في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَا وَهُم مِّن فَزَعٖ يَوۡمَئِذٍ ءَامِنُونَ} (89)

59

في هذا اليوم المفزع الرهيب يكون الأمن والطمأنينة من الفزع جزاء الذين أحسنوا في الحياة الدنيا ، فوق ما ينالهم من ثواب هو أجزل من حسناتهم وأوفر :

( من جاء بالحسنة فله خير منها . وهم من فزع يومئذ آمنون ) .

والأمن من هذا الفزع هو وحده جزاء . وما بعده فضل من الله ومنة . ولقد خافوا الله في الدنيا فلم يجمع عليهم خوف الدنيا وفزع الآخرة . بل أمنهم يوم يفزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَا وَهُم مِّن فَزَعٖ يَوۡمَئِذٍ ءَامِنُونَ} (89)

هذه الجملة بيان ناشىء عن قوله { ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله } [ النمل : 87 ] لأن الفزع مقتضٍ الحشر والحضور للحساب . و ( من ) في كلتا الجملتين شرطية .

والمجيء مستعمل في حقيقته . والباء في { بالحسنة } و { بالسيئة } للمصاحبة المجازية ، ومعناها : أنه ذو الحسنة أو ذو السيئة . وليس هذا كقوله { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } في آخر الأنعام ( 160 ) . فالمعنى هنا : من يجيء يومئذ وهو من فاعلي الحسنة ومن جاء وهو من أهل السيئة ، فالمجيء ناظر إلى قوله { وكل أتوه داخرين } [ النمل : 87 ] والحسنة والسيئة هنا للجنس وهو يحمل على أكمل أفراده في المقام الخطابي ، أي من تمحضت حالته للحسنات أو كانت غالب أحواله كما يقتضيه قوله { وهم من فزع يومئذ ءامنون } ، وكذلك الذي كانت حالته متمحضة للسيئات أو غالبة عليه ، كما اقتضاه قوله { فكبت وجوههم في النار } .

و { خير منها } اسم تفضيل اتصلت به ( من ) التفضيلية ، أي فله جزاء خير من حسنة واحدة لقوله تعالى في الآية الأخرى { فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] أو خير منها شرفاً لأن الحسنة من فعل العبد والجزاء عليها من عطاء الله .

وقوله { وهم من فزع يومئذ ءامنون } تبيين قوله آنفاً { إلا من شاء الله } [ النمل : 87 ] . وهؤلاء هم الذين كانوا أهل الحسنات ، أي تمحضوا لها أو غلبت على سيئاتهم غلبة عظيمة بحيث كانت سيئاتهم من النوع المغفور بالحسنات أو المدحوض بالتوبة ورد المظالم . وكذلك قوله { ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار } ، أي غلبت سيئاتهم وغطت على حسناتهم أو تمحضوا للسيئات بأن كانوا غير مؤمنين أو كانوا من المؤمنين أهل الجرائم والشقاء . وبين أهل هاتين الحالتين أصناف كثيرة في درجات الثواب ودركات العقاب . وجماع أمرها أن الحسنة لها أثرها يومئذ عاجلاً أو بالآخارة ، وأن السيئة لها أثرها السيء بمقدارها ومقدار ما معها من أمثالها وما يكافئها من الحسنات أضدادها { فلا تظلم نفس شيئاً } [ الأنبياء : 47 ] .

وقرأ الجمهور { من فزع يومئذ } بإضافة { فزع } إلى ( يوم ) من { يومئذ } وإضافة ( يوم ) إلى { إذ } ففتحة ( يوم ) فتحة بناء ، لأنه اسم زمان أضيف إلى اسم غير متمكن ف { فزع } معرف بالإضافة إلى ( يوم ) و ( يوم ) معرف بالإضافة إلى ( إذ ) و ( إذ ) مضافة إلى جملتها المعوض عنها تنوين العوض . والتقدير : من فزع يوم إذ يأتون ربهم .

وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين { فزع } ، و { يومئذ } منصوباً على المفعول فيه فيه متعلقاً ب { آمنون } . والمعنى واحد على القراءتين إذ المراد الفزع المذكور في قوله

{ ففزع من في السماوات ومن في الأرض } [ النمل : 87 ] فلما كان معيناً استوى تعريفه وتنكيره . فاتحدت القراءتان معنى لأن إضافة المصدر وتنكيره سواء في عدم إفادة العموم فتعين أنه فزع واحد .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَا وَهُم مِّن فَزَعٖ يَوۡمَئِذٍ ءَامِنُونَ} (89)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"مَنْ جَاءَ" الله بتوحيده والإيمان به، وقول لا إله إلا الله موقنا به قلبه، "فَلَهُ "من هذه الحسنة عند الله "خَيرٌ" يوم القيامة، وذلك الخير أن يثيبه الله "مِنْهَا" الجنة، ويؤمّنه "مِنْ فَزَعِ" الصيحة الكبرى وهي النفخ في الصور. "وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ" يقول: ومن جاء بالشرك به يوم يلقاه، وجحود وحدانيته "فَكُبّتْ وُجُوهُهُمْ" في نار جهنم... حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثني الفضل بن دكين، قال: حدثنا يحيى بن أيوب البجلي، قال: سمعت أبا زرعة، قال: قال أبو هُريرة، قال يحيى: أحسبه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ قال: وَهِيَ لا إلَهَ إلاّ اللّهُ وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ فَكُبّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ قال: وهِيَ الشّرْكُ»...

