تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ} (4)

الوسواس : الموسوِس الذي يلقي حديثَ السوء في الأنفس .

الخنّاس : الذي يتوارى ويختفي عندما يكون الإنسانُ يقظاً مسلَّحاً بالإيمان ، ويذكر الله .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ} (4)

يعني : من شر الشيطان . والمعنى : من شر ذي الوسواس ، فحذف المضاف . قاله الفراء . وهو ( بفتح الواو ) بمعنى الاسم ، أي الموسوس . و( بكسر الواو ) المصدر ، يعني الوسوسة . وكذا الزلزال والزلزال . والوسوسة : حديث النفس . يقال : وسوست إليهم نفسه وسوسة ووسوسة ( بكسر الواو ) . ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلي : وسواس . وقال ذو الرمة :

فبات يُشْئِزُه ثَأَدٌ ويُسْهِرُه *** تَذَؤُّبُ الريح والوسواسُ والهِضَبُ{[16610]}

وقال الأعشى :

تسمع للحَلْيِ وسواسا إذا انصرفت *** كما استعان بريح عِشْرَقٌ زَجِلُ{[16611]}

وقيل : إن الوسواس الخناس ابن لإبليس ، جاء به إلى حواء ، ووضعه بين يديها ، وقال : اكفليه . فجاء آدم عليه السلام{[16612]} فقال : ما هذا ( يا حواء{[16613]} ) قالت : جاء عدونا بهذا ، وقال لي : اكفليه . فقال : ألم أقل لك : لا تطيعيه في شيء ، هو الذي غرنا حتى وقعنا في المعصية ؟ وعمد إلى الولد فقطعه أربعة أرباع ، وعلق كل ربع على شجرة ، غيظا له ، فجاء إبليس فقال : يا حواء{[16614]} ، أين ابني ؟ فأخبرته بما صنع به آدم عليه السلام ، فقال : يا خناس ، فحيي فأجابه . فجاء به إلى حواء وقال : اكفليه ، فجاء آدم عليه السلام فحرقه بالنار ، وذر رماده في البحر ، فجاء إبليس ( عليه اللعنة ) فقال : يا حواء ، أين ابني ؟ فأخبرته بفعل آدم إياه ، فذهب إلى البحر ، فقال : يا خناس ، فحيي فأجابه . فجاء به إلى حواء الثالثة ، وقال : اكفليه . فنظر إليه آدم ، فذبحه وشواه ، وأكلاه جميعا . فجاء إبليس فسألها فأخبرته ( حواء ) . فقال : يا خناس ، فحيي فأجابه ، ( فجاء به ) من جوف آدم وحواء . فقال إبليس : هذا الذي أردت ، وهذا مسكنك في صدر ولد آدم ، فهو ملتقم قلب آدم ما دام غافلا يوسوس ، فإذا ذكر الله لفظ قلبه وانخنس . ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول بإسناد عن وهب بن منبه . وما أظنه يصح ، والله تعالى أعلم . ووصف بالخناس ؛ لأنه كثير الاختفاء ، ومنه قوله تعالى : { فلا أقسم بالخنس }{[16615]} [ التكوير : 15 ] يعني النجوم ، لاختفائها بعد ظهورها . وقيل : لأنه يخنس إذا ذكر العبد الله ، أي يتأخر . وفي الخبر " إن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا غفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس " أي تأخر وأقصر . وقال قتادة : " الخناس " : الشيطان له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، فإذا غفل الإنسان{[16616]} وسوس له ، وإذا ذكر العبد ربه خنس . يقال : خنسته فخنس ، أي أخرته فتأخر ، وأخنسته أيضا . ومنه قول أبي العلاء الحضرمي أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم :

وإن دَحَسُوا بالشر فاعفُ تكرُّمًا *** وإن خَنَسُوا عند{[16617]} الحديث فلا تَسَلْ

الدحس : الإفساد .

وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان واضع خَطْمه على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس " .

وقال ابن عباس : إذا ذكر الله العبد خنس من قلبه فذهب ، وإذا غفل التقم قلبه فحدثه ومَنَّاه .

وقال إبراهيم التيمي : أول ما يبدو الوسواس من قبل الوضوء .

وقيل : سمي خناسا ؛ لأنه يرجع إذا غفل العبد عن ذكر الله . والخنس : الرجوع . وقال الراجز :

وصاحبٍ يمْتَعِسُ{[16618]} امتِعاسا *** يزداد إن حيَّيْتَهُ{[16619]} خِنَاسَا

وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : { الوسواس الخناس } وجهين : أحدهما : أنه الراجع بالوسوسة عن الهدى . الثاني : أنه الخارج بالوسوسة من اليقين .


