ولا تزر وازرة وزر أخرى : لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، يعني لا يحمل أحد ذنب الآخر ، الوزر : الذنب .
المثقلة : النفس التي أثقلتها الذنوب .
ثم أخبرَ عن أحوال يوم القيامة ، فقال : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } :
في ذلك اليوم العصيب يكون كلُّ إنسان مسؤولا عن أعماله وعن نفسه ، فلا تحمل نفسٌ مذنبةٌ ذَنْبَ نفس أخرى .
وإن تسأل نفسٌ ذاتُ حَملٍ ثقيل أحداً أن يحمل عنها بعض ذنوبها لن تجد من يجيبها أو يحمل عنها شيئا ، وذلك لانشغال كل إنسان بنفسه : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 37 ] ، ثم سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدم قبولهم دعوتَه وإصرارهم على عنادهم ، فقال : { إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير } :
لا تحزن أيها النبي ، لعنادِ قومك ، إنما ينفع تحذيرُك الذين يخافون ربهم ويقيمون الصلاة ، ومن تطهَّرَ فإنما يتطهر لنفسه ، والى الله المرجع في النهاية .
قوله تعالى : " ولا تزر وازرة وزر أخرى " تقدم الكلام فيه{[13135]} ، وهو مقطوع مما قبله . والأصل " توزر " حذفت الواو اتباعا ليزر . " وازرة " نعت لمحذوف ، أي نفس وازرة . وكذا " وإن تدع مثقلة إلى حملها " قال الفراء : أي نفس مثقلة أو دابة . قال : وهذا يقع للمذكر والمؤنث . قال الأخفش : أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها وهو ذنوبها . والحمل ما كان على الظهر ، والحمل حمل المرأة وحمل النخلة ؛ حكاهما الكسائي بالفتح لا غير . وحكى ابن السكيت أن حمل النخلة يفتح ويكسر . " لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى " التقدير على قول الأخفش : ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى . وأجاز الفراء ولو كان ذو قربى . وهذا جائز عند سيبويه ، ومثله " وإن كان ذو عسرة " {[13136]} [ البقرة : 280 ] فتكون " كان " بمعنى وقع ، أو يكون الخبر محذوفا ، أي وإن كان فيمن تطالبون ذو عسرة . وحكى سيبويه : الناس مجزيون بأعمالهم إن خير فخير ، على هذا . وخيرا فخير ، على الأول . وروي عن عكرمة أنه قال : بلغني أن اليهودي والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له : ألم أكن قد أسديت إليك يدا ، ألم أكن قد أحسنت إليك ؟ فيقول بلى . فيقول : انفعني ، فلا يزال المسلم يسأل الله تعالى حتى ينقص من عذابه . وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول : ألم أكن بك بارا ، وعليك مشفقا ، وإليك محسنا ، وأنت ترى ما أنا فيه ، فهب لي حسنة من حسناتك ، أو احمل عني سيئة ؛ فيقول : إن الذي سألتني يسير ، ولكني أخاف مثل ما تخاف . وأن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيرد عليه نحوا من هذا . وأن الرجل ليقول لزوجته : ألم أكن أحسن العشرة لك ، فاحملي عني خطيئة لعلي أنجو ، فتقول : إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه . ثم تلا عكرمة : " وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى " . وقال الفضيل بن عياض : هي المرأة تلقى ولدها فتقول : يا ولدي ، ألم يكن بطني لك وعاء ، ألم يكن ثديي لك سقاء ، ألم يكن حجري لك وطاء . يقول : بلى يا أماه ، فتقول : يا بني ، قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنبا واحدا . فيقول : إليك عني يا أماه ، فإني بذنبي عنك مشغول .
قوله تعالى : " إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة " أي إنما يقبل إنذارك من يخشى عقاب الله تعالى ، وهو كقوله تعالى : " إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب " {[13137]} [ يس : 11 ] . " ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه " أي من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه . وقرئ : " ومن أزكى فإنما يزكى لنفسه " . " وإلى الله المصير " أي إليه مرجع جميع الخلق .
ولما أنهى سبحانه بيان الحق بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة بالتهديد بالأخذ ، وكان الأخذ على وجه التهديد عقاباً ، وكان العقاب لا يكون حكمه إلا عند الذنب ، قال دالاً على أنه لا ينفك أحد عما يستحق به العقاب : { ولا } أي يذهبكم عقوبة لكم بأوزاركم وقدرة عليكم والحال أنه لا { تزر } أي تحمل يوم القيامة أو عند الإذهاب ، ولما لم تكن نفس متأهلة للحمل تخلو من وزر تحمله ، والمعصوم من عصم الله ، قال : { وازرة } دون نفس ، أي لا تحمل حاملة من جهة الإثم { وزر } أي حمل وثقل { أخرى } لتعذب به ، بل كل واحد منكم له مما كسبت يداه ما ثقوم به عليه الحجة في الأخذ مباشرة وتسبباً مع تفاوتكم في الوزر ، ولا يحمل أحد إلا ما اقترفه هو ، لا تؤخذ نفس بذنب أخرى الذي يخصها كما تفعل جبابرة الدنيا .
