قوله تعالى : " ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض " ذكر نعمه على بني آدم ، وأنه سخر لهم " ما في السموات " من شمس وقمر ونجوم وملائكة تحوطهم وتجر إليهم منافعهم . " وما في الأرض " عام في الجبال والأشجار والثمار وما لا يحصى . " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " أي أكملها وأتمها . وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة : " وأصبغ " بالصاد على بدلها من السين ؛ لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صادا . والنعم : جمع نعمة كسدرة وسدر ( بفتح الدال ) وهي قراءة نافع وأبي عمرو وحفص . الباقون : " نعمة " على الإفراد ، والإفراد يدل على الكثرة ، كقوله تعالى : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " {[12607]} [ إبراهيم : 34 ] . وهي قراءة ابن عباس من وجوه صحاح . وقيل : إن معناها الإسلام ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية : ( الظاهرة الإسلام وما حسن من خلقك ، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك ) . قال النحاس : وشرح هذا أن سعيد بن جبير قال في قول الله عز وجل : " ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم " {[12608]} [ المائدة : 6 ] قال : يدخلكم الجنة . وتمام نعمة الله عز وجل على العبد أن يدخله الجنة ، فكذا لما كان الإسلام يؤول أمره إلى الجنة سمي نعمة . وقيل : الظاهرة الصحة وكمال الخلق ، والباطنة المعرفة والعقل . وقال المحاسبي : الظاهرة نعم الدنيا ، والباطنة نعم العقبى . وقيل : الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس وتوفيق الطاعات ، والباطنة ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفع الله تعالى عن العبد من الآفات . وقد سرد الماوردي في هذا أقوالا تسعة ، كلها ترجع إلى هذا .
قوله تعالى : " ومن الناس من يجادل في الله " تقدم معناها في " الحج " {[12609]} وغيرها . . نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أخبرني عن ربك ، من أي شيء هو ؟ فجاءت صاعقة فأخذته ؛ قاله مجاهد . وقد مضى هذا في " الرعد " {[12610]} . وقيل : إنها نزلت في النضر بن الحارث ، كان يقول : إن الملائكة بنات الله . قاله ابن عباس . " يجادل " يخاصم " بغير علم " أي بغير حجة " ولا هدى ولا كتاب منير " أي نيّر بيّن ، إلا الشيطان فيما يلقي إليهم . " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم " {[12611]} [ الأنعام : 121 ] وإلا تقليد الأسلاف كما في الآية بعد .
ولما انقضت هذه الجمل ، رافعة أعناقها على المشتري وزحل ، قابلة{[54021]} لمن يريد عملها مع الكسل ، والضجر في الفكر والملل ، وأين الثريا من يد المتناول{[54022]} ، وكان قد أخبر سبحانه وتعالى في أول السورة أن الآيات المسموعة هدى لقوم وضلال لآخرين ، وكان من الغرائب أن شيئاً واحداً يؤثر{[54023]} شيئين متضادين ، وأتبع ذلك ما دل على أنه من بالغ الحكمة بوجوه مرضية مشرقة مضيئة ، لكنها بمسالك دقيقة و{[54024]} إشارات خفية ، إلى أن ختم بالنهي عن التكبر ، ورفع الصوت فوق الحاجة ، إشارة إلى أن فاعل ما لا حاجة إليه غير حكيم ، وكان التكبر على الناس والتعالي عليهم من آثار الفضل في النعمة ، وكانت العادة جارية بأن الملك يخضع له تارة لمجرد عظمته ، وتارة خوفاً من سطوته ، وتارة رجاء لنعمته ، أبرز سبحانه وتعالى غيب ما وصف به الآيات المسموعة من تأثير الضدين في حالة واحدة في شاهد الآيات المرئية على وجه يدل على استحقاقه ، لما أمر به لقمان عليه السلام من العبادة والتذلل ، وأن{[54025]} إليه المرجع ، وهو عالم بكل شيء قادر على كل شيء وأن كل ما{[54026]} ترى خلقه مذكراً بأن النعمة إنما هي منه ، فلا ينبغي لأحد أن يفخر بما آتاه غيره ، ولو وكل فيه إلى نفسه لم يقدر على شيء منه ، محذراً من سلبها عن المتكبر{[54027]} وإعطائها للذليل{[54028]} المحتقر ، فقال : { ألم تروا } اي تعلموا علماً هو في ظهوره كالمشاهدة{[54029]} أيها المشترون لهو الحديث ، المتكبرون{[54030]} علي المقبلين على الله ، المتخلين عن الدنيا ، الذين قلنا لهم رداً عن{[54031]} الشرك وإبعاداً عن الهوى والإفك { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } { أن الله } أي{[54032]} الحائز لكل كمال { سخر لكم } أي خاصة { ما في السماوات } بالإنارة والإظلام ، والحر والبرد وغير ذلك من الإنعام ، وأكده{[54033]} بإعادة الموصول والجار ، لأن المقام حقيق به فقال : { وما في الأرض } بكل ما يصلحكم فتعلموا أن الكل خلقه ، ما لأحد ممن دونه {[54034]}فيه شيء{[54035]} ، وأنه محيط بكل شيء قدرة وعلماً ، فهو قادر على تعسيره{[54036]} كما قدر على تسخيره ، وقوى على نزعه من القوى و{[54037]}دفعه للضعيف و{[54038]}هو يرجعكم إليه فينبئكم بما{[54039]} كنتم تعملون ويحضره لكم وإن كان في أخفى الأماكن { وأسبغ } أي أطال وأوسع وأتم وأفضل عن قدر الحاجة وأكمل { عليكم } أيها المكلفون { نعمه } أي{[54040]} واحدة تليق بالدنيا - في قراءة الجماعة{[54041]} بإسكان العين وتاء{[54042]} تأنيث منصوبة منونة تنوين تعظيم ، مشيراً إلى أنها ذات أنواع كثيرة جداً ، بما دلت عليه قراءة المدنيين وأبي عمرو وحفص عن عاصم بجعل تاء التأنيث ضميراً له سبحانه مع فتح العين ليكون جمعاً { ظاهرة } وهي ما تشاهدونها متذكرين لها { وباطنة } وهي ما غابت عنكم {[54043]}فلا يحسونها ، أو تحسونها{[54044]} وهي خفية عنكم ، لا تذكرونها إلا بالتذكير ، وكل منكم يعرف ذلك على الإجمال ، فاعبدوه لما دعت إليه مجلة{[54045]} لقمان عليه السلام لتكونوا من المحسنين ، حذراً من سلب نعمه ، وإيجاب نقمه ، ويجوز أن تكون الآية{[54046]} دليلاً على قوله تعالى : { خلق السماوات بغير عمد ترونها } .
ولما كان التقدير : ومع كون كل منكم أيها الخلق يعرف أن ذلك نعمة منه سبحانه تعالى وحده ، فمن الناس من أذعن وأناب ، وسلم{[54047]} لكل ما دعا{[54048]} إليه كتابه الحكيم ، على لسان رسوله النبي الكريم ، فكان من الحكماء{[54049]} المحسنين فاهتدى ، عطف عليه قوله{[54050]} مظهراً موضع ضمير{[54051]} المخاطبين مما يشير إليه النوس : { ومن الناس } أي الذين هم أهل للاضطراب ، ويمكن أن يكون حالاً من { ألم تروا } ويكون { ألم تروا } دليلاً على أول السورة ، أي أشير إلى الآيات حال كونها هدى لمن ذكر والحال أن من الناس من يشتري اللهو ، ألم تروا دليلاً على أن{[54052]} من الناس المعاند بعد وضوح الدليل أن الله سخر لكم جميع العالم وأنعم عليكم بما أنعم والحال أن من الناس { من{[54053]} يجادل } فلا لهو أعظم من جداله ، ولا كبر مثل كبره ، ولا ضلال مثل ضلاله ، وأظهر لزيادة التشنيع على هذا المجادل ، وإشارة إلى قبح{[54054]} المجادلة من غير نظر إلى النعم فقال تعالى : { في الله } المحيط {[54055]}بكل شيء{[54056]} علماً وقدرة .
ولما كان سبحانه في ظهور وجوده{[54057]} وأوصافه بحيث لا يخفى بوجه ، وكان المجادل قد يكون فهماً ، قال : { بغير } {[54058]}أي بكلام متصف بأنه غير{[54059]} { علم } أي بل{[54060]} بألفاظ هي في ركاكة معانيها لعدم استنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العحم ، فكان بذلك حماراً تابعاً للهوى .
ولما كان المعنى قد يظهر بطلانه لبعض القاصرين ، لوروده على لسان من لا يعتبر ، فإذا أضيف إلى كبير ، تؤمل ولم يبادر إلى رده لاستعظامه ، فظهر على طول حسه ، قال {[54061]}معبراً بأداة النفي الحقيقة به ، لأن الموضع لها ، وعدل عنها اولاً لئلا يظن أن المذموم إنما هو المجادل إذا كان غير متصف بالعلم{[54062]} وإن كان جداله متصفاً بالعلم{[54063]} : { ولا هدى } أي وارد عمن{[54064]} عهد منه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات ، فوجب أخذ اقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها .
ولما كان القول قد يكون مقبولاً لاستناده إلى الله تعالى وإن لم يكن اصلاً معقولاً ، قال : { ولا كتاب } أي من الله ؛ ووصفه بما هو لازمه لا ينفك عنه فقال : { منير* } أي بين غاية البيان ، مبين لغيره على عادة بيان الله سبحانه وتعالى ، أو يكون أريد بالوصف الإعجاز لإظهاره قطعاً أنه من الله ، فإنه ليس كل كتاب الله كذلك .