الثالثة عشرة-قوله تعالى : " يسبح له فيها بالغدو والآصال ، رجال " اختلف العلماء في وصف الله تعالى المسبحين ، فقيل : هم المراقبون أمر الله ، الطالبون رضاءه ، الذين لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا . وقال كثير من الصحابة : نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا . ورأى سالم بن عبد الله أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال : هؤلاء الذين أراد الله بقول : " لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " . وروي ذلك عن ابن مسعود . وقرأ عبد الله بن عامر وعاصم في رواية أبي بكر عنه والحسن " يسبح له فيها " بفتح الباء على ما لم يسم فاعله . وكان نافع وابن عمر وأبو عمرو وحمزة يقرؤون " يسبح " بكسر الباء ، وكذلك روى أبو عمرو عن عاصم . فمن قرأ " يسبح " بفتح الباء كان على معنيين : أحدهما أن يرتفع " رجال " بفعل مضمر دل عليه الظاهر ، بمعنى يسبحه رجال ، فيوقف على هذا على " الآصال " . وقد ذكر سيبويه مثل هذا . وأنشد :
لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومة *** ومُخْتَبِطٌ مما تُطِيحُ الطَّوَائِحُ{[12000]}
المعنى : يبكيه ضارع . وعلى هذا تقول : ضرب زيد عمرو ، على معنى ضربه عمرو . والوجه الآخر : أن يرتفع " رجال " بالابتداء ، والخبر " في بيوت " ، أي في بيوت أذن الله أن ترفع رجال . و " يسبح له فيها " حال من الضمير في " ترفع " ، كأنه قال : أن ترفع ، مسبحا له فيها ، ولا يوقف على " الآصال " على هذا التقدير . ومن قرأ " يسبح " بكسر الباء لم يقف على " الآصال " ؛ لأن " يسبح " فعل للرجال ، والفعل مضطر إلى فاعله ولا إضمار فيه . وقد تقدم القول في " الغدو والآصال " في آخر " الأعراف " {[12001]} والحمد لله وحده .
الرابعة عشرة-قوله : " يسبح له فيها " قيل : معناه يصلي . وقال ابن عباس : كل تسبيح في القرآن صلاة ، ويدل عليه قوله : " بالغدو والآصال " ، أي بالغداة والعشي . وقال أكثر المفسرين : أراد الصلاة المفروضة ، فالغدو صلاة الصبح ، والآصال صلاة الظهر والعصر والعشائين ؛ لأن اسم الآصال يجمعها .
الخامسة عشرة-روى أبو داود عن أبي أمامة أن رسول الله صلى عليه وسلم قال : ( من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج إلى تسبيح الضحا لا ينصبه إلا إياه فأجره المعتمر وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما{[12002]} كتاب في عليين ) . وخرج عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح ) . في غير الصحيح من الزيادة ( كما أن أحدكم لو زار من يحب زيارته لاجتهد في كرامته ) ، ذكره الثعلبي . وخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ) . وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة ، وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم أتى المسجد لا ينهزه{[12003]} إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد ، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون : اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه ) . في رواية : ما يحدث ؟ قال : ( يفسو أو يضرط ) . وقال حكيم بن زريق : قيل لسعيد بن المسيب أحضور الجنازة أحب إليك أم الجلوس في المسجد ؟ فقال : من صلى على جنازة فله قيراط ، ومن شهد دفنها فله قيراطان ، والجلوس في المسجد أحب إلي لأن الملائكة تقول : اللهم اغفر له اللهم ارحمه اللهم تب عليه . وروي عن الحكم بن عمير صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كونوا في الدنيا أضيافا ، واتخذوا المساجد بيوتا ، وعودوا قلوبكم الرقة وأكثروا التفكر والبكاء ولا تختلف بكم الأهواء ، تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون ، وتؤملون ما لا تدركون ) . وقال أبو الدرداء لابنه : ليكن المسجد بيتك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن المساجد بيوت المتقين ومن كانت المساجد بيته ضمن الله تعالى له الروح والراحة والجواز على الصراط ) .
