السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ} (20)

ولما استدل سبحانه بقوله تعالى : { خلق السماوات بغير عمد } على الوحدانية وبين بحكمة لقمان أنّ معرفة ذلك غير مختصة بالنبوّة استدل ثانياً على الوحدانية بالنعم بقوله تعالى : { ألم تروا } أي : تعلموا علماً هو في ظهوره كالمشاهدة { أن الله } أي : الحائز لكل كمال { سخر لكم } أي : لأجلكم { ما في السماوات } من الإنارة والإظلام والشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر والبرد وغير ذلك من الإنعامات مما لا يحصى ، كما قال { والشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره } ( الأعراف ، 54 ) { و } سخر لكم { ما في الأرض } من البحار والثمار والآبار والأنهار والدواب والمعادن وغير ذلك مما لا يحصى { وأسبغ } أي : أوسع وأتم { عليكم } وقوله تعالى { نعمه } قرأه نافع وأبو عمرو وحفص بفتح العين وبعد الميم هاء مضمومة ، والباقون بسكون العين وبعد الميم تاء مفتوحة منونة ، ومعناها الجمع أيضاً كقوله تعالى { وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها } ( إبراهيم : 34 ) .

واختلف في قوله عز وجل { ظاهرة وباطنة } على أقوال : فقال عكرمة عن ابن عباس : النعمة الظاهرة : القرآن والإسلام ، والباطنة : ما ستر عليك من الذنوب ولم يعجل عليك بالنقمة ، وقال الضحاك : الظاهرة حسن الصورة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة ، وقال مقاتل : الظاهرة تسوية الخلق والرزق والإسلام ، والباطنة ما ستر من الذنوب ، وقال الربيع : الظاهرة الجوارح والباطنة القلب ، وقال عطاء الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة الشفاعة ، وقال مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الإمداد بالملائكة ، وقال سهل بن عبد الله : الظاهرة اتباع الرسول والباطنة محبته ، وقيل الظاهرة تمام الرزق والباطنة تمام الخلق ، وقيل الظاهرة الإمداد بالملائكة والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفار ، وقيل الظاهرة الإقرار باللسان والباطنة الاعتقاد بالقلب ، وقيل الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح الظاهرة ، والباطنة القلب والعقل والفهم وما أشبه ذلك ، ويروى في دعاء موسى عليه السلام : إلهي دلني على إخفاء نعمتك على عبادك ، فقال : أخفى نعمتي عليهم النفس ، ويروى أن أيسر ما يعذب به أهل النار الأخذ بالأنفاس .

ونزل في النضر بن الحارث وأبي بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في الله تعالى وفي صفاته : { ومن الناس } أي : أهل مكة { من يجادل } أي : يحاجج فلا لهو أعظم من جداله ولا كبر مثل كبره ولا ضلال مثل ضلاله وأظهر زيادة التشنيع على هذا المجادل بقوله تعالى : { في الله } أي : المحيط علماً وقدرة ثم بين تعالى مجادلته أنها { بغير علم } أي : مستفاد من دليل بل بألفاظ في ركاكة معانيها لعدم إسنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العجم فكان بذلك حماراً تابعاً للهوى { ولا هدى } أي : من رسول عُهِد منه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات فوجب أخذ أقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها { ولا كتاب } أي : من الله تعالى ، ثم وصفه بما هو لازم له بقوله تعالى : { منير } أي : بين غاية البيان .