لا يسخر قوم من قوم : لا يحتقر أحد منكم أخاه بذكر عيوبه وإظهار نقائصه . يقال سخر به ومنه ، هزئ به ومنه . القوم : شاع إطلاقه على الرجال دون النساء .
ولا تلمزوا أنفسكم : لا يعيب أحد منكم أخاه ، وعبّر بأنفسكم كأنهم جميعا نفسٌ واحدة فإذا عابَ المؤمن أخاه المؤمنَ كأنه عاب نفسَه .
يريد الله تعالى أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً فاضلا ، فأدّبنا بهذا الأدب الرفيع ، فلكل إنسان كرامتُه ، وهي من كرامة الجميع ، فإذا حصل ضرر لأي فرد فإنه ضرر للناس كلهم . لذلك ينهى الله تعالى أن يسخَرَ رجالٌ من رجال آخرين لعلّهم خير منهم عند الله ، أو نساء من نساءٍ لعلّهن خير منهن عند الله .
لا يعب بعضُكم بعضا بقول أو إشارة على وجه الخفية ، فإنكم أيها المؤمنون كالجسدِ الواحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى . وهذا حديث صحيح رواه مسلم .
{ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب }
ولا يدعو بعضكم بعضاً بالألقاب المستكرَهة ، ولا تدعوا أحدا بما لا يحبّ من الألقاب القبيحة .
أما الألقاب اللطيفة التي تدل على معانٍ حسنة فلا مانع من استعمالها كما قيل لأبي بكر عتيق ، ولعمر بن الخطاب : الفاروق ، ولعثمان : ذو النورين الخ . .
{ بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان }
بئس الاسم أن تُسمَّوا فاسقين بعد أن تكونوا مؤمنين . ومن لم يتبْ ويرجع عما نهى الله عنه فأولئك هم الظالمون الذين ظلموا أنفسَهم وغيرهم بعصيانهم أوامر الله .
{ لا يسخر قوم من قوم } : أي لا يزدر قوم منكم قوما آخرين ويحتقرونهم .
{ عسى أن يكونوا خيرا منهم } : أي عند الله تعالى والعبرة بما عند الله لا ما عند الناس .
{ ولا تلمزوا أنفسكم } : أي لا تعيبوا بعضكم بعضا فإنكم كفرد واحد .
{ ولا تنابزوا بالألقاب } : أي لا يدعو بعضكم بعضا بلقب يكرهه نحو يا فاسق يا جاهل .
{ بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } : أي قبح اسم الفسوق يكون للمرء بعد إيمانه وإسلامه .
{ ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } : أي من لمز ونبز المؤمنين فأولئك البُعداء هم الظالمون .
وقوله في الآية ( 11 ) يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن } إذ من عوامل النزاع والتقاتل وأسبابهما سخرية المؤمن بأخيه واحتقاره لضعف حاله ورثاثة ثيابه وقلة ذات يده فحرم تعالى بهذه الآية على المسلم أن يحتقر أخاه المسلم ويزدريه منبهاً إلى أن من احتقر وازدرى به وسخر منه قد يكون غالبا غير خيرا عند الله من المحتقر له والعبرة بما عند الله لا بما عند الناس والرجال في هذا والنساء سواء فلا يحل لمؤمنة أن تزدري وتحتقر أختها المؤمنة عسى أن تكون عند الله خيرا منها والعبرة بالمنزلة عند الله لا عند الناس وكما حرم السخرية بالمؤمنين والمؤمنات لإِفضائها إلى العداوة والشحناء ثم التقاتل حرم كذلك اللمز والتنابز بالألقاب فقال تعالى { ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } ومعنى لا تلمزوا أنفسكم أي لا يعب بعضكم بعضا بأي عيب من العيوب فإِنكم كشخص واحد فمن عاب أخاه المسلم وأنما عاب نفسه كما أن المعاب قد يرد العيب بعيب من عابه وهذا معنى ولا تلمزوا أنفسكم وقوله ولا تنابزوا بالألقاب أي يلقب المسلم أخاه بلقب يكرهه فإِن ذلك يفضي إلى العداوة والمقاتلة وقوله { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } أي قبح أشدَّ القبح أن يلقب المسلم بلقب الفسق بعد أن أصبح مؤمنا عدلا كاملا في أخلاقه وآدابه فلا يحل لمؤمن أن يقول لأخيه يا فاسق أو يا كافر أو يا عاهر أو يا فاسد ، إذ بئس الاسم اسم الفسوق كما أن الملقب للمسلم بألقاب السوء يعد فاسقا وبئس الاسم له أن يكون فاسقاً بعد إيمانه بالله ولقائه والرسول وما جاء به ، وقوله تعالى { ومن لم يتب } أي من احتقار المسلمين وازدرائهم وتلقيبهم بألقاب يكرهونها { فأولئك هم الظالمون } المتعرضون لغضب الله وعقابه .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } .
