فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ} (20)

لما فرغ سبحانه من قصة لقمان رجع إلى توبيخ المشركين وتبكيتهم وإقامة الحجج عليهم ، فقال : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } قال الزجاج : معنى تسخيرها للآدميين : الانتفاع بها انتهى ، فمن مخلوقات السموات المسخرة لبني آدم ، أي التي ينتفعون بها الشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك . ومن جملة ذلك : الملائكة فإنهم حفظة لبني آدم بأمر الله سبحانه ، ومن مخلوقات الأرض المسخرة لبني آدم : الأحجار والتراب والزرع والشجر والثمر والحيوانات التي ينتفعون بها والعشب الذي يرعون فيه دوابهم ، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة ، فالمراد بالتسخير جعل المسخر بحيث ينتفع به المسخر له ، سواء كان منقاداً له ، وداخلاً تحت تصرّفه أم لا { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً } أي أتمّ وأكمل عليكم نعمه ، يقال : سبغت النعمة إذا تمت وكملت . قرأ الجمهور { أسبغ } بالسين ، وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة : " أصبغ " بالصاد مكان السين . والنعم جمع نعمة على قراءة نافع وأبي عمرو وحفص ، وقرأ الباقون : " نعمة " بسكون العين على الإفراد والتنوين اسم جنس يراد به الجمع ويدلّ به على الكثرة ، كقوله : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] وهي قراءة ابن عباس . والمراد بالنعم الظاهرة : ما يدرك بالعقل أو الحسّ ويعرفه من يتعرفه ، وبالباطنة : ما لا يدرك للناس ، ويخفى عليهم . وقيل : الظاهرة : الصحة وكمال الخلق ، والباطنة : المعرفة ، والعقل . وقيل : الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال ، وفعل الطاعات ، والباطنة : ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفعه الله عن البعد من الآفات . وقيل : الظاهرة نعم الدنيا ، والباطنة : نعم الآخرة . وقيل : الظاهرة : الإسلام والجمال ، والباطنة : ما ستره الله على العبد من الأعمال السيئة { وَمِنَ الناس مَن يجادل فِي الله } أي في شأن الله سبحانه في توحيده وصفاته ؛ مكابرة وعناداً بعد ظهور الحق له وقيام الحجة عليه ، ولهذا قال : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } من عقل ولا نقل { وَلاَ هُدًى } يهتدي به إلى طريق الصواب { وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ } أنزله الله سبحانه ، بل مجرّد تعنت ، ومحض عناد . وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة .

/خ28