الذين يلحِدون في آياتنا : ينحرفون عن القرآن الكريم .
إن الذين يميلون عن الحق ويُلحِدون في آياتنا نحن نعلمهم ولا يخفون عنا ، ولهم جزاء كبير عند الله عبّرت عنه آيةُ :
{ أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة ؟ } إنهم لا يستوون . وبعد ذلك هدّدهم الله وبين عاقبتهم بقوله { اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
{ يلحدون في آياتنا } : أي يجادلون فيها ويميلون بها فيؤولونها على غير تأويلها لإبطال حق أو إحقاق باطل .
{ لا يخفون علينا } : أي إنهم مكشوفون أمامنا وسوف نبطش بهم جزاء إلحادهم .
{ أم من يأتي آمنا يوم القيامة } : أي نعم الذي يأتي آمناً يوم القيامة خير ممن يلقى في النار .
{ اعملوا ما شئتم } : هذا تهديد لهم على إلحادهم وليس إذناً لهم في العمل كما شاءوا .
يتوعد الجبار عز وجل الذين يلحدون في آيات كتابه بالتحريف والتبديل والتغيير بأنهم لا يخفون عليه ، وأنه سينزل بهم نقمته إن لم يكفوا عن إلحادهم .
وقوله : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة إذا كان لا يوجد عاقل يقول الذي يلقى في النار خير ممن يأتي آمناً يوم القيامة فالإِلقاء في النار سببه الكفر والإِلْحاد والباطل فليترك هذه من أراد النجاة من النار ، والأمن يوم القيامة من كل خوف من النار وغيرها سببه الإِيمان والتوحيد فليؤمن ويوحد الله تعالى في عبادته ولا يلحد في آياته من أراد الأمن يوم القيامة بعلمه أنه خير من الإِلقاء في النار . هذا أسلوب في الدعوة عجيب انفرد به القرآن الكريم .
وقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } هذا الكلام للمستهترين بالأحكام الشرعية المستخفين بها فهو تهديد لهم وليس إذناً وإباحة لهم أن يفعلوا ما شاءوا من الباطل والشرك والشر ، ويدل على التهديد قوله بعد إنه بما تعملون بصير .
- حرمة الإِلحاد في آيات الله بالميل بها عن القصد والخروج بها إلى الباطل .
- التهديد الشديد لكل من يحرف آيات الله عن القصد والخروج بها إلى الباطل .
{ 40-42 } { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }
الإلحاد في آيات الله : الميل بها عن الصواب ، بأي وجه كان : إما بإنكارها وجحودها ، وتكذيب من جاء بها ، وإما بتحريفها وتصريفها عن معناها الحقيقي ، وإثبات معان لها ، ما أرادها الله منها .
فتوعَّد تعالى من ألحد فيها بأنه لا يخفى عليه ، بل هو مطلع على ظاهره وباطنه ، وسيجازيه على إلحاده بما كان يعمل ، ولهذا قال : { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } مثل الملحد بآيات الله { خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } من عذاب الله مستحقًا لثوابه ؟ من المعلوم أن هذا خير .
لما تبين الحق من الباطل ، والطريق المنجي من عذابه من الطريق المهلك قال : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } إن شئتم ، فاسلكوا طريق الرشد الموصلة إلى رضا ربكم وجنته ، وإن شئتم ، فاسلكوا طريق الغيِّ المسخطة لربكم ، الموصلة إلى دار الشقاء .
{ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يجازيكم بحسب أحوالكم وأعمالكم ، كقوله تعالى : { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ }
ولما بين أن الدعوة إلى الله أعظم المناصب ، وأشرف المراتب ، وبين أنها إنما تحصل ببيان دلائل التوحيد التي من اعظمها البعث ، وبينه إلى أن كان بهذا الحد من الوضوح ، كان مجز التهديد من أعرض عن قبوله : فقال في عبارة عامة له ولغيره ، مؤكداً تنبيهاً على أن فعلهم فعل من يظن أنه سبحانه لا يطلع على أعماله : { إن الذين يلحدون * } أي يميلون بصرف المعاني عن القصد وسنن العدل بنحو قولهم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ، أو يماحلون باللغو بالمكاء والتصدية وغير ذلك من أنواع اللغط وكل ما يشمله معنى الميل عما تصح إرادته .
ولما كان الاجتراء على الإلحاد قادحاً في الاعتراف بالعظمة ، أعاد مظهرها فقال : { في آياتنا } على ما لها من العظمة الدالة على ما لنا من الوحدانية وشمول العلم وتمام القدرة : ولما كان العلم بالإساءة مع القدرة سبباً للأخذ ، قال مقرراً للعلم بعد تقرير القدرة : { لا يخفون علينا } أي في وقت من الأوقات ولا وجه من الوجوه ، ونحن قادرون على أخذهم ، فمتى شئنا أخذنا ، ولا يعجل إلا ناقص يخشى الفوت .
ولما كان الإلحاد سبباً لإلقاء صاحبه في النار ، وكان التقدير : ونحن نحلم عن العصاة فمن رجع إلينا أمن كل مخوف ، ومن أعرض إلى الممات ألقيناه في النار ، سبب عنه قوله تعالى : { أفمن يلقى في النار } أي على وجهه بأيسر أمر بسبب إلحاده في الآيات وإعراضه عن الدلالات الواضحات ، فيكون خائفاً يوم القيامة لما يرى من مقدمات ذلك حتى يدهمه ما خاف منه { خير أم من يأتي } إلينا { آمناً يوم القيامة } حين نجمع عبادنا للعرض علينا للحكم بينهم بالعدل فيدخل الجنة دار السلام فيدوم أمنه ، والآية من الاحتباك : ذكر الإلقاء في النار أولاً دليلاً على دخول الجنة ثانياً ، والأمن ثانياً دليلاً على الخوف أولاً ، وسره أنه ذكر المقصود بالذات ، وهو ما وقع الخوف لأجله أولاً ، والأمن الذي هو العيش في الحقيقة ثانياً .
ولما كان هذا راداً ولا بد للعاقل عن سوء أعماله إلى الإحسان رجاء إنعام الله وإفضاله ، أنتج قوله مهدداً ومخوفاً ومتوعداً صارفاً القول عن الغيبة إلى الخطاب لأنه أدل على الغضب على المتمادي بعد هذا البيان : { اعملوا ما شئتم } أي فقد علمتم مصير المسيء والمحسن ، فمن أراد شيئاً من الجزاءين فليعمل أعماله ، فإنه ملاقيه . ولما كان العامل لا يطمع في الإهمال إلى على تقدير خفاء الأعمال ، والمعمول له لا يترك الجزاء إلا لجهل أو عجز ، بين أنه سبحانه محيط العلم عالم بمثاقيل الذر فقال مرغباً مرهباً مؤكداً لأنهم يعملون عمل من يظن أن أعماله تخفى ، عادلاً عن مظهر العظمة إلى ما هو أدل شيء على الفردانية ، لئلا يظن ان مزيد العلم بواسطة كثيرة : { إنه } وقدم أعمالهم تنبيهاً على الاهتمام بشأنها جداً فقال : { بما تعملون } أي في كل وقت { بصير * } بصراً وعلماً ، فهو على كل شيء منكم قدير .