الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ} (36)

فيه تسع عشرة مسألة :

الأولى-قوله تعالى : " في بيوت أذن الله أن ترفع " الباء في " بيوت " تضم وتكسر ؛ وقد تقدم{[11972]} . واختلف في الفاء من قول " في " فقيل : هي متعلقة " بمصباح " . وقيل : ب " يسبح له " ، فعلى هذا التأويل يوقف على " عليم " . قال ابن الأنباري : سمعت أبا العباس يقول هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب ، كأنه قال وهي في بيوت . وقال الترمذي الحكيم محمد بن علي : " في بيوت " منفصل ، كأنه يقول : الله في بيوت أذن الله أن ترفع ، وبذلك جاءت الأخبار أنه ( من جلس في المسجد فإنه يجالس ربه ) . وكذا ما جاء في الخبر فيما يحكى عن التوراة ( أن المؤمن إذا مشى إلى المسجد قال الله تبارك اسمه عبدي زارني وعلي قراه ولن أرضى له قرى دون الجنة ) . قال ابن الأنباري : إن جعلت " في " متعلقة ب " يسبح " أو رافعة للرجال حسن الوقف على قوله " والله بكل شيء عليم " [ البقرة : 282 ] . وقال الرماني : هي متعلقة ب " يوقد " وعليه فلا يوقف على " عليم " . فإن قيل : فما الوجه إذا كان البيوت متعلقة ب " يوقد " في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيوت ، ولا يكون مشكاة واحدة إلا في بيت واحد . قيل : هذا من الخطاب المتلون الذي يفتح : التوحيد ويختم بالجمع ، كقوله تعالى : " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " {[11973]} [ الطلاق : 1 ] ونحوه . وقيل : رجع إلى كل واحد من البيوت . وقيل : هو كقوله تعالى : " وجعل القمر فيهن نورا " {[11974]} [ نوح :16 ] وإنما هو في واحدة منها . واختلف الناس في البيوت هنا على خمسة أقوال : الأول - أنها المساجد المخصوصة لله تعالى بالعبادة ، وأنها تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض ، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن . الثاني : هي بيوت بيت المقدس ، عن الحسن أيضا . الثالث : بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن مجاهد أيضا . الرابع : هي البيوت كلها ، قاله عكرمة . وقوله : " يسبح له فيها بالغدو والآصال " يقوي أنها المساجد . وقول خامس : إنها المساجد الأربعة التي لم يبنها إلا نبي : الكعبة وبيت أريحا ومسجد المدينة ومسجد قباء ، قاله ابن بريدة . وقد تقدم ذلك في " التوبة ]{[11975]} .

قلت : الأظهر القول الأول ، لما رواه أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحب الله عز وجل فليحبني ومن أحبني فليحب أصحابي ومن أحب أصحابي فليحب القرآن ومن أحب القرآن فليحب المساجد فإنها أفنية الله أبنيته أذن الله في رفعها وبارك فيها ميمونة ميمون أهلها محفوظة محفوظ أهلها هم في صلاتهم والله عز وجل في حوائجهم هم في مساجدهم والله من ورائهم ) .

الثانية-قوله تعالى : " أذن الله أن ترفع " " أذن " معناه أمر وقضي . وحقيقة الإذن العلم والتمكين دون حظر ، فإن اقترن بذلك أمر وإنفاذ كان أقوى . و " ترفع " قيل : معناه تبنى وتعلى ، قاله مجاهد وعكرمة . ومنه قوله تعالى : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت " {[11976]} [ البقرة :127 ] وقال صلى الله عليه وسلم : ( من بنى مسجدا من ماله بني الله له بيتا في الجنة ) . وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة تحض على بنيان المساجد . وقال الحسن البصري وغيره : معنى " ترفع " تعظم ، ويرفع شأنها ، وتطهر من الأنجاس والأقذار ، ففي الحديث ( إن المسجد لينزوي من النجاسة كما ينزوي الجلد من النار ) . وروى ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله : ( من أخرج أذى من المسجد بنى الله له بيتا في الجنة ) . وروي عن عائشة قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخذ المساجد في الدور وأن تطهر وتطيب .

