{ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أي : امش متواضعا مستكينا ، لا مَشْيَ البطر والتكبر ، ولا مشي التماوت .
{ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } أدبا مع الناس ومع اللّه ، { إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ } أي أفظعها وأبشعها { لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة ، لما اختص بذلك الحمار ، الذي قد علمت خسته وبلادته .
وهذه الوصايا ، التي وصى بها لقمان لابنه ، تجمع أمهات الحكم ، وتستلزم ما لم يذكر منها ، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها ، إن كانت أمرا ، وإلى تركها إن كانت نهيا .
وهذا يدل على ما ذكرنا في تفسير الحكمة ، أنها العلم بالأحكام ، وحِكَمِها ومناسباتها ، فأمره بأصل الدين ، وهو التوحيد ، ونهاه عن الشرك ، وبيَّن له الموجب لتركه ، وأمره ببر الوالدين ، وبين له السبب الموجب لبرهما ، وأمره بشكره وشكرهما ، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما ، ما لم يأمرا بمعصية ، ومع ذلك فلا يعقهما ، بل يحسن إليهما ، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك . وأمره بمراقبة اللّه ، وخوَّفه القدوم عليه ، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر ، إلا أتى بها .
ونهاه عن التكبر ، وأمره بالتواضع ، ونهاه عن البطر والأشر ، والمرح ، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات ، ونهاه عن ضد ذلك .
وأمره بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الصلاة ، وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر ، كما قال تعالى : فحقيق بمن أوصى بهذه الوصايا ، أن يكون مخصوصا بالحكمة ، مشهورا بها . ولهذا من منة اللّه عليه وعلى سائر عباده ، أن قص عليهم من حكمته ، ما يكون لهم به أسوة حسنة .
ولما كان النهي عن ذلك امراً بأضداده ، وكان الأمر بإطلاق الوجه يلزم منه{[53965]} الإنصاف في الكلام ، وكان الإنصاف {[53966]}في الكلام{[53967]} والمشي لا على طريق المرح {[53968]}والفخر ربما{[53969]} دعا إلى الاستماتة في المشي والحديث أو الإسراع في المشي {[53970]}والسر والجهر بالصوت{[53971]} فوق الحد ، قال محترساً في الأمر بالخلق الكريم عما يقارب{[53972]} الحال الذميم : { واقصد } أي اعدل وتوسط { في مشيك } لا إفراط ولا تفريط مجانباً لوثب الشطار{[53973]} ودبيب المتماوتين{[53974]} ، وعن ابن مسعود : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان - قال الرازي في اللوامع ، وهو المشي الهون الذب ليس فيه تصنع للخلق {[53975]}لا بتواضع ولا بتكبر{[53976]} { واغضض } أي انقص ، ولأجل ما ذكر{[53977]} قال : { من صوتك } بإثبات " من " أي لئلا يكون صوتك منكراً ، وتكون برفع الصوت فوق الحاجة حماراً ، وأما مع الحاجة كالأذان فهو مأمور به .
ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكراً كما كان خفضه دونها{[53978]} تماوتاً {[53979]}أو دلالاً{[53980]} وتكبراً ، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا ب " من " فأفهم{[53981]} أن الطرفين{[53982]} مذمومان ، علل النهي {[53983]}عن الأول{[53984]} دالاً{[53985]} بصيغة " أفعل " {[53986]}على اشتراك الرفع كله في النكارة ذاكراً أعلاها تصويراً له بأقبح صورة تنفيراً{[53987]} عنه فقال : { إن أنكر } أي أفظع وأبشع وأوحش { الأصوات } أي كلها{[53988]} المشتركة في النكارة برفعها فوق الحاجة ، وأخلى{[53989]} الكلام عن لفظ التشبيه فأخرجه{[53990]} مخرج الاستعارة تصويراً لصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق{[53991]} وجعل المصوت كذلك حماراً ، مبالغة في التهجين ، وتنبيهاً على أنه من كراهة الله له بمكان فقال{[53992]} : { لصوت الحمير } {[53993]}أي هذا الجنس ، لما له{[53994]} من الغلو المفرط من غير حاجة ، وأوله زفير وآخره شهيق ، وهما فعل أهل النار ، وأفرده ليكون نصاً على إرادة الجنس لئلا يظن أن الاجتماع شرط في ذلك ، و{[53995]}لذكر الحمار{[53996]} مع ذلك من بلاغة الذم والشتم ما