الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَأَنَّهُۥ تَعَٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَٰحِبَةٗ وَلَا وَلَدٗا} (3)

قوله تعالى : " وأنه تعالى جد ربنا " كان علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي ينصبون " أن " في جميع السورة في اثني عشر موضعا ، وهو{[15440]} : " أنه تعالى جد ربنا " ، " وأنه كان يقول " ، " وأنا ظننا " ، " وأنه كان رجال " ، " وأنهم ظنوا " ، " وأنا لمسنا السماء " ، " وأنا كنا نقعد " ، " وأنا لا ندري " ، " وأنا منا الصالحون " ، " وأنا ظننا أن نعجز الله في الأرض " ، " وأنا لما سمعنا الهدى " ، " وأنا منا المسلمون " عطفا على قوله : " أنه استمع نفر " ، " وأنه استمع " لا يجوز فيه إلا الفتح ؛ لأنها في موضع اسم فاعل " أوحي " فما بعده معطوف عليه . وقيل : هو محمول على الهاء في " آمنا به " ، أي و " بأنه تعالى جد ربنا " وجاز ذلك وهو مضمر مجرور لكثرة حرف الجار مع " أن " . وقيل : المعنى أي وصدقنا أنه جد ربنا . وقرأ الباقون كلها بالكسر وهو الصواب ، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم عطفا على قوله : " فقالوا إنا سمعنا " لأنه كله{[15441]} من كلام الجن . وأما أبو جعفر وشيبة فإنهما فتحا ثلاثة مواضع ، وهي قوله تعالى : " وأنه تعالى جد ربا " ، " وأنه كان يقول " ، " وأنه كان رجال " ، قالا : لأنه من الوحي ، وكسرا ما بقي ؛ لأنه من كلام الجن . وأما قوله تعالى : " وأنه لما قام عبد الله " [ الجن : 19 ] . فكلهم فتحوا إلا نافعا وشيبة وزر بن حبيش وأبا بكر والمفضل عن عاصم ، فإنهم كسروا لا غير . ولا خلاف في فتح همزة " أنه استمع نفر من الجن " ، " وأن لو استقاموا " " وأن المساجد لله " ، " وأن قد أبلغوا " . وكذلك لا خلاف في كسر ما بعد القول ؛ نحو قوله تعالى : " فقالوا إنا سمعنا " و " قل إنما أدعوا ربي " [ الجن : 20 ] و " قل إن أدري " [ الجن : 25 ] . و " قل إني لا أملك " [ الجن : 21 ] . وكذلك لا خلاف في كسر ما كان بعد فاء الجزاء ؛ نحو قوله تعالى : " فإن له نار جهنم " [ الجن : 23 ] و " فإنه يسلك من بين يديه " [ الجن : 27 ] . لأنه موضع ابتداء .

قوله تعالى : " وأنه تعالى جد ربنا " {[15442]} الجد في اللغة : العظمة والجلال ، ومنه قول أنس : كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا ؛ أي عظم وجل . فمعنى : " جد ربنا " أي عظمته وجلاله ، قال عكرمة ومجاهد وقتادة . وعن مجاهد أيضا : ذكره . وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا : غناه . ومنه قيل للحظ جد ، ورجل مجدود أي محظوظ ، وفي الحديث : [ ولا ينفع ذا الجد منك الجد ] قال أبو عبيدة والخليل : أي ذا الغنى ، منك الغنى ، إنما تنفعه الطاعة . وقال ابن عباس : قدرته . الضحاك : فعله . وقال القرظي والضحاك أيضا : آلاؤه ونعمه على خلقه . وقال أبو عبيدة والأخفش : ملكه وسلطانه . وقال السدي : أمره . وقال سعيد بن جبير : " وأنه تعالى جد ربنا " أي تعالى ربنا . وقيل : إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أب الأب ، ويكون هذا من قول الجن . وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع : ليس لله تعالى جد ، وإنما قالته الجن للجهالة ، فلم يؤاخذوا به . وقال القشيري : ويجوز إطلاق لفظ الجد في حق الله تعالى ؛ إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن ، غير أنه لفظ موهم ، فتجنبه أولى . وقراءة عكرمة " جد " بكسر الجيم : على ضد الهزل . وكذلك قرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع . ويروى عن ابن السميقع أيضا وأبي الأشهب " جدا ربنا " ، وهو الجدوى والمنفعة . وقرأ عكرمة أيضا " جد " بالتنوين " ربنا " بالرفع على أنه مرفوع ، ب " تعالى " ، و " جدا " منصوب على التمييز . وعن عكرمة أيضا " جد " بالتنوين والرفع " ربنا " بالرفع على تقدير : تعالى جد جد ربنا ، فجد الثاني بدل من الأول وحذف وأقيم المضاف إليه مقامه . ومعنى الآية : وأنه تعالى جلال ربنا أن يتخذ صاحبة وولدا للاستئناس بهما والحاجة إليهما ، والرب يتعالى عن الأنداد والنظراء .


[15440]:كلمة (وهو) موجودة في الأصول ح، وط، وص وليست موجودة في الأصل أ. والضمير راجع إلى النصب.
[15441]:كلمة "كله" ساقطة من ح.
[15442]:كذا في أ، ح ، ط. وق الطبعة الأولى: "جد ربنا".