الثالثة-إذا قلنا : إن المراد بنيانها فهل تزين وتنقش ؟ اختلف في ذلك ، فكرهه قوم وأباحه آخرون . فروى حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس وقتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقوم الساعة حتى تتباهى الناس في المساجد ) . أخرجه أبو داود . وفي البخاري - وقال أنس : ( يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا ) . وقال ابن عباس : لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى . وروى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول من حديث أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدَّبار عليكم ) . احتج من أباح ذلك بأن فيه تعظيم المساجد والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله : " في بيوت أذن الله أن ترفع " يعني تعظم . وروي عن عثمان أنه بنى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالساج{[11977]} وحسنه . قال أبو حنيفة : لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب . وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه نقش مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه ، وذلك في زمن ولايته قبل خلافته ، ولم ينكر عليه أحد ذلك . وذكر أن الوليد بن عبد الملك أنفق في عمارة مسجد دمشق وفي تزيينه مثل خراج الشام ثلاث مرات . وروي أن سليمان بن داود عليهما [ الصلاة و{[11978]} ]السلام بنى مسجد بيت المقدس وبالغ في تزيينه .

الرابعة-ومما تصان عنه المساجد وتنزه عنه الروائح الكريهة والأقوال السيئة وغير ذلك على ما نبينه ، وذلك من تعظيمها . وقد صح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة تبوك : ( من أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم - فلا يأتين المساجد ) . وفي حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه سلم قال : ( من أكل من هذه البقلة الثوم ) وقال مرة : ( من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ) . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته : ( ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين ولا أراهما إلا خبيثتين ، هذا البصل والثوم ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من رجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخا ) . خرجه مسلم في صحيحه . قال العلماء : وإذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أنه يتأذى به ففي القياس أن كل من تأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذَرِب اللسان سفيها عليهم ، أو كان ذا رائحة قبيحة لا تَرِيمه{[11979]} لسوء صناعته ، أو عاهة مؤذية كالجذام وشبهه . وكل ما يتأذى به الناس كان لهم إخراجه ما كانت العلة موجودة حتى تزول . وكذلك يجتنب مجتمع الناس حيث كان لصلاة أو غيرها كمجالس العلم والولائم وما أشبهها ، من أكل الثوم وما في معناه ، مما له رائحة كريهة تؤذي الناس . ولذلك جمع بين البصل والثوم والكراث ، وأخبر أن ذلك مما يتأذى به . قال أبو عمر بن عبد البر : وقد شاهدت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام رحمه الله أفتى في رجل شكاه جيرانه واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده فشُووِر فيه ؛ فأفتى بإخراجه من المسجد وإبعاده عنه ، وألا يشاهد{[11980]} معهم الصلاة إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه ، فذاكرته يوما أمره وطالبته بالدليل فيما أفتى به من ذلك وراجعته فيه القول ، فاستدل بحديث الثوم ، وقال : هو عندي أكثر أذى من أكل الثوم ، وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد .

قلت : وفي الآثار المرسلة " إن الرجل ليكذب الكذبة فيتباعد عنه الملك من نتن ريحه " . فعلى هذا يخرج من عرف منه الكذب والتقول{[11981]} بالباطل فإن ذلك يؤذي .

الخامسة-أكثر العلماء على أن المساجد كلها سواء ؛ لحديث ابن عمر . وقال بعضهم : إنما خرج النهي على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل جبريل عليه السلام ونزوله فيه ؛ ولقوله في حديث جابر : ( فلا يقربن مسجدنا ) . والأول أصح ، لأنه ذكر الصفة في الحكم وهي المسجدية ، وذكر الصفة في الحكم تعليل . وقد روى الثعلبي بإسناده عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجائب بيض قوائمها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورؤوسها من المسك وأزمتها من الزبرجد الأخضر ، وقوامها والمؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقربون وأنبياء مرسلون فينادي ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ، ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ) وفي التنزيل : " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله " {[11982]} [ التوبة : 18 ] . وهذا عام في كل مسجد . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ) إن الله تعالى يقول : " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر " ) [ التوبة : 18 ] . وقد تقدم . السادسة-وتصان{[11983]} المساجد أيضا عن البيع والشراء وجميع الاشتغال ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي دعا إلى الجمل الأحمر{[11984]} :( لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له ) . أخرجه مسلم من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى قام رجل فقال : من دعا إلى الجمل الأحمر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له ) . وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن . وكذا جاء مفسرا من حديث أنس قال : بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه مه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تزرموه دعوه{[11985]} ) . فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له : ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن ) . أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه{[11986]} عليه . خرجه مسلم . ومما يدل على هذا من الكتاب قول الحق : " ويذكر فيها اسمه " . وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن الحكم السلمي : ( إن هذه المساجد{[11987]} لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ) . أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . الحديث بطوله خرجه مسلم في صحيحه ، وحسبك وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوت رجل في المسجد فقال : ما هذا الصوت ؟ أتدري أين أنت ! وكان خلف بن أيوب جالسا في مسجده فأتاه غلامه يسأله عن شيء فقام وخرج من المسجد وأجابه ، فقيل له في ذلك ، فقال : ما تكلمت في المسجد بكلام الدنيا منذ كذا وكذا ، فكرهت أن أتكلم اليوم .

