قوله تعالى : " عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق " قرأ نافع وحمزة وابن محيصن " عاليهم " ساكنة الياء ، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما " عاليتهم " وبتفسير ابن عباس : أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها . الفراء : وهو مرفوع بالابتداء وخبره " ثياب سندس " واسم الفاعل يراد به الجمع . ويجوز في قول الأخفش أن يكون{[15696]} إفراده على أنه اسم فاعل متقدم و " ثياب " مرتفعة به وسدت مسد الخبر ، والإضافة فيه في تقدير الانفصال لأنه لم يخص ، وابتدئ به لأنه اختص بالإضافة . وقرأ الباقون " عاليهم " بالنصب . وقال الفراء : هو كقولك فوقهم ، والعرب تقول : قومك داخل الدار فينصبون داخل على الظرف ؛ لأنه محل . وأنكر الزجاج هذا وقال : هو مما لا نعرفه في الظروف ، ولو كان ظرفا لم يجز إسكان الياء . ولكنه بالنصب على الحال من شيئين : أحدهما الهاء والميم في قوله : " يطوف عليهم " أي على الأبرار " ولدان " عاليا الأبرار ثياب سندس ؛ أي يطوف عليهم في هذه الحال ، والثاني : أن يكون حالا من الولدان ؛ أي " إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا " في حال علو الثياب أبدانهم . وقال أبو علي : العامل في الحال إما " لقاهم نضرة وسرورا " وإما " جزاهم بما صبروا " قال : ويجوز أن يكون ظرفا فصرف . المهدوي : ويجوز أن يكون اسم فاعل ظرفا ؛ كقولك هو ناحية من الدار ، وعلى أن عاليا لما كان بمعنى فوق أجري مجراه فجعل ظرفا . وقرأ ابن محيصن وابن كثير وأبو بكر عن عاصم " خضر " بالجر على نعت السندس " وإستبرق " بالرفع نسقا على الثياب ، ومعناه عاليهم [ ثياب ]{[15697]} سندس وإستبرق . وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب " خضر " رفعا نعتا للثياب " وإستبرق " بالخفض نعتا للسندس ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لجودة معناه ؛ لأن الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي مرفوعة ، وأحسن ما عطف الإستبرق على السندس عطف جنس على جنس ، والمعنى : عاليهم ثياب خضر من سندس وإستبرق ، أي من هذين النوعين . وقرأ نافع وحفص كلاهما بالرفع ويكون " خضر " نعتا للثياب ؛ لأنهما جميعا بلفظ الجمع " وإستبرق " عطفا على الثياب . وقرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي كلاهما بالخفض ويكون قوله : " خضر " نعتا للسندس ، والسندس اسم جنس ، وأجاز الأخفش وصف اسم الجنس بالجمع على استقباح له ، وتقول : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، ولكنه مستبعد في الكلام . والمعنى على هذه القراءة : عاليهم ثياب سندس خضر وثياب إستبرق . وكلهم صرف الإستبرق ، إلا ابن محيصن ، فإنه فتحه ولم يصرفه فقرأ " وإستبرق " نصبا في موضع الجر ، على منع الصرف ، لأنه أعجمي ، وهو غلط ؛ لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ، تقول الإستبرق إلا أن يزعم [ ابن محيصن ]{[15698]} أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب . وقرئ " واستبرق " بوصل الهمزة والفتح على أنه سمي باستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضا ، لأنه معرب مشهور تعريبه ، وأن أصله استبرك{[15699]} والسندس : ما رق من الديباج . والإستبرق : ما غلظ منه . وقد تقدم{[15700]} .
قوله تعالى : " وحلوا " عطف على " ويطوف " . " أساور من فضة " وفي سورة فاطر " يحلون فيها من أساور من ذهب " وفي سورة الحج " يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا " [ الحج : 23 ] ، فقيل : حلي الرجل الفضة وحلي المرأة الذهب . وقيل : تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة . وقيل : يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب وسواران من فضة وسواران من لؤلؤ ، ليجتمع لهم محاسن الجنة . قاله سعيد بن المسيب . وقيل : أي لكل قوم ما تميل إليه نفوسهم . " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى : " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " قال : إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان ، فيشربون من إحداهما ، فتجري عليهم بنضرة النعيم ، فلا تتغير أبشارهم ، ولا تتشعث أشعارهم أبدا ، ثم يشربون من الأخرى ، فيخرج ما في بطونهم من الأذى ، ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم : " سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدي " [ الزمر : 73 ] . وقال النخعي وأبو قلابة : هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم ، وصار ما أكلوه وما شربوه رشح مسك ، وضمرت بطونهم . وقال مقاتل : هو من عين ماء على باب الجنة ، تنبع من ساق شجرة ، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد ، وما كان في جوفه من أذى وقذر . وهذا معنى ما روي عن علي ، إلا أنه في قول مقاتل عين واحدة وعليه فيكون فعولا للمبالغة ، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر . وقد مضى بيانه في سورة " الفرقان " {[15701]} والحمد لله . وقال طيب الجَمَّال : صليت خلف سهل بن عبد الله العتمة فقرأ " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " وجعل يحرك شفتيه وفمه ، كأنه يمص شيئا ، فلما فرغ قيل له : أتشرب أم تقرأ ؟ فقال : والله لو لم أجد لذته عند قراءته كلذته عند شربه ما قرأته .