ولما أثبت أنه لا يؤخذ أحد إلا بوزر ، ونفى أن يحمل أحد وزر غيره ، وكان ربما أوهم أن ذلك خاص ببعض الأحوال أو الأشخاص ، وكان عظم الوزر يوجب عظم الأخذ ، نفى ذلك الإيهام ودل على القدرة على المفاوتة بينهم في الأجر وإن كان أخذهم في آن واحد بقوله : { وإن تدع } أي نفس { مثقلة } أي بالذنوب سواء كانت كفراً أو غيره ، أحداً { إلى حملها } أي الخاص بها من الذنوب التي ليست على غيرها بمباشرة ولا تسبب ليخفف عنها فيخفف عنها العذاب بسبب خفته { لا يحمل } أي من حامل ما { منه شيء } أي لا طواعية ولا كرهاً . بل لكل امرئ شأن يغنيه أصلاً وتسبباً { ولو كان } ذلك الداعي أو المدعو للحمل { ذا قربى } لمن دعاه ، وحاصل الأولى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره بل بذنب نفسه ، والثانية أنه لا يحط عن أحد ذنبه ليسلم .
ولما كان هذا أمراً - مع كونه جلياً - خالعاً للقلوب ، فكان بحيث يشتد تعجب السامع ممن يسمعه ولا يخشى ، فقال مزيلاً لهذا العجب على سبيل النتيجة : { إنما تنذر } أي إنذاراً يفيد الرجوع عن الغيّ ، فلاختصاصهم بالنفع كانوا كأنهم مختصون بالإنذار ، وهو كما قال القشيري : الإعلام بموضع المخافة . { الذين يخشون } أي يوقعون هذا الفعل في الحال ويواظبون عليه في الاستقبال . ولما كان أعقل الناس من خاف المحسن لان أقل عقابة قطع إحسانه قال : { ربهم } .
ولما كان أوفى الناس عقلاً وأعلاهم همة وأكرمهم عنصراً من كانت غيبته مثل حضوره ، وكان لا يحتاج - مع قول الداعي وما يظهر له من سمته وحسن قوله وفعله - إلى آية يظهرها ولا خارقة يبرزها ، وإنما إيمانه تصديقاً للداعي في إخباره بالأمر المغيب من غير كشف غطاء قال : { بالغيب } أي حال كونهم غائبين عما دعوا إليه وخوفوا به ، أو حال كونه غائباً عنهم أو غائبين عمن يمكن مراءاته ، فهم مخلصون في خشيتهم سواء بحيث لا يطلع عليهم إلا الله ، ولا نعلم أحداً وازى خديجة والصديق رضي الله عنهما في ذلك .
ولما كانت الصلاة جامعة لخضوع الظاهر والباطن ، فكانت أشرف العبادات ، وكانت إقامتها بمعنى حفظ جميع حدودها في كل حال أدل الطاعات على الإخلاص ، قال معبراً بالماضي لأن مواقيت الصلاة مضبوطة : { وأقاموا } أي دليلاً على خشيتهم { الصلاة } في أوقاتها الخمسة وما يتبع ذلك من السنن .
ولما كان التقدير : فمن كان على غير ذلك تدسى ، ومن كان على هذا فقد تزكى ، ومن تدسى فإنما يتدسى على نفسه ، عطف عليه قوله ، مشيراً بأداة التفعل إلى أن النفس أميل شيء إلى الدنس ، فلا تنقاد إلى أحسن تقويم إلا باجتهاد عظيم . { ومن تزكّى } أي تطهر وتكثر بهذه المحاسن . ولما كان الإنسان ليفيده بالأسباب القريبة قد يغفل عن أن هذا نفع له وخاص به أكده فقال : { فإنما يتزكّى لنفسه } فإنه لا يضر ولا ينفع في الحقيقة غيرها { وإلى الله } الذي يكشف عن جميع صفاته أتم كشف تحتمله العقول يوم البعث لا إلى غيره { المصير * } كما كان منه المبدأ فيجازي كلاًّ على فعله فينصف بينك وبين من خشي ربه بإنذارك ومن أعرض عن ذلك .