ذلك نهي من الله شديد عن السخرية من الناس . فأيما استهزاء أو استسخار من أحد أو جماعة أو طائفة ، حرام مهما كان السبب لدى الساخر المستهزئ كما لو سخر من غيره لكونه قصيرا أو فقيرا أو دميما أو صعلوكا ذليلا أو أسود اللون أو عييا
لا يحسن الخطاب أو غير ذلك من الأسباب والصفات ، فلا يسخر أحد من أحد لشيء مما ذكر إلا طوّقه الإثم وأحاطت به الخطيئة وباء بالذنب الكبير ووقع فيما نهى الله عنه ، وهو قوله : { لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن } ربما كان المستهزأ به خيرا من الساخر المستهزئ عند الله فيكون أفضل منه بطيب نيته وحسن سريرته وتقواه . وفي ذلك روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " .
وفي التنديد الشديد بالسخرية من عباد الله ، وتغليظ النكير عليها ، روى الترمذي عن عائشة قالت : حكيت للنبي صلى الله عليه وسلم رجلا{[4294]} ، فقال : " ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا كذا " فقلت : يا رسول الله إن صفية امرأة – وقالت بيدها- هكذا ، يعني أنها قصيرة . فقال : " لقد مزجت بكلمة لو مزج بها البحر لمزج " .
قوله : { ولا تلمزوا أنفسكم } تلمزوا من اللمز ، وهو الإشارة بالعين ونحوها كالرأس والشفة مع كلام خفي . واللّمزة : العيّاب للناس{[4295]} .
والمراد : لا يطعن بعضكم بعض . أو لا يعب بعضكم بعضا بيد أو لسان أو عين أو إشارة ، فكل ذلك إهانة للمسلم واستخفاف به وتحقير له ، وذلك كله حرام . وقوله : { أنفسكم } كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } أي لا يقتل بعضكم بعضا ، لأن المسلمين جميعا كنفس واحدة ، فكأن قاتل أخيه المسلم قاتل لنفسه . وكذلك الذي يلمز أخاه المسلم بعيب أو طعن أو إهانة وتحقير فكأنما لمز نفسه .
قوله : { ولاتنابزوا بالألقاب } أي لا تعايروا ولا تداعوا بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها{[4296]} . وقد روى الإمام أحمد عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة { ولا تنابزوا بالألقاب } قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا فنزلت الآية { ولا تنابزوا بالألقاب } وقيل : كان الرجل يعيّر بعد إسلامه بكفره : يا يهودي ، يا نصراني . فنزلت . وقيل : هو قول الرجل للرجل : يا فاسق ، يا منافق . والصواب عموم النهي عن التنابز بالألقاب على اختلاف صوره ومعاينه . وحقيقته دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة . فلا يجوز لمسلم أن يعيّر أخاه أو يناديه باسم يكرهه أو بصفة يغتاظ بها .
قوله : { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } يعني بئس أن يسمي الرجل الرجل باسم يكرهه . كما لو نعته بالكفر بعد أن أسلم ، أو نعته بالزنا بعد أن تاب أو نحو ذلك من وجوه التنابز بعد الدخول في الإسلام فمن فعل ما نهى الله عنه من النبز بسوء الأسماء فقد تلبس بالفسق ، أي من سخر من أخيه فلقبه بما يغيظه من الأسماء والأوصاف فهو فاسق . وفي الحديث الصحيح : " من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال ، وإلا رجعت عليه " وروي أن أبا ذر ( رضي الله عنه ) كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فنازعه رجل فقال له أبو ذر : يا ابن اليهودية . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما ترى ههنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه " يعني بالتقوى . وفي الحديث : " من عيّر مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة " .
قوله : { ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } يعني من لم يتب من تعيير أخيه بما يكرهه من الأسماء والألقاب ، ونبزه إياه بما يسيئه من الأوصاف مما نهى الله عنه فأولئك قد ظلموا أنفسهم بما اكتسبوه من الإثم ليبوءوا بالعقاب{[4297]} .