وقد أطلق النص الصفة أولا : ( الوسواس الخناس ) . . وحدد عمله : ( الذي يوسوس في صدور الناس ) . ثم حدد ماهيته : ( من الجنة والناس ) . . وهذا الترتيب يثير في الحس اليقظة والتلفت والانتباه لتبين حقيقة الوسواس الخناس ، بعد إطلاق صفته في أول الكلام ؛ ولإدراك طريقة فعله التي يتحقق بها شره ، تأهبا لدفعه أو مراقبته !
{ مِن شَرّ الوسواس } وبحث فيه بعد الاغماض عما فيه من القصور في توفية المقام حقه بأن شر الموسوس كما يلحق النفوس يلحق الأبدان أيضاً وفيه شيء سنشير إن شاء الله تعالى إليه واختار هذا الباحث في ذلك أنه لما كانت الاستعاذة فيما سبق من شر كل شيء أضيف الرب إلى كل شيء أي بناء على عموم الفلق ولما كانت هنا من شر الوسواس لم يضف إلى كل شيء وكان النظر إلى السورة السابقة يقتضي الإضافة إلى الوسواس لكنه لم يضف إليه حطاً لدرجته عن إضافة الرب إليه بل إلى المستعيذ وكان في هذا الحط رمزاً إلى الوعد بالإعاذة وهو الذي يجعل لما ذكر حظاً في أداء حق المقام وربما يقال إن في إضافة الرب إلى الناس في آخر سورة من كتابه تذكير الأول أمر عرفوه في عالم الذر وأخذ عليهم العهد بالإقرار به فيما بعد كما أشار إليه قوله تعالى : { وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172 ] الآية فيكون في ذلك تحريض على الاستعاذة من شر الوسواس لئلا يتدنس أمر ذلك العهد وفيه أيضاً رمز إلى الوعد الكريم بالإعاذة وذكر القاضي أن في النظم الجليل إشعاراً بمراتب الناظر المتوجه لمعرفة خالقه فإنه يعلم أولاً بما يرى عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له رباً ثم يتغلغل في النظر حتى يتحقق أنه سبحانه غني عن الكل وذات كل شيء له ومصارف أمره منه فهو الملك الحق ثم يستدل به على أنه المستحق للعبادة لا غير ويندرج في وجوه الاستعاذة المعتادة تنزيلاً لاختلاف الفات منزلة اختلاف الذات فإن عادة من ألف به هم أن يرفع أمره لسيده ومربيه كوالديه فإن لم يقدر على رفعه رفعه لملكه وسلطاه فإن لم يزل ظلامته شكاه إلى ملك الملوك ومن إليه المتشكي والمفزع وفي ذلك إشارة إلى عظم الآفة المستعاذ منها ولابن سينا ههنا كلام تتحرج منه الأقلام كما لا يخفي على من ألم به وكان له بالشريعة المطهرة أدنى إلمام وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة وقيل لا تكرار فأنه يجوز أن يراد بالعام بعض أفراده فالناس الأول بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية والثاني الكهول والشبان لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم والثالث الشيوخ المتعبدون المتوجهون لله تعالى وهو على ما فيه يبعده حديث إعادة الشيء معرفة وإن كان أغلبياً والوسواس عند الزمخشري اسم مصدر بمعنى الوسوسة والمصدر بالكسر وهو صوت الحلي والهمس الخفي ثم استعمل في الخطرة الردية وأريد به ههنا الشيطان سمي بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة أو الكلام على حذف مضاف أي ذي الوسواس وقال بعض أئمة العربية أن فعلل ضربان صحيح كدحرج وثنائي مكرر كصلصل ولهما مصدران مطردان فعللة وفعلال بالكسر وهو أقيس والفتح شاذ لكنه كثر في المكرر كتمتام وفأفاء ويكون للمبالغة كفعال في الثلاثي كما قالوا وطواط للضعيف وثرثار للمكثر والحق أنه صفة فليحمل عليه ما في الآية الكريمة من غير حاجة إلى التجوز أو حذف المضاف وقد تقدم في سورة الزلزال ما يتعلق بها المبحث فتذكر فما في العهد من قدم والظاهر أن المراد الاستعاذة من شر الوسواس من حيث هو وسواس ومآله إلى الاستعاذة من شر وسوسته وقيل المراد الاستعاذة من جميع شروره ولذا قيل من شر الوسواس ولم يقل من شر وسوسة الوسواس قيل وعليه يكون القول بأن شره يلحق البدن كما يلحق النفس أظهر منه على الظاهر وعد من شره أنه كما في «صحيح البخاري » يعقد على قافية رأس العبد إذا هو نام ثلاث عقد مراده بذلك منعه من اليقظة وفي عد هذا من الشر البدني خفاء وبعضهم عد منه التخبط إذا لحق عند أهل السنة أنه قد يكون من مسه كما تقدم في موضعه وقوله تعالى : { الخناس } صيغة مبالغة أو نسبة أي الذي عادته أن يخنس ويتأخر إذا ذكر الإنسان ربه عز وجل أخرج الضياء في «المختارة » والحاكم وصححه وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس قال ما من مولود يولد إلا على قلبه الوسواس فإذا عقل فذكر الله تعالى خنس فإذا غفل وسوس وله على ما روى عن قتادة خرطوم كخرطوم الكلب ويقال إن رأسه كرأس الحية وأخرج ابن شاهين عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن للوسواس خطماً كخطم الطائر فإذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار في أذن القلب يوسوس فإن ذكر الله تعالى نكص وخنس فلذلك سمي الوسواس الخناس . "