ليس لغيره ، ولذلك يستهجن{[53997]} التصريح باسمه ، وهذا يفهم أن الرفع مع الحاجة غير مذموم فإنه ليس بمستنكر ولا مستبشع ، ولقد دعت هذه الآيات إلى معالي الأخلاق ، وهي أمهات الفضائل الثلاث : الحكمة والعفة والشجاعة ، وأمرت بالعدل فيها ، وهي{[53998]} وظيفة التقسيط الذي هو الوسط الذي هو مجمع الفضائل ، ونهت عن مساؤى الأخلاق ، وهي الأطراف التي هي مبدأ الرذائل الحاصل بالإفراط والتفريط ، فإقامة{[53999]} الصلاة التي هي روح العبادة المبنية على العلم هي سر الحكمة والأمر والنهي ، أمر بالشجاعة ونهى عن الجبن ، وفي النهي عن التصعير{[54000]} وما معه نهي عن التهور ، والقصد في المشي والغض في{[54001]} الصوت أمر بالعفة ونهي عن الاستماتة والجمود والخلاعة والفجور ، وفي النهي عن الاستماتة نهي عما قد يلزمها من الجربزة ، وهي الفكر بالمكر المؤدي إلى اللعنة ، وعن الانحطاط إلى البله والبلادة والغفلة ، والكافل بشرح هذا ما قاله الشيخ سعد الدين التفتازاني في الكلام على الإجماع من تلويحه ، قال : إن الخالق تعالى وتقدس قد ركب في الإنسان ثلاث قوى : إحداها{[54002]} مبدأ إدراك الحقائق ، والشوق إلى النظر في العواقب ، والتمييز بين المصالح والمفاسد{[54003]} ، ويعبر عنها بالقوة النطقية والعقلية والنفس{[54004]} المطمئنة الملكية ، والثانية مبدأ جذب{[54005]} المنافع وطلب الملاذ من المآكل والمشارب وغير ذلك ، وتسمى القوة الشهوية والبهيمية والنفس الأمارة ، والثالثة مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى{[54006]} التسلط والترفع ، وهي القوة الغضبية والسبعية والنفس اللوامة ، ويحدث من اعتدال الحركة الأولى الحكمة ، والثانية العفة ، والثالثة الشجاعة ، فأمهات الفضائل هي هذه الثلاث{[54007]} ، وما سوى ذلك إنما هو{[54008]} من تفريعاتها وتركيباتها ، وكل منها وكل منها محتوش بطر في إفراط وتفريط هما رذيلتان ، أما
الحكمة فهي معرفة الحقائق على ما هي عليه{[54009]} بقدر الاستطاعة ، وهي العلم النافع المعبر {[54010]}عنه بمعرفة{[54011]} النفس ما لها وما عليها المشار إليه بقوله تعالى :
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً }[ البقرة : 269 ] وإفراطها الجربزة ، وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي كالمتشابهات ، وعلى وجه لا ينبغي ، كمخالفة الشرائع - نعوذ بالله من علم لا ينفع قلت : وهي بجيم ثم مهملة ثم موحدة ثم زاي مأخوذة من الجربز - بالضم ، وهو الخب ، أي الخداع الخبيث - والله أعلم ، وتفريطها الغباوة التي هي تعطيل القوة الفكرية بالإرداة والوقوف عن اكتساب العلوم النافعة ، وأما الشجاعة فهي انقياد السبعية للناطقة ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الماثلة ، حتى يكون فعلها جميلاً ، وصبرها محموداً ، وإفراطها التهور ، أي الإقدام على ما لا ينبغي ، وتفريطها الجبن ، أي الحذر عما لا ينبغي ، وأما العفة فهي انقياد{[54012]} البهيمية للناطقة ، لتكون تصرفاتها بحسب اقتضاء الناطقة ، لتسلم عن استعباد{[54013]} الهوى إياها ، واستخدام اللذات ، وإفراطها الخلاعة والفجور ، أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما يجب ، وتفريطها الجمود ، أي السكوت عن طلب اللذات بقدر ما رخص فيه العقل والشرع إيثاراً لا خلقة ، فالأوساط فضائل ، والأطراف رذائل ، وإذا امتزجت الفضائل الثلاث{[54014]} حصلت من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة ، فبهذا الاعتبار عبر عن العدالة بالوساطة ، أي في قوله تعالى :
{ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً }[ البقرة : 143 ] وإليه أشير بقوله عليه الصلاة والسلام " خير الأمور أوساطها " والحكمة في النفس البهيمية بقاء البدن الذي هو مركب النفس الناطقة ليصل إلى كمالها اللائق بها ، ومقصدها المتوجه{[54015]} إليه ، وفي السبعية كسر البهيمية وقهرها{[54016]} ودفع الفساد المتوقع من استيلائها ، و{[54017]}اشترط التوسط{[54018]} في أفعالها لئلا تستعبد الناطقة {[54019]}هواهما وتصرفاها{[54020]} عن كمالها ومقصدها - انتهى .