قوله تعالى : " خلق السماوات بغير عمد ترونها " تكون " ترونها " في موضع خفض على النعت ل " عمد " فيمكن أن يكون ثم عمد ولكن لا ترى . ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من " السماوات " ولا عمد ثم البتة . النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول : الأولى أن يكون مستأنفا ، ولا عمد ثم . قاله مكي . ويكون " بغير عمد " التمام . وقد مضى في " الرعد " {[12570]} الكلام في هذه الآية . " وألقى في الأرض رواسي " أي جبالا ثوابت . " أن تميد بكم " في موضع نصب ، أي كراهية أن تميد . والكوفيون يقدرونه بمعنى لئلا تميد . " وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم " عن ابن عباس : من كل لون حسن . وتأوله الشعبي على الناس ؛ لأنهم مخلوقون من الأرض . قال : من كان منهم يصير إلى الجنة فهو الكريم ، ومن كان منهم يصير إلى النار فهو اللئيم . وقد تأول غيره أن النطفة مخلوقة من تراب ، وظاهر القرآن يدل على ذلك .
{[53704]}ولما ختم بصفتي العزة - وهي غاية القدرة - والحكمة - وهي ثمرة العلم - دل{[53705]} عليها باتقان أفعاله وإحكامها فقال : { خلق السماوات } أي على علوها وكبرها وضخامتها { بغير عمد } وقوله : { ترونها } دال{[53706]} على الحكمة ، إن قلنا إنه صفة لعمد أو استئناف ، إما أن قلنا بالثاني فلكون{[53707]} مثل هذا الخلق الكبير الواسع يحمل بمحض{[53708]} القدرة ، وإن قلنا بالأول{[53709]} فتركيب مثله على عمد تكون في العادة حاملة له وهي مع ذلك بحيث لا ترى أدخل في الحكمة وأدق في اللطافة والعظمة ، لأنه يحتاج إلى عملين : تخفيف الكثيف وتقوية اللطيف .
ولما ذكر العمد المقلة{[53710]} ، اتبعه الأوتاد المقرة فقال : { وألقى في الأرض } أي{[53711]} التي{[53712]} أنتم عليها ، جبالاً { رواسي }
والعجب أنها من فوقها وجميع الرواسي التي تعرفونها تكون من تحت{[53713]} ، تثبتها عن { أن تميد{[53714]} } أي تتمايل مضطربة { بكم } كما هو شأن ما على ظهر الماء .
ولما ذكر إيجادها وإصلاحها للاستقرار . ذكر ما خلقت له من الحيوان فقال : { وبث فيها } أي فرق { من كل دابة } ولما ذكر ذلك ، ذكر{[53715]} ما يعيش به ، فقال منبهاً لمظهر العظمة على أن ذلك وإن كان لهم في بعضه تسبب {[53716]}لا يقدر{[53717]} عليه إلا هو سبحانه : { وأنزلنا } أي بما لنا من العزة اللازمة للقدرة ، وقدم ما{[53718]} لا قدرة لمخلوق عليه بوجه فقال : { من السماء ماء } ولما تسبب عن ذلك تدبير الأقوات ، وكان من آثار الحكمة التابعة للعلم ، دل عليه بقوله : { فأنبتنا } أي{[53719]} بما لنا من العلو{[53720]} في الحكمة { فيها } أي الأرض بخلط الماء بترابها { من كل زوج } أي صنف من النبات متشابه { كريم* } بما له من البهجة والنضرة الجالبة للسرور والمنفعة والكثرة الحافظة لتلك الدواب .
قوله تعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( 10 ) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } .
يبين الله في ذلك بالغ قدرته وعظيم سلطانه ؛ فهو سبحانه الخالق المهيمن المقتدر الذي ذرأ الكون الهائل المتسع ومنه السماوات السبع وما فيهن وما بينهن . وقد قيل : إن السماوات مبسوطة مستوية . وقيل : إنها مستديرة ويعزز هذا قوله : { كل في فلك يسبحون } والفلك اسم لشيء مستدير . وفلْكة المغزل ، سميت بذلك لاستدارتها . ويقال : تركته كأنه يدور في فلك{[3639]} .
قوله : { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } { عَمَدٍ } ، جمع ومفرده عماد وعمود . ترونها جملة فعلية ، في موضع نصب على الحال من { السماوات } . فلا يكون ثمة عمد البتة . وقيل : في موضع جر ، صفة لعمد ، فيكون هناك عمد لكنها لا ترى .
وكيفما تكن حال السماوات أو حقيقتها من حيث الكيفية والهيئة والسعة وكثرة الخلائق والأشياء والأجرام فإن ذلك كله من خلق الله . وتلكم آية بالغة على أن الله حق ، وأنه الخالق القادر البديع .
قوله : { وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } الرواسي ، الجبال الثوابت ؛ فقد جعلها الله في الأرض ؛ لتستقر هذه وتثبت فلا تتحرك أو تضطرب ؛ ذلك أن الجبال هائلة وثقال ، وهي بعظيم ثقلها تصير الأرض بها ثقيلة فتترسخ وتسكن ، وإلا زالت عن موضعها أو تطايرت . وهو قوله : { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي كراهية أن تميد بكم . أو لئلا تميد بكم ، ماد الشيء ، تحرك . ومادت الأغصان ، تمايلت . وغصن مائد ، أي مائل ، وماد الرجل ، يعني تبختر{[3640]} .
قوله : { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ } الدابة اسم لكل ما دب على الأرض .
والمعنى : أن الله خلق في الأرض من أصناف الحيوانات ما لا يعلم أجناسها وأعدادها وأشكالها وألوانها إلا هو سبحانه .
قوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } أنزل الله المطر من السماء فأنبت به في الأرض من كل نوع من أنواع النبات { كَرِيمٍ } أي حسن المنظر واللون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.