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : { مِنْ شَرّ الوَسْوَاسِ } يعني : من شرّ الشيطان الخَنّاسِ الذي يخنِس مرّة ويوسوس أخرى ، وإنما يخنِس فيما ذُكر عند ذكر العبد ربه ... عن ابن عباس ، قال : ما من مولود إلا على قلبه الوَسواس ، فإذا عقل فذكر الله خَنَس ، وإذا غَفَل وسوس ، قال : فذلك قوله : { الْوَسْوَاسِ الخَنّاسِ }...
ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول في ذلك { مِنْ شَرّ الْوَسْوَاسِ } الذي يوسوس بالدعاء إلى طاعته في صدور الناس ، حتى يُستجاب له إلى ما دعا إليه من طاعته ، فإذا استجيب له إلى ذلك خَنَس...
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ به من شرّ شيطان يوسوس مرّة ويخنس أخرى ، ولم يخصّ وسوسته على نوع من أنواعها ، ولا خنوسه على وجه دون وجه ، وقد يوسوس الدعاء إلى معصية الله ، فإذا أطيع فيها خَنَس ، وقد يوسوس بالنّهْي عن طاعة الله ، فإذا ذكر العبدُ أمر ربه ، فأطاعه فيه ، وعصى الشيطان خنس ، فهو في كل حالتيه وَسْواس خَنّاس ، وهذه الصفة صفته .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فسمى الذي يوسوس بأنه وسواس وخناس . وقيل في تأويله من ( وجوه : أحدها ) : أنه يوسوس لذي الغفلة ، ويخنس عند ذكر الله تعالى ، أي يخرج ، ويذهب . ( والثاني : أنه يخنس ، لا يرى ، ولا يظهر ، كقوله تعالى : { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } ( الأعراف : 27 )...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ الوسواس } اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة . وأمّا المصدر فوسواس بالكسر كزلزال . والمراد به الشيطان ، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه ؛ لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه .... و { الخناس } الذي عادته أن يخنس ، منسوب إلى الخنوس ، وهو التأخر ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ الوسواس } اسم من أسماء الشيطان ، وهو أيضاً ما توسوس به شهوات النفس وتسوله ، وذلك هو الهوى الذي نهي المرء عن اتباعه ، وأمر بمعصيته ، والغضب الذي وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرحه وتركه ....وقوله : { الخناس } معناه : على عقبه المستتر أحياناً ، وذلك في الشيطان متمكن إذا ذكر العبد وتعوذ وتذكر فأبصر كما قال تعالى : { إن الذين إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] ...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
من شر الوسواس الخناس ، وهو الشيطان الموكل بالإنسان ، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يُزَين له الفواحش ، ولا يألوه جهدًا في الخبال . والمعصوم من عَصَم الله ، وقد ثبت في الصحيح أنه : " ما منكم من أحد إلا قد وُكِل به قرينه " . قالوا : وأنت يا رسول الله ؟ قال : " نعم ، إلا أن الله أعانني عليه ، فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير " ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ من شر الوسواس } هو اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة ، والمراد الموسوس ، سمي بفعله مبالغة ؛ لأنه صفته التي هو غاية الضراوة عليها كما بولغ في العادل بتسميته بالعدل ، والوسوسة الكلام الخفي : إلقاء المعاني إلى القلب في خفاء وتكرير ....من ذلك شرور لازمة ومتعدية أضرها الكبر والإعجاب اللذان أهلكا الشيطان ، فيوقع الإنسان بها فيما أوقع نفسه فيه ، وينشأ من الكبر الحقد والحسد ، يترشح منه بطر الحق ، وهو عدم قبوله ، ومنه الكفر والفسوق والعصيان ....