وكتب أبو صادق الأزدي إلى شعيب بن الحبحاب : أن عليك بالمساجد فالزمها ، فإنه بلغني أنها كانت مجالس الأنبياء . وقال أبو إدريس الخولاني : المساجد مجالس الكرام من الناس . وقال مالك بن دينار : بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول : ( إني أهم بعذاب عبادي فأنظر إلى عمار المساجد وجلساء القرآن وولدان الإسلام فيسكن غضبي ) . وروي عنه عليه السلام أنه قال : ( سيكون في آخر الزمان رجال يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا حلقا ذكرُهم الدنيا وحبها ، فلا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة ) . وقال ابن المسيب : من جلس في مسجد فإنما يجالس ربه ، فما حقه أن يقول إلا خيرا . وقد مضى من تعظيم المساجد وحرمتها ما فيه{[12004]} كفاية . وقد جمع بعض العلماء في ذلك خمس عشرة خصلة ، فقال : من حرمة المسجد أن يسلم وقت الدخول إن كان القوم جلوسا ، وإن لم يكن في المسجد أحد قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وأن يركع ركعتين قبل أن يجلس ، وألا يشتري فيه ولا يبيع ، ولا يسل فيه سهما ولا سيفا ، ولا يطلب فيه ضالة ، ولا يرفع فيه صوتا بغير ذكر الله تعالى ، ولا يتكلم فيه بأحاديث الدنيا ، ولا يتخطى رقاب الناس ، ولا ينازع في المكان ، ولا يضيق على أحد في الصف ، ولا يمر بين يدي مصل ، ولا يبصق ، ولا يتنخم ، ولا يتمخط فيه ، ولا يفرقع أصابعه ، ولا يعبث بشيء من جسده ، وأن ينزه عن النجاسات والصبيان والمجانين ، وإقامة الحدود ، وأن يكثر ذكر الله تعالى ولا يغفل عنه . فإذا فعل هذه الخصال فقد أدى حق المسجد ، وكان المسجد حرزا له وحصنا من الشيطان الرجيم . وفي الخبر ( أن مسجدا ارتفع بأهله إلى السماء يشكوهم إلى الله لما يتحدثون فيه من أحاديث الدنيا ) . وروي الدارقطني عن عامر الشعبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قَبَلا{[12005]} فيقال لليلتين وأن تتخذ المساجد طرقا وأن يظهر موت الفجأة ) . هذا يرويه عبد الكبير بن المعافي عن شريك عن العباس بن ذريح عن الشعبي عن أنس . وغيره يرويه عن الشعبي مرسلا ، والله أعلم . وقال أبو حاتم : عبد الكبير بن معافي ثقة كان يعد من الأبدال{[12006]} . وفي البخاري عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها ، لا يَعْقِرُ بكفه مسلما ) . وخرج مسلم عن أنس قال : قال وسول الله صلى الله عليه وسلم : ( البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ) . وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة{[12007]} تكون في المسجد لا تدفن ) . وخرج أبو داود عن الفرج بن فضالة عن أبي سعد{[12008]} الحميري قال : رأيت واثلة بن الأسقع في مسجد دمشق بصق على الحصير ثم مسحه برجله ، فقيل له : لم فعلت هذا ؟ قال : لأني رأيت رسول الله صلى عليه وسلم يفعله . فرج بن فضالة ضعيف ، وأيضا فلم يكن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حصر . والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بصق على الأرض ودلكه بنعله اليسرى ، ولعل واثلة إنما أراد هذا فحمل الحصير عليه .
السادسة عشرة-لما قال تعالى : " رجال " وخصهم بالذكر دل على أن النساء لا حظ لهن في المساجد ؛ إذ لا جمعة عليهن ولا جماعة ، وأن صلاتهن في بيوتهن أفضل . روى أبو داود عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها ) .
