الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِي كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ يَعۡدُونَ فِي ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِيهِمۡ حِيتَانُهُمۡ يَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعٗا وَيَوۡمَ لَا يَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِيهِمۡۚ كَذَٰلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (163)

قوله تعالى : " واسألهم عن القرية " أي عن أهل القرية ، فعبر عنهم بها لما كانت مستقرا لهم أو سبب اجتماعهم . نظيره " واسأل القرية التي كنا فيها{[7429]} " [ يوسف : 82 ] . وقوله عليه السلام : ( اهتز العرش لموت سعد بن معاذ ) يعني أهل العرش من الملائكة ، فرحا واستبشارا{[7430]} بقدومه ، رضي الله عنه . أي واسأل اليهود الذين هم جيرانك عن أخبار أسلافهم وما مسخ الله منهم قردة وخنازير . هذا سؤال تقرير وتوبيخ . وكان ذلك علامة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم . وكانوا يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، لأنا من سبط خليله إبراهيم ، ومن سبط إسرائيل وهم بكر{[7431]} الله ، ومن سبط موسى كليم الله ، ومن سبط ولده عزير ، فنحن من أولادهم . فقال الله عز وجل لنبيه : سلهم يا محمد عن القرية ، أما عذبتهم بذنوبهم ؛ وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة . واختلف في تعيين هذه القرية ، فقال ابن عباس وعكرمة والسدي : هي أيلة . وعن ابن عباس أيضا أنها مدين بين أيلة والطور . الزهري : طبرية . قتادة وزيد بن أسلم : هي ساحل من سواحل الشأم ، بين مدين وعينون ، يقال لها : مقناة . وكان اليهود يكتمون هذه القصة لما فيها من السبة عليهم . " التي كانت حاضرة البحر " أي كانت بقرب{[7432]} البحر ، تقول : كنت بحضرة الدار أي بقربها . " إذ يعدون في السبت " أي يصيدون الحيتان ، وقد نهوا عنه ، يقال : سبت اليهود ، تركوا العمل في سبتهم . وسبت الرجل للمفعول سباتا أخذه ذلك ، مثل الخرس . وأسبت سكن فلم يتحرك . والقوم صاروا في السبت . واليهود دخلوا في السبت ، وهو اليوم المعروف . وهو من الراحة والقطع . ويجمع أسبت وسبوت وأسبات . وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من احتجم يوم السبت فأصابه برص فلا يلومن إلا نفسه ) . قال علماؤنا : وذلك لأن الدم يجمد يوم السبت ، فإذا مددته لتستخرجه لم يجر وعاد برصا . وقراءة الجماعة " يعدون " . وقرأ أبو نهيك " يعدون " بضم الياء وكسر العين وشد الدال . الأولى من الاعتداء والثانية من الإعداد ؛ أي يهيئون الآلة لأخذها . وقرأ ابن السميقع " في الأسبات " على جمع السبت . " إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم " وقرئ " أسباتهم " . " شرعا " أي شوارع ظاهرة على الماء كثيرة . وقال الليث : حيتان شرع رافعة رؤوسها . وقيل : معناه أن حيتان البحر كانت ترد يوم السبت عنقا{[7433]} من البحر فتزاحم أيلة . ألهمها الله تعالى أنها لا تصاد يوم السبت ؛ لنهيه تعالى اليهود عن صيدها . وقيل : إنها كانت تشرع على أبوابهم ، كالكباش البيض رافعة رؤوسها . حكاه بعض المتأخرين ، فتعدوا فأخذوها في السبت . قاله الحسن . وقيل : يوم الأحد ، وهو الأصح على ما يأتي بيانه . " ويوم لا يسبتون " أي لا يفعلون السبت . يقال : سبت يسبت إذا عظم السبت . وقرأ الحسن " يسبتون " بضم الياء ، أي يدخلون في السبت . كما يقال : أجمعنا وأظهرنا وأشهرنا ، أي دخلنا في الجمعة والظهر والشهر . " لا تأتيهم " أي حيتانهم . " كذلك نبلوهم " أي نشدد عليهم في العبادة ونختبرهم . والكاف في موضع نصب . " بما كانوا يفسقون " أي بفسقهم . وسئل الحسين بن الفضل : هل تجد في كتاب الله الحلال لا يأتيك إلا قوتا ، والحرام يأتيك جزفا جزفا ؟ قال : نعم ، في قصة داود وأيلة " إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " . وروي في قصص هذه الآية أنها كانت في زمن داود عليه السلام ، وأن إبليس أوحى إليهم فقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ، فاتخذوا الحياض ، فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة فتبقى فيها ، فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء ، فيأخذونها يوم الأحد . وروى أشهب عن مالك قال : زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل خيطا ويضع فيه وهقة{[7434]} ، وألقاها في ذنب الحوت ، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد ، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلى حتى كثر صيد الحوت ، ومشي به في الأسواق ، وأعلن الفسقة بصيده ، فقامت فرقة من بني إسرائيل ونهت ، وجاهرت بالنهي واعتزلت . وقيل{[7435]} : إن الناهين قالوا : لا نساكنكم ، فقسموا القرية بجدار . فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن للناس لشأنا ، فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة ، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم ، فعرفت القردة أنسابها من الإنس ، ولم تعرف الإنس أنسابهم من القردة ، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي ؛ فيقول : ألم ننهكم ! فتقول برأسها نعم . قال قتادة : صار الشبان قردة والشيوخ خنازير ، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم . فعلى هذا القول إن بني إسرائيل لم تفترق إلا فرقتين .


[7429]:راجع ج 9 ص 245.
[7430]:في ج و ك و ع و هـ: استبشارا به أي بقدومه.
[7431]:زعمت اليهود أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد.
[7432]:حاضرة البحر فيه معنى التعظيم: قال أبو حيان في البحر: يحتمل أن يريد معنى الحاضرة على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في قرى البحر الخ.
[7433]:أي طوائف: يقال: جاء القوم عنقا عنقا، أي قطيعا قطيعا.
[7434]:الوهق: (بالتحريك وتسكن الهاء) : الحبل: في طرفيه أنشوطة يطرح في عنق الدابة والإنسان حتى تؤخذ والأنشوطة: عقدة يسهل انحلالها إذا أخذ بأحد طرفيها انفتحت كعقدة التكة.. وقد وردت هذه الكلمة محرفة في الجزء الأول ص 440.
[7435]:في ب و ج و ع و ى: ويقال