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
وصف مبالغة في الخانس من الخنوس ، وهو التأخر بعد التقدم ، ومن ملابسات هذا المعنى ومكملاته في المحسوس : أنه يذهب ويجيء ويظهر ويختفي إغراقا في الكيد ، وتقصيا في التطور ، حتى يبلغ مراده . فالله تعالى يرشدنا بوصفه بهذه الصفة إلى أن له في عمله كرا وفرا ، وهجوما وانتهازا . واستطرادا على التصوير الذي صوره إبليس في ما حكى الله عنه : { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } . يرشدنا بذلك لنعد لكل حالة من حالاته عدتها ، ولنضيق عليه المسالك التي يسلكها . كما أن وصفه بهذه الصفة يشعر بأنه ضعيف الكيد ؛ لأن الخنوس ليس من صفات الشجاع المقدام ، وإنما هو كالذباب : تذبه بذكر الله من ناحية فيأتيك من ناحية ، ثم دواليك حتى تمل أو يمل . الخناس ضعيف : وأما التهويل في وصفه بما يأتي بعد ، فهو مبالغة في التحذير منه ؛ لأن وصفه بالضعف مظنة لاحتقاره والتساهل في أمره .
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد أطلق النص الصفة أولا : ( الوسواس الخناس ) . . وحدد عمله : ( الذي يوسوس في صدور الناس ) . ثم حدد ماهيته : ( من الجنة والناس ) . . وهذا الترتيب يثير في الحس اليقظة والتلفت والانتباه لتبين حقيقة الوسواس الخناس ، بعد إطلاق صفته في أول الكلام ؛ ولإدراك طريقة فعله التي يتحقق بها شره ، تأهبا لدفعه أو مراقبته !
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و{ الوسواس } : المتكلم بالوسوسة ، وهي الكلام الخفيّ ...
فالوسواس اسم فاعل ويطلق الوسواس بفتح الواو مجازاً على ما يخطر بنفس المرء من الخواطر التي يتوهمها مثل كلام يكلم به نفسه ...
والتعريف في { الوسواس } تعريف الجنس وإطلاق { الوسواس } على معنييه المجازي والحقيقي يشمل الشياطين التي تلقي في أنفُس الناس الخواطر الشريرة ، قال تعالى : { فوسوس إليه الشيطان } [ طه : 120 ] ، ويشمل الوسواسُ كل من يتكلم كلاماً خفياً من الناس وهم أصحاب المكائد والمؤامرات المقصود منها إلحاق الأذى من اغتيال نفوس أو سرقة أموال أو إغراءٍ بالضلال والإِعراض عن الهدى ، لأن شأن مذاكرة هؤلاء بعضهم مع بعض أن تكون سِراً لئلا يطلع عليها من يريدون الإِيقاعَ به ، وهم الذين يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم الدوائر ويغرون الناس بأذِيَّتِهِ .
و { الخناس } : الشديد الخنْس والكثيرُه . والمراد أنه صار عادة له . والخنس والخنوس : الاختفاء . والشيطان يلقب ب { الخناس } لأنه يتصل بعقل الإِنسان وعزمه من غير شعور منه فكأنَّه خنس فيه ، وأهل المكر والكيد والتختل خنّاسون لأنهم يتحينون غفلات الناس ويتسترون بأنواع الحيل لكيلا يشعر الناس بهم .
فالتعريف في { الخناس } على وزان تعريف موصوفه ، ولأن خواطر الشر يهم بها صاحبها فيطرق ويتردد ويخاف تبعاتها وتزجره النفس اللّوامة ، أو يزَعه وازع الدين أو الحياء أو خوف العقاب عند الله أو عند الناس ثم تعاوده حتى يطمئن لها ويرتاض بها فيصمم على فعلها فيقترفها ، فكأنَّ الشيطان يبدو له ثم يختفي ، ثم يبدو ثم يختفي حتى يتمكن من تدليته بغرور .