عن عكرمة، قوله: "مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ" قال: شهادة أن لا إله إلا الله "وَمَنْ جاءَ بالسّيّئَةِ" قال: السيئة: الشرك. قال الحكم: قال عكرِمة: كل شيء في القرآن السيئة فهو الشرك... عن ابن عباس "فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها": فمنها وصل إليه الخير، يعني ابن عباس بذلك: من الحسنة وصل إلى الذي جاء بها الخير...

عن قَتادة، قوله: "فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها" يقول: له منها حظّ...

عن عكرمة، قوله: "مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها" قال: ليس شيء خيرا من لا إله إلا الله، ولكن له منها خير...

قال ابن زيد، في قوله: "مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلهُ خَيْرٌ مِنْها" قال: أعطاه الله بالواحدة عشرا، فهذا خير منها...

عُني بقوله: "وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ" من الفزع الذي قد جرى ذكره قبله...

وقوله: "هَلْ تُجْزَوْنَ إلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" يقول تعالى ذكره: يقال لهم: هل تجزون أيها المشركون إلا ما كنتم تعملون، إذ كبكم الله لوجوهكم في النار، وإلا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا بما يسخط ربكم، وترك «يقال لهم» اكتفاءً بدلالة الكلام عليه.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} فيها وجهان: أحدهما: أنها أداء الفرائض كلها...

{فله خير منها} فيه ثلاثة أوجه:... الثاني: أفضل منها لأنه يعطى بالحسنة عشراً، قاله زيد بن أسلم. الثالث: فله منها خير للثواب العائد عليه، قاله ابن عباس ومجاهد. {وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} فيه وجهان: أحدهما: وهم من فزع يوم القيامة آمنون في الجنة. الثاني: وهم من فزع الموت في الدنيا آمنون في الآخرة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: ما الفرق بين الفزعين؟ قلت: الفزع الأوّل: هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع وهول يفجأ، من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به؛ كما يدخل الرجل على الملك بصدر هياب وقلب وجاب وإن كان ساعة إعزاز وتكرمة وإحسان وتولية.

وأمّا الثاني: فالخوف من العذاب. فإن قلت: فمن قرأ {مِّن فَزَعٍ} بالتنوين ما معناه؟ قلت: يحتمل معنيين. من فزع واحد وهو خوف العقاب، وأمّا ما يلحق الإنسان من التهيب والرعب لما يرى من الأهوال والعظائم، فلا يخلون منه؛ لأن البشرية تقتضي ذلك. وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه. ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف: وهو خوف النار. أمن: يعدى بالجار وبنفسه، كقوله تعالى: {أفأمنوا مَكْرَ الله} [الأعراف: 99].

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و «الحسنة» الإيمان، وقال ابن عباس والنخعي وقتادة: «هي لا إله إلا الله، وروي عن علي بن الحسين أنه قال: كنت في بعض خلواتي فرفعت صوتي ب» لا إله إلا الله «فسمعت قائلاً يقول إنها الكلمة التي قال الله فيها {من جاء بالحسنة فله خير منها} وقوله {خير منها} يحتمل أن يكون للتفضيل، ويكون في قوله {منها} حذف مضاف تقديره خير من قدرها واستحقاقها، بمعنى أن الله تعالى تفضل عليه فوق ما تستحق حسنته، قال ابن زيد: يعطى بالواحدة عشراً والداعية إلى هذا التقدير أن الحسنة لا يتصور بينها وبين الثواب تفضيل، ويحتمل أن يكون خبر ليس للتفضيل بل اسم للثواب والنعمة، ويكون قوله تعالى: {منها} لابتداء الغاية، أي هذا الخير الذي يكون له هو من حسنته وبسببها...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما تكلم في علامات القيامة شرح بعد ذلك أحوال المكلفين بعد قيام القيامة والمكلف إما أن يكون مطيعا أو عاصيا، أما المطيع فهو الذي جاء بالحسنة وله أمران:

أحدهما: أن له ما هو خير منها وذلك هو الثواب، فإن قيل الحسنة التي جاء العبد بها يدخل فيها معرفة الله تعالى والإخلاص في الطاعات، والثواب إنما هو الأكل والشرب فكيف يجوز أن يقال الأكل والشرب خير من معرفة الله؟ جوابه من وجوه:

أحدها: أن ثواب المعرفة النظرية الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة، ولذة النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى. وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة، ولو لم تحمل الآية على ذلك لزم أن يكون الأكل والشرب خيرا من معرفة الله تعالى وأنه باطل.

وثانيها: أن الثواب خير من العمل من حيث إن الثواب دائم والعمل منقضي ولأن العمل فعل العبد، والثواب فعل الله تعالى.

وثالثها: {فله خير منها} أي له خير حاصل من جهتها وهو الجنة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

في هذا اليوم المفزع الرهيب يكون الأمن والطمأنينة من الفزع جزاء الذين أحسنوا في الحياة الدنيا، فوق ما ينالهم من ثواب هو أجزل من حسناتهم وأوفر: (من جاء بالحسنة فله خير منها. وهم من فزع يومئذ آمنون). والأمن من هذا الفزع هو وحده جزاء. وما بعده فضل من الله ومنة. ولقد خافوا الله في الدنيا فلم يجمع عليهم خوف الدنيا وفزع الآخرة. بل أمنهم يوم يفزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذه الجملة بيان ناشئ عن قوله {ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله} [النمل: 87] لأن الفزع مقتضٍ الحشر والحضور للحساب. و (من) في كلتا الجملتين شرطية.

والمجيء مستعمل في حقيقته. