زينة الدنيا : كل ما فيها من متاع ونعيم .
أمتعكن : أعطيكن المتعة من مال ولباس بحسب ما أستطيع .
سَراحا جميلا : طلاقا من غير ضرر ولا مخاصمة ولا مشاجرة .
بعد أن نصر الله رسوله والمؤمنين وفتح عليهم بني قريظة وأموالهم ، طلب نساء النبي أن يوسع عليهن بالنفقة ، وقلن له : يا رسول الله ، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل ، والإماء والخدم والحشَم ، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق ! فأنزل الله تعالى في شأنهن قوله : { يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا . . . } الآيات .
فبدأ بعائشة ، فقال لها : إني أذكر لك أمراً ما أحبُّ أن تعجَلي حتى تستأمري أبويك . قالت : وما هو ؟ فتلا عليها : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ . . . } الآية ، قالت عائشة : أفيكَ أَستأمر أبوي ! بل اختارُ الله تعالى ورسولَه . ثم تابعها بقيةُ نسائه . وكنّ تسعاً : سِتّاً من قريش ، وهن عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة وزينب بنت جحش الأسدية وثلاثاً من غير قريش وهن : ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حُيي بن أخطب يهودية الأصل ، وجويرية بنت الحارث المصطَلَقية .
قوله تعالى : { أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ( 28 ) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا }
ذكر أنن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد تأذى ببعض الزوجات ؛ إذ سألنه شيئا من عرض الدنيا . وقيل : زيادة في النفقة ، فأُمر النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهنّ وتخييرهن بين الدنيا والآخرة .
فقد روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا ، فقال : والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، لو رأيتُ بنتَ خارجة سألتني النفقةََ فقمتُ إليها فوجأتُ{[3726]} عنقها ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " " هن حولي كما ترى يسألنني النفقة " فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها . كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ! فقلن : والله لا نسأل الآن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين يوما ، ثم نزلت هذه الآية { أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ } حتى بلغ { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } قال : فبدأ بعائشة فقال : " يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك " قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت . قال : " لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ، ولك بعثني معلما مُيَسرا " . {[3727]}
قوله : { قل لأزواجك } فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم زوجات قد دخل بهن ، وأولهن : خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب . وكانت قبله زوجة لأبي هالة وولدت منه هند بن أبي هالة . وكانت قبل أبي هالة زوجة لعتيق بن عائذ . ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت وكانت يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة ، وكان لها حين توفيت خمس وستون سنة ، وهي أول امرأة آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أولاده منها غير إبراهيم .
ثم سودة بنت زمعة العامرية أسلمت قديما وبايعت ، وكانت زوجة لابن عمها واسمه السكران بن عمرو وكلاهما هاجرًا إلى الحبشة فلما قدما مكة مات زوجها . وقيل : مات بالحبشة ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر بها .
ثم عائشة بنت أبي بكر الصديق ، تزوجها رسول الله بمكة قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث سنين وبقيت عنده تسع سنوات ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة سنة ولم يتزوج بكرا غيرها .
ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها فأتاه جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة ، فراجعها ، توفيت في خلافة عثمان وهي ابنة ستين سنة .
ثم أم سلمة ، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أربع من الهجرة وكان ابنها عمر صغير . وقد قُبرت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة .
ثم أم حبيبة ، واسمها رملة بنت أبي سفيان ، كانت زوجة لعبيد الله بن جحش الذي مات بأرض الحبشة على النصرانية فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف ، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة .
ثم زينب بنت جحش الأسدية ، وكان اسمها بَرَّة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ، تزوجها النبي بالمدينة سنة خمس من الهجرة ، وتوفيت سنة عشرين وهي بنت ثلاث وخمسين .
ثم زينب بنت خذيمة بن الحارث الهلالية ، وكانت تسمى في الجاهلية أم المساكين ؛ لإطعامها إياهم . مكثت عند النبي ثمانية أشهر وتوفيت في حياته ودفنت بالبقيع .
ثم جويرية بنت الحارث المصطلقية أصابها في غزوة بني المصطلق فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها ، توفيت سنة ست وخمسين وهي ابنة خمس وستين .
ثم صفية بنت حيي بن أخطب أصابها النبي يوم خيبر واصطفاها لنفسه وأسلمت وأعتقها . وماتت سنة خمسين ودفنت بالبقيع .
ثم ريحانه بنت زيد بن عمرو من بني النَّضير أعتقها النبي وتزوجها في سنة ستٍّ وماتت وهو راجع من حجة الوداع فدفنها بالبقيع .
ثم ميمونة بنت الحارث الهلالية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَرف على عشرة أميال من مكة سنة سبع من الهجرة ، وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم{[3728]}
قوله : { إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } المراد بالحياة الدنيا وزينتها ، ما فيها من السعة والنضارة ووجوه النعمة .
وذلك أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخيِّر نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن تتحصل لهن عندهم البحبوحة والسعة ، وبين الصبر على ما عنده من ضيق العيش ورقة الحال ولهن عند الله في مقابل ذلك خير الجزاء . فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة . ويذلك اجتمع لهن في كنفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الدنيا من حسن الذكر وطيب الثناء يوم القيامة ، وفي الآخرة ما أعده لهن من عظيم المنزلة في عليين بجوار خير زوج في العالمين . { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } أي أَقبِلن إليّ أعطكن متعة الطلاق . وهي واجبة للتي لم يُدخَل بها ولم يُفرض لها حين العقد صداق . أما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة . والمتعة للمرأة تقدر بدرع{[3729]} وخمار{[3730]} وملحفة{[3731]} وذلك على حسب السعة والإقتار ، وقد مضى تفصيل المتعة في سورة البقرة .
قوله : { وأسرّحكنّ } أي أطلقكن . وتسريح المرأة ، تطليقها . والاسم السراح ، بالفتح{[3732]}
قوله : { سراحا جميلا } أي طلاقا للسُّنة من غير ضِرار ولا منع لها من واجب . وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه . وثمة قولان في ذلك . أحدهما : أنه خيرهن بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق فاخترنَ البقاء وهو قول عائشة وآخرين .
ثانيها : أنه خيرهن بين الدنيا فيفارقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن لتكون لهن المنزلة العليا ، ولكم يخيرهن في الطلاق . وهو قول الحسن وقتادة ، وهو مروي عن علي ( رضي الله عنه ) والقول الأول الراجح ؛ لما روته عائشة من خبر ثابت في الصحيحين قالت : " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدّه طلاقا " ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور به بين البقاء والطلاق .
واختلف العلماء أيضا في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يكون ذلك طلقة رجعية أو بائنة أو لا يلزم بذلك شيء ؟ فقد ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم أنه لا يلزمه طلاق ، لا طلقة واحدة ولا أكثر . وقيل : إن اختارت زوجها فواحدة بائنة . وهو قول الحسن البصري والليث . وروي مثله عن مالك . واحتجوا بأن قوله لها : اختاري ، كناية عن إيقاع الطلاق فإذا ما أضافه إليها وقعت طلقة . والراجح القول الأول ؛ لما أخرجه الصحيحان عن عائشة قالت : " خيرنا رسول الله صلى اله عليه وسلم ، فاخترناه ، فلم يعد علينا طلاقا " قال ابن المنذر : وحديث عائشة يدل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا .
واختلفوا في المخيرة إذا اختارت نفسها فهل ذلك طلقة رجعية أو بائنة ؟ فقد قيل : طلقة رجعية يملك زوجها رجعتها . وقد روي عن عمر وابن مسعود وابن عباس . وهو قول ابن أبي ليلى والثوري والشافعي .
وقيل : إذا اختارت نفسها فتلك طلقة واحدة بائنة . وهو قول الحنفية . وهي رواية عن مالك{[3733]} .