السابعة-روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد ، وعن البيع والشراء فيه ، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة . قال : وفي الباب عن بريدة وجابر وأنس حديث عبدالله بن عمر وحديث حسن . قال محمد بن إسماعيل : رأيت محمدا{[11988]} وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب . وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد ، وبه يقول أحمد وإسحاق . وروي أن عيسى ابن مريم عليهما السلام أتى على قوم يتبايعون في المسجد فجعل رداءه مِخراقا{[11989]} ، ثم جعل يسعى عليهم ضربا ويقول : يا أبناء الأفاعي ، اتخذتم مساجد الله أسواقا هذا سوق الآخرة .

قلت : وقد كره بعض أصحابنا تعليم الصبيان في المساجد ، ورأى أنه من باب البيع . وهذا إذا كان بأجرة ، فلو كان بغير أجرة لمنع أيضا من وجه آخر ، وهو أن الصبيان لا يتحرزون عن الأقذار والوسخ ، فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد ، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بتنظيفها وتطييبها فقال : ( جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وسل سيوفكم وإقامة حدودكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وأجمروها في الجمع واجعلوا على أبوابها المطاهر ) . في إسناده العلاء بن كثير الدمشقي مولى بني أمية ، وهو ضعيف عندهم ، ذكره أبو أحمد بن عدي الجرجاني الحافظ . وذكر أبو أحمد أيضا من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : صليت العصر مع عثمان أمير المؤمنين فرأى خياطا في ناحية المسجد فأمر بإخراجه ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ، إنه يكنس المسجد ويغلق الأبواب ويرش أحيانا . فقال عثمان : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( جنبوا صناعكم من مساجدكم ) . هذا حديث غير محفوظ ، في إسناده محمد بن مجيب الثقفي ، وهو ذاهب الحديث .

قلت : ما ورد في هذا المعنى وإن كان طريقه لينا فهو صحيح معنى ، يدل على صحته ما ذكرناه قبل . قال الترمذي : وقد روي عن بعض أهل العالم من التابعين رخصة في البيع والشراء في المسجد . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث رخصة في إنشاد الشعر في المسجد .

قلت : أما تناشد الأشعار فاختلف في ذلك ، فمن مانع مطلقا ، ومن مجيز مطلقا . والأولى التفصيل ، وهو أن ينظر إلى الشعر فإن كان مما يقتضي الثناء على الله عز وجل أو على رسوله صلى الله عليه وسلم أو الذب عنهما كما كان شعر حسان ، أو يتضمن الحض على الخير والوعظ والزهد في الدنيا والتقلل منها ، فهو حسن في المساجد وغيرها ، كقول القائل :

طّوّفي يا نفس كي أقصد فردا صمدا *** وذريني لست أبغي غير ربي أحدا

فهو أنسي وجليسي ودعي الناس *** فما إن تجدي من دونه ملتحدا{[11990]}

وما لم يكن كذلك لم يجز ؛ لأن الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين بالباطل ، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر ، والمساجد منزهة عن ذلك ؛ لقوله تعالى : " قي بيوت أذن الله أن ترفع " . وقد يجوز إنشاده في المسجد ؛ كقول القائل :

كفحل العَدَاب{[11991]} الفَرْدِ يضربه النَّدى *** تَعَلَّى النَّدَى في متنه وتَحَدَّرَا

وقول الآخر :

إذا سقط السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غِضابا

فهذا النوع وإن لم يكن فيه حمد ولا ثناء يجوز ؛ لأنه خال عن الفواحش والكذب . وسيأتي ذكر الأشعار الجائزة وغيرها بما فيه كفاية في " الشعراء " إن شاء الله تعالى . وقد روي الدارقطني من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : ذكر الشعراء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح ) . وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم . ذكره في السنن .

قلت : وأصحاب الشافعي يأثرون هذا الكلام عن الشافعي وأنه لم يتكلم به غيره ، وكأنهم لم يقفوا على الأحاديث في ذلك . والله أعلم .

الثامنة-وأما رفع الصوت فإن كان مما يقتضي مصلحة للرافع صوته دعي عليه بنقيض قصده ؛ لحديث بريرة المتقدم ، وحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا ) . وإلى هذا ذهب مالك وجماعة ، حتى كرهوا رفع الصوت في المسجد في العلم وغيره . وأجاز أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن مسلمة من أصحابنا رفع الصوت في الخصومة والعلم ، قالوا : لأنهم لا بد لهم من ذلك . وهذا مخالف لظاهر الحديث ، وقولهم : لا بد لهم من ذلك ، ممنوع ، بل لهم بد من ذلك لوجهين : أحدهما : بملازمة الوقار والحرمة ، وبإحضار ذلك بالبال والتحرز من نقيضه . والثاني : أنه إذا لم يتمكن من ذلك فليتخذ لذلك موضعا يخصه ، كما فعل عمر حيث بنى رحبة تسمى البطيحاء ، وقال : من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا - يعني في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فليخرج إلى هذه الرحبة . وهذا يدل على أن عمر كان يكره إنشاد الشعر في المسجد ؛ ولذلك بنى البطيحاء خارجه .

التاسعة-وأما النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من رجل أو امرأة من الغرباء ومن لا بيت له فجائز ؛ لأن في البخاري - وقال أبو قلابة عن أنس : قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا في الصفة{[11992]} ، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر : كان أصحاب الصفة فقراء . وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم . لفظ البخاري : وترجم [ باب نوم المرأة في المسجد ] وأدخل حديث عائشة في قصة السوداء{[11993]} التي اتهمها أهلها بالوشاح ، قالت عائشة : وكان لها خباء في المسجد أو حِفْش{[11994]} . . . ) الحديث . ويقال : كان مبيت عطاء بن أبي رباح في المسجد أربعين سنة .

العاشرة-روى مسلم عن أحمد أو عن أبي أسيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك ) . خرجه أبو داود كذلك ، إلا أنه زاد بعد قوله : ( إذا دخل أحدكم المسجد : فليسلم وليصل{[11995]} على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل اللهم افتح لي . . . ) الحديث . وروى ابن ماجه عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال : ( باسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال باسم الله والصلاة على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وأفتح لي أبواب رحمتك وفضلك " . وروى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم ) . وخرج أبو داود عن حيوة بن شريح قال : لقيت عقبة بن مسلم فقلت له : بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال : ( أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم ) قال نعم . قال : فإذا قال ذلك قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم .

الحادية عشرة-روى مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله صلى عليه وسلم قال : ( إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ) وعنه قال : دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس ، قال فجلست فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس ) ؟ فقلت : يا رسول الله ، رأيتك جالسا والناس جلوس . قال : ( فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين ) . قال العلماء : فجعل صلى الله عليه وسلم للمسجد مزية يتميز بها عن سائر البيوت ، وهو ألا يجلس حتى يركع . وعامة العلماء{[11996]} على أن الأمر بالركوع على الندب والترغيب . وقد ذهب داود وأصحابه إلى أن ذلك على الوجوب ، وهذا باطل ، ولو كان الأمر على ما قالوه لحرم دخول المسجد على المحدث الحدث الأصغر حتى يتوضأ ، ولا قائل به فيما أعلم ، والله أعلم . فإن قيل : فقد روى إبراهيم بن يزيد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين ، وإذا دخل أحدكم بيته فلا يجلس حتى يركع ركعتين فإن الله جاعل من ركعتيه في بيته خيرا ) ، وهذا يقتضي التسوية بين المسجد والبيت . قيل[ له ]{[11997]} : هذه الزيادة في الركوع عند دخول البيت لا أصل لها ، قال ذلك البخاري . وإنما يصح في هذا حديث أبي قتادة الذي تقدم لمسلم ، وإبراهيم هذا لا أعلم روى عنه إلا سعد بن عبد الحميد ، ولا أعلم له إلا هذا الحديث الواحد ، قاله أبو محمد عبد الحق .

الثانية عشرة-روى سعيد بن زبان حدثني أبي عن أبيه عن جده عن أبي هند رضي الله عنه قال : حمل تميم - يعني الداري - من الشام إلى المدينة قناديل وزيتا ومُقُطا ، فلما انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة فأمر غلاما يقال له أبو البزاد فقام فنَشَط{[11998]}المُقُط وعلق القناديل وصب فيها الماء والزيت وجعل فيها الفتيل ، فلما غربت الشمس أمر أبا البزاد فأسرجها ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا هو بها تزهر ، فقال : ( من فعل هذا ) ؟ قالوا : تميم الداري يا رسول الله ؛ فقال : ( نورت الإسلام نور الله عليك في الدنيا والآخرة أما إنه لو كانت لي ابنة لزوجتكها ) . قال نوفل بن الحارث : لي ابنة يا رسول الله تسمى المغيرة بنت نوفل فافعل بها ما أردت ، فأنكحه إياها . زبان ( بفتح الزاي والباء وتشديدا بنقطة واحدة من تحتها ) ينفرد بالتسمي به سعيد وحده ، فهو أبو عثمان سعيد بن زبان بن قائد بن زبان بن أبي هند ، وأبو هند هذا مولى بني{[11999]} بياضة حجام النبي صلى الله عليه وسلم . والمُقُط : جمع المقاط ، وهو الحبل ، فكأنه مقلوب القماط . والله أعلم . وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال : أول من أسرج في المساجد تميم الداري . وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يصلون عليه ويستغفرون له ما دام ذلك الضوء فيه وإن كنس غبار المسجد نقد الحور العين ) . قال العلماء : ويستحب أن ينور البيت الذي يقرأ فيه القرآن بتعليق القناديل ونصب الشموع فيه ، ويزاد في شهر رمضان في أنوار المساجد .


[11972]:راجع ج 2 ص 346.
[11973]:راجع ج 18 ص 147 فما بعد و ص 304.
[11974]:راجع ج 18 ص 147 فما بعد و ص 304.
[11975]:راجع ج 8 ص 260.
[11976]:راجع ج 2 ص 120.
[11977]:الساج: شجر يعظم جدا، لا ينبت إلا ببلاد الهند، وخشبه أسود رزين، لا تكاد الأرض تبليه.
[11978]:من ك.
[11979]:أي لا تفارقه.
[11980]:في ك: يشهد.
[11981]:في ك: والقول بالباطل.
[11982]:راجع ج 8 ص 90.
[11983]:في ك: ويصان المسجد.
[11984]:أي من وجد ضالتي، وهو الجمل الأحمر فدعاني إليه.
[11985]:أي لا تقطعوا عليه بوله؛ يقال: زرم البول(بالكسر) انقطع، وأزرمه غيره.
[11986]:الشنّ: الصب المنقطع؛ أي: رشه عليه رشا متفرقا.
[11987]:الذي في صحيح مسلم: "عن هذه الصلاة...إلخ".
[11988]:الذي في الترمذي: "أحمد".
[11989]:المخراق: ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا.
[11990]:من مجزوء الرمل وإنشاده: طوفي يا نفس كي أقـ***صد فردا صمدا.
[11991]:العداب (بالفتح والدال المهملة): ما استرق من الرمل. وقيل: جانبه الذي يرق ويلي الجدد من الأرض. الواحد والجمع سواء.
[11992]:موضع مظلل في أخريات المسجد النبوي تأوي إليه المساكين.
[11993]:السوداء: سوداء كانت لحي من العرب، فاتهموها بسرقة وشاح وطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها. قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحُدياة فألقته بينهم...فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، فكان لها خباء في المسجد...راجع صحيح البخاري (باب المساجد).
[11994]:الخباء: الخيمة من صوف أو وبر. والحفش: (بكسر الحاء وسكون الفاء): بيت صغير.
[11995]:الذي في سنن أبي داود "فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم"..
[11996]:في ك: الفقهاء.
[11997]:من ب و ك.
[11998]:نشط الجبل: ربطه.
[11999]:كذا في ب و ك. وهو الصواب.