السابعة عشرة-قوله تعالى : " لا تلهيهم " أي لا تشغلهم . " تجارة ولا بيع عن ذكر الله " خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلاة . فإن قيل : فلم كرر ذكر البيع والتجارة تشمله . قيل له : أراد بالتجارة الشراء لقول : " ولا بيع " . نظيره قوله تعالى : " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " {[12009]}[ الجمعة : 11 ] قاله الواقدي . وقال الكلبي : التجار هم الجلاب المسافرون ، والباعة هم المقيمون . " عن ذكر الله " اختلف في تأويله ؛ فقال عطاء : يعني حضور الصلاة ، وقاله ابن عباس ، وقال : المكتوبة . وقيل عن الأذان ، ذكره يحيى بن سلام . وقيل : عن ذكره بأسمائه الحسنى ، أي يوحدونه ويمجدونه . والآية نزلت في أهل الأسواق ، قاله ابن عمر . قال سالم : جاز عبد الله بن عمر بالسوق وقد أغلقوا حوانيتهم وقاموا ليصلوا في جماعة فقال : فيهم نزلت : " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع " الآية . وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله . وقيل : إن رجلين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، أحدهما بياعا فإذا سمع النداء بالصلاة فإن كان الميزان بيده طرحه ولا يضعه وضعا ، وإن كان بالأرض لم يرفعه . وكان الآخر قينا يعمل السيوف للتجارة ، فكان إذا كانت مطرقته على السندان أبقاها موضوعة ، وإن كان قد رفعها ألقاها من وراء ظهره إذا سمع الأذان ، فأنزل الله تعالى هذا ثناء عليهما وعلى كل من اقتدى بهما .
الثامنة عشرة-قوله تعالى : " وإقام الصلاة " هذا يدل على أن المراد بقوله " عن ذكر الله " غير الصلاة ؛ لأنه يكون تكرارا . يقال : أقام الصلاة إقامة ، والأصل إقواما فقلبت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وبعدها ألف ساكنة فحذفت إحداهما ، وأثبتت الهاء لئلا تحذفها فتُجْحَفَ ، فلما أضيفت قام المضاف مقام الهاء فجاز حذفها ، وإن لم تضف لم يجز حذفها ، ألا ترى أنك تقول : وعد عدة ، ووزن زنة ، فلا يجوز حذف الهاء ، لأنك قد حذفت واوا ؛ لأن الأصل وعد وعدة ، ووزن وزنة ، فإن أضفت حذفت الهاء ، وأنشد الفراء :
إن الخَلِيطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا *** وأخلفوك عِدَ الأمر الذي وَعَدوا
يريد عدة ، فحذف الهاء لما أضاف . وروي من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجب بيض قوائمها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورؤوسها من المسك وأزمتها من الزبرجد الأخضر ، وقوامها والمؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقربون أو أنبياء مرسلون ، فينادى ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ) . وعن علي رضي الله عنه أنه قال : ( يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه ، يعمرون مساجدهم وهي من ذكر الله خراب ، شر أهل ذلك الزمن علماؤهم ، منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود ) يعني أنهم يعلمون ولا يعملون بواجبات ما علموا .
التاسعة عشرة-قوله تعالى : " وإيتاء الزكاة " قيل : الزكاة المفروضة ، قاله الحسن . وقال ابن عباس : الزكاة هنا طاعة الله تعالى والإخلاص ؛ إذ ليس لكل مؤمن مال . " يخافون يوما " يعني يوم القيامة . " تتقلب فيه القلوب والأبصار " يعني من هوله وحذر الهلاك . والتقلب التحول ، والمراد قلوب الكفار وأبصارهم . فتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر ، فلا هي ترجع إلى أماكنها ولا هي تخرج . وأما تقلب الأبصار فالزرق بعد الكحل والعمى بعد البصر . وقيل : تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك ، والأبصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم ، وإلى أي ناحية يؤخذ بهم . وقيل : إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك ، وكذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين ، وذلك مثل قوله تعالى : " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " {[12010]} [ ق :22 ] فما كان يراه في الدنيا غيا يراه رشدا ، إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة . وقيل : تقلب على جمر جهنم كقوله تعالى : " يوم تقلب وجوههم في النار " {[12011]} [ الأحزاب : 66 ] ، " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم " {[12012]} [ الأنعام : 110 ] . في قول من جعل المعنى تقلبها على لهب النار . وقيل : تقلب بأن تلفحها النار مرة وتنضجها مرة . وقيل إن تقلب القلوب وجيبها{[12013]} ، وتقلب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال .