وعلّمهم أن الأفضلَ لهم أن يصبروا وينتظروا حتى يخرجَ إليهم ، ثم أتبع ذلك قوله تعالى : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
هذه السورة كما مرّ في المقدمة من أواخر السور نزولا ، وفيها على قِصَرها قواعدُ وتعاليم للمؤمنين ، وترسيخٌ لإيمانهم ، و تأديبٌ لهم ليتهيأوا لقيادة العالم .
والحُجرات التي ورد ذكرها في الآية الكريمة هي تسعُ حجرات كانت لكل زوجة حجرة من جريد النخل ، وعلى أبوابها المسوح من شعر أسود . وكانت غير مرتفعة يُتناول سقفها باليد ، وفي غاية البساطة . قال سعيد بن المسيب وهو أكبر التابعين في المدينة : وددتُ أنهم تركوها على حالها حتى يراها الناس بما فيها من البساطة ، فيروا ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، فيكون ذلك مما يزهِّد الناسَ في التفاخُر والتكاثر .
وقد أُدخلت هذه الحجرات في عهدِ الوليدِ بن عبد الملك بأمرِه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى الناس لذلك .
قوله تعالى : { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم } قال مقاتل : لكان خيراً لهم لأنك كنت تعتقهم جميعاً وتطلقهم بلا فداء ، { والله غفور رحيم } وقال قتادة : نزلت في ناس من أعراب بني تميم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب . ويروى ذلك عن جابر قال : جاءت بنو تميم فنادوا على الباب : اخرج إلينا يا محمد ، فإن مدحنا زين ، وذمنا شين ، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين ، فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشعرائنا وخطبائنا لنشاعرك ونفاخرك ، فقال صلى الله عليه وسلم : ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا ما عندكم ، فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لثابت ابن قيس بن شماس ، وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم : قم فأجبه ، فأجابه ، وقام شاعرهم فذكر أبياتاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : أجبه فأجابه ، فقام الأقرع بن حابس ، فقال : إن محمداً لمؤتىً له والله ما أدري ما هذا الأمر ، تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن من خطيبنا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً ، ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يضرك ما كان قبل هذا ثم أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكساهم ، وكان قد تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم ، وأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل فيهم : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم } الآيات الأربع إلى قوله : { غفور رحيم } وقال زيد بن أرقم : جاء ناس من العرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكاً نعش في جنابه ، فجاؤوا فجعلوا ينادونه ، يا محمد يا محمد ، فأنزل الله : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم } .
ولما ذمهم بسوء عملهم ، أرشدهم إلى ما يمدحون به من حسنه فقال : { ولو أنهم } أي المنادي والراضي { صبروا } أي حبسوا أنفسهم ومنعوها عن مناداتهم ، والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها وهو حبس فيه شدة ، وصبر عن كذا - محذوف الفعل لكثرة دوره ، أي نفسه { حتى تخرج } من تلقاء نفسك عند فراغ ما أنت فيه مما يهمك من واردات الحق ومصالح الخلق{[60733]} . ولما كان الخروج قد يكون إلى غيرهم من المصالح ، فلا يسوغ في الأدب أن يقطع ذاك عليه قال : { إليهم } أي ليس لهم أن يكلموك حتى تفرغ لهم فتقصدهم فإنك لا تفعل شيئاً-{[60734]} في غير حينه بمقتضى أمر الرسالة { لكان } أي الصبر .
ولما كان العرب أهل معال{[60735]} فهم بحيث لا يرضون إلا الأحسن فقال : { خيراً لهم } أي من استعجالهم في إيقاظك وقت الهاجرة وما لو قرعوا الباب بالأظافير كما كان يفعل غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا على تقدير أن يكون ما ظنوا من أن فيه خيراً {[60736]}فكانوا يعقلون{[60737]} ، ففي التعبير بذلك مع الإنصاف بل الإغضاء والإحسان هز لهم إلى-{[60738]} المعالي وإرشاد إلى ما يتفاخرون به من المحاسن ، قال الرازي : قال أبو عثمان : الأدب عند الأكابر يبلغ بصاحبه{[60739]} إلى الدرجات العلى والخير في الأولى والعقبى - انتهى . وأخيرية صبر في الدين معروفة ، وأما في الدنيا فإنهم لو تأدبوا لربهم زادهم النبي صلى الله عليه وسلم في الفضل فأعتق جميع سبيهم وزادهم ، والآية في الاحتباك : حذف التعليل بعدم الصبر أولاً {[60740]}لما دل{[60741]} عليه ثانياً ، والعقل ثانياً لما دل عليه من-{[60742]} ذكره أولاً .
ولما ذكر التقدير تأديباً لنا وتدريباً على الصفح عن الجاهل وعذره وتعليمه : ولكنهم لم يصبروا وأساؤوا الأدب فكان ذلك شراً لهم والله عليم بما فعلوا حليم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة لإساءتهم الأدب على رسوله صلى الله عليه وسلم ، عطف عليه استعطافاً لهم مع إفهامه الترهيب : { والله } أي المحيط بصفات الكمال { غفور } أي ستور لذنب من تاب من جهله { رحيم * } يعامله{[60743]} معاملة الراحم فيسبغ عليه نعمه . ولما تابوا ، أعتبهم الله في غلظتهم{[60744]} على خير خلقه أن جعلهم أغلظ الناس على شر{[60745]} الناس : الدجال ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنهم أشد الناس عليه " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.