[16610]:شئز الرجل : قلق من مرض أو هم. والثأد: الندى والقر والأمر القبيح. وتذؤب الريح: هبوبها من كل وجه، وهو مأخوذ من خداع الذئب. والهضب (بكسر الهاء): الأمطار.
[16611]:العشرق (كزبرج): نبت له ورق فإذا يبس طار. ونبت زجل: صوتت فيه الريح.
[16612]:زيادة عن نوادر الأصول للترمذي الحكيم.
[16613]:زيادة عن نوادر الأصول للترمذي الحكيم.
[16614]:زيادة عن الترمذي الحكيم.
[16615]:آية 15 سورة التكوير.
[16616]:في نسخة من الأصل: "ابن آدم".
[16617]:في اللسان: "عنك".
[16618]:يمتعس: يتحرك.
[16619]:في بعض الأصول "جتتنه" وبعضها "جننته" وفي بعضها بدون إعجام.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{مِن شَرِّ ٱلۡوَسۡوَاسِ ٱلۡخَنَّاسِ} (4)

ولما أكمل الاستعاذة من جميع وجوهها التي مدارها الإحسان أو العظمة أو القهر أو الإذعان والتذلل ، ذكر المستعاذ منه فقال : { من شر الوسواس * } هو اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة ، والمراد الموسوس ، سمي بفعله مبالغة ؛ لأنه صفته التي هو غاية الضراوة عليها كما بولغ في العادل بتسميته بالعدل ، والوسوسة الكلام الخفي : إلقاء المعاني إلى القلب في خفاء وتكرير ، كما أن الكلمة الدالة عليها " وس " مكررة ، وأصلها صوت الحلي ، وحديث النفس ، وهمس الكلاب ، ضوعف لفظه مناسبة لمعناه ؛ لأن الموسوس يكرر ما ينفثه في القلب ويؤكده في خفاء ليقبل ، ومصدره بالكسر كالزلزال ، كما قال تعالى :{ وزلزلوا زلزالاً شديداً }[ الأحزاب : 11 ] ، وكل مضاعف من الزلزلة والرضرضة معناه متكرر ، والموسوس من الجن يجري من ابن آدم مجرى الدم كما في الصحيح ، فهو يوسوس بالذنب سراً ليكون أجلى ، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يواقعه الإنسان ، فإذا واقعه وسوس لغيره أن فلاناً فعل كذا حتى يفضحه بذلك ، فإذا افتضح ازداد جرأة على أمثال ذلك ؛ لأنه يقول : قد وقع ما كنت أحذره من القالة ، فلا يكون شيء غير الذي كان ، وشره التحبيب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه حتى يشاكله في رذيلة الطبع وظلمة النفس ، فينشأ من ذلك شرور لازمة ومتعدية أضرها الكبر والإعجاب اللذان أهلكا الشيطان ، فيوقع الإنسان بها فيما أوقع نفسه فيه ، وينشأ من الكبر الحقد والحسد ، يترشح منه بطر الحق ، وهو عدم قبوله ، ومنه الكفر والفسوق والعصيان ، وغمص الناس - وهو احتقارهم- المعلوم من قول الشيطان{ أنا خير منه }[ الأعراف : 12 ] ، ومنه تنشأ الاستهانة بأولياء الله تعالى بترك احترامهم ، ومنع حقوقهم ، والاعتداء عليهم والظلم لهم ، ويترشح من الحقد الذي هو العداوة العظيمة إمساك الخير والإحسان وبسط اللسان واليد بكل سوء وإيذاء ، ويترشح من الحسد إفساد ذات البين كما يشير إليه{ ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة }[ الأعراف : 20 ] الآية ، والكذب والمخادعة كما عرف به :{ وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور }[ الأعراف : 21 ] ، ويترشح عن الإعجاب التسخط للقضاء والقدر كما آذن به :{ قال أأسجد لمن خلقت طيناً }[ الإسراء : 61 ] ، ومقابلة الأمر بالعلم بما أشعر به :{ لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال }[ الحجر : 33 ] ، واستعمال القياس في مقابلة النص بما هدى إليه :{ أنا خير منه }[ الأعراف : 12 ] الآية ، واستعمال التحسين والتقبيح بما أفهمه { لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون } ، والإذلال وهو الجرأة على المخالفات ، فينشأ عن ذلك شرور متعدية ، وهي السعي في إفساد العقائد والأخلاق والأعمال والأبدان والأرزاق ، ثم لا يزال يتحبب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه من هذه الخبائث ، وهو يوافقه فيها حتى يصير له أخلاقاً راسخة ، فيصير رديء الطبع ، فلا ينفع فيه العلاج ؛ بل لا يزيده إلا خبثاً كإبليس ، ومن كان أصله طيباً واكتسب ما يخالفه بسبب عارض كان ممكن الإزالة كالعلاج كما وقع لآدم عليه الصلاة والسلام .

ولما كان الملك الأعظم سبحانه لم ينزل داء إلا أنزل له دواء ، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره سبحانه وتعالى ، فإنه يطرد الشيطان ، وينير القلب ويصفيه ، وصف سبحانه وتعالى فعل الموسوس عند استعمال الدواء إعلاماً بأنه شديد العداوة للإنسان ، ليشتد حذره منه ، وبعده عنه ، فقال : { الخناس * } أي الذي عادته أن يخنس ، أي يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرة بعد مرة ، كلما كان الذكر خنس ، وكلما بطل عاد إلى وسواسه ، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد ، فهو شديد النفور منه ، ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلاً ، كما ورد عن بعض السلف أن المؤمن ينفي شيطانه كما ينفي الرجل بعيره في السقر . قال البغوي : له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان ، ويقال : رأسه كرأس الحية ، واضع رأسه على يمين القلب يحدثه ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا لم يذكر الله رجع ووضع رأسه خزاه الله تعالى .