، ومثله روى أبو بكر عن عاصم ، اعتباراً بقوله ، قال : لا تختصموا لديّ ، وقرأ الحسن يوم ( يقال ) وقرأ الباقون يوم ( نقول ) ( بالنون ) ( لجهنّم ) { هَلِ امْتَلأَتِ } لما سبق من وعده إيّاها أنّه يملأها

{ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ] وهذا السؤال منه على طريق التصديق بخبره ، والتحقيق لوعده والتقريع لأهل عذابه ، والتنبيه لجميع عباده .

{ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } يحتمل أن يكون جحداً مجازه ما من مزيد ، ويحتمل أن يكون استفهاماً ، بمعنى هل من مزيد ، فأزاده وإنّما صلح { هَلْ } للوجهين جميعاً ، لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد ، وطرفاً من النفي ، قال ابن عبّاس : إنّ الله سبحانه وتعالى ، قد سبقت كلمته

{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ، السجدة : 13 ] فلمّا بعث للنّاس ، وسبق أعداء الله إلى النار زمراً ، جعلوا يقحمون في جهنّم فوجاً فوجاً ، لا يلقى في جهنّم شيء إلاّ ذهب فيها ، ولا يملأها شيء .

فقالت : ألست قد أقمت لتملأني ؟ فوضع قدمه عليها ، ثمّ يقول لها : هل امتلأت ؟ فتقول : قط قط ، قد امتلأت ، فليس من مزيد . قال ابن عبّاس : ولم يكن يملأها شيء حتّى مس قدم الله فتضايقت فما فيها موضع إبرة ، ودليل هذا التأويل ما أنبأني عقيل ، قال : أخبرنا المعافى ، قال : أخبرنا ابن جرير ، قال : حدّثنا بشر ، قال : حدّثنا يزيد ، قال : حدّثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال جهنّم يلقى فيها ، وتقول : هل من مزيد ؟ حتّى يضع ربّ العالمين فيها قدمه ، فتتزاوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قد قد بعزّتك ، وكرمك ، ولا يزال في الجنّة فضل ، حتّى ينشئ الله سبحانه لها خلقاً ، فيسكنهم فضل الجنّة " .

وأخبرنا ابن حمدون ، قال : أخبرنا ابن الشرقي ، قال : حدّثنا محمّد بن يحيى ، وعبد الرّحمن بن بشر ، وأحمد بن يوسف ، قالوا : حدّثنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن همام ابن منبه ، قال : هذا ما حدّثنا أبو هريرة ، عن محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تحاجت الجنّة والنّار ، فقالت النّار : أُوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين ، وقالت الجنّة : فما لي لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسقطهم ؟ فقال الله سبحانه للجنّه : إنّما أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنّار : إنّما أنت عذابي ، أُعذّب بك من أشاء من عبادي ، ولكلّ واحدة منكما ملأها ، فأمّا النار ، فإنّهم يلقون فيها وتقول : هل من مزيد ؟ فلا تمتلئ حتّى يضع الله سبحانه وتعالى فيها رجله فتقول : قط قط ، فهناك تمتلأ وتزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحداً ، وأمّا الجنّة ، فإنّ الله عزّ وجلّ ينشئ لها خلقاً " .

قلت : هذان الحديثان في ذكر القدم ، والرجل ، صحيحان مشهوران ، ولهما طرق من حديث أبي هريرة ، وأنس ، تركتُ ذكرهما كراهة الإطالة ، ومعنى القدم المذكور في هذا الحديث المأثور قوم يقدمهم الله إلى جهنّم ، يملأها بهم ، قد سبق في عمله إنّهم صائرون إليها وخالدون فيها ، وقال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن معنى هذا الحديث ، فقال : هم قوم قدمهم الله للنار ، وقال عبد الرّحمن بن المبارك : هم مَن قد سبق في علمه أنّه من أهل النّار . وكلّ ما يقدم ، فهو قدم . قال الله سبحانه : إنّ لهم قدم صدق عند ربّهم ، يعني أعمال صالحة قدّموها ، وقال الشاعر يذمّ رجلا :

قعدت به قدم الفجار وغودرت *** وعود ربّ أسبابه من فتنة من خالق

يعني ليس له ما يفتخر بهم .

على انّ الأوزاعي روى هذا الحديث عن حسّان بن عطية ، حتى يضع الجبّار قِدمه بكسر القاف ، وكذلك روى وهب بن منبه ، وقال : إنّ الله سبحانه كان قد خلق قوماً قبل آدم ، يقال لهم : القدم ، رؤوسهم كرؤوس الكلاب والذباب ، وسائر أعضائهم كأعضاء بني آدم ، فعصوا ربّهم ، وأهلكهم الله ، يملأ الله بهم جهنّم حين تستزيد . وأمّا الرِجل فهو العدد الكبير من الناس وغيرهم .

يقال : رأيت رِجلاً من الناس ، ومرّ بنا رجل من جياد ، وقال الأصمعي : سمعت بعض الأعراب تقول : ما هلك على رِجل نبيّ من الأنبياء ما هلك على رِجل موسى ، يعني القبط ، وقال الشاعر :

فمرّ بنا رِجل من النّاس وانزوى *** إليهم من الحيّ اليمانين أرجل

قبائل من لخم وحمير *** على ابني نزار بالعداوة أحفل

ويصدق هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في سياق الحديث : " ولا يظلم الله من خلقه أحداً "

، فدلَّ أنّ الموضوع الملقى في النّار خلق من خلقه ، وقال بعضهم : أراد قَدم بعض ملائكته ورِجله ، وأضاف إليه كقوله : وسئل القرية . والله أعلم .