ولما ذكر الدار وساكنيها من مخدوم وخدم ، ذكر لباسهم بانياً حالاً{[70698]} من الفاعل والمفعول : { عليهم } أي حال كون الخادم والمخدوم {[70699]}يعلو أجسامهم{[70700]} على سبيل الدوام ، وسكن نافع وحمزة الياء على أنه مبتدأ وخبر شارح للملك على سبيل الاستئناف { ثياب سندس } وهو ما رق من الحرير { خضر } رفعه الجماعة صفة لثياب ، وجره ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم صفة لسندس حملاً على المعنى فإنه اسم جنس { وإستبرق } وهو ما غلظ من الديباج يعمل بالذهب ، أو هو ثياب حرير صفاق نحو الديباج - قاله في القاموس{[70701]} ، رفعه ابن كثير ونافع وعاصم نسقاً على ثياب ، وجره الباقون على سندس .
ولما كان المقصود لأرباب اللباس الفاخر الحلية ، أخبر عن تحليتهم ، وبني الفعل للمفعول دلالة على تيسر ذلك لهم وسهولته عليهم فقال : { وحلّوا } أي وجدت تحلية المخدومين والخدم { أساور من فضة } وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب ، وتقدم سر تخصيص هذه السورة بالفضة والأساورة بجمع{[70702]} ما فيها من لذة الزينة لذة اتساع الملك فإنها كناية عنه فإنه - كما قال الملوي - كان في الزمن القديم-{[70703]} إذا ملك ملك أقاليم عظيمة كثيرة لبس سواراً وسمي الملك المسور لاتساع مملكته وعظمتها وكثرة أقاليمها ، وإن لم تجمع أقاليم لم يسور فما ظنك بمن أعطى من ذلك جمع الكثرة ، وهي بالغة من الأعضاء ما يبلغه التحجيل في الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم : " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " فلذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يرفع الماء{[70704]} إلى المنكبين وإلى الساقين .
ولما كان ربما ظن بما تقدم من ذلك الممزوج شيء من نقص لأجله يمزج كما هو في الدنيا ، وكان قد قال أولاً { يشربون } بالبناء للفاعل ، وثانياً ( يسقون ) بالبناء للمفعول ، قال بانياً للفاعل بياناً لفضل ما يسقونه في نفسه وفي كونه من عند الإله الأعظم المتصف بغاية الإحسان على{[70705]} صفة من العظمة تليق بإحسانه سبحانه بما أفاده إسناد{[70706]} الفعل إليه : { وسقاهم } وعبر بصفة الإحسان تأكيداً لذلك{[70707]} فقال : { ربهم } أي الموجد لهم المحسن إليهم المدبر لمصالحهم { شراباً طهوراً * } أي ليس هو كشراب الدنيا سواء كان من الخمر أو من الماء أو{[70708]} من غيرهما ، بل هو بالغ الطهارة والوصف بالشرابية من العذوبة واللذة واللطافة ، وهو مع ذلك آلة للتطهير البالغ للغير فلا يبقى {[70709]}في بواطنهم{[70710]} غش ولا وسواس ، ولا يريدون إلا ما يرضي مليكهم مما أسس{[70711]} على غاية الحكمة وفاق كامل وسجايا مطهرة وأخلاق مصطفاة لا عوج فيها ، ولا يستحيل شيء من شرابهم إلى نجاسة من بول ولا غيره ، بل يصير رشحاً كرشح المسك ويعطي الرجل شهوة مائة رجل في الأكل وغيره ، فإذا أكل شرب فطهر باطنه ورشح منه المسك فعادت الشهوة ، بل الحديث يدل على أن شهوتهم لا تنقضي أصلاً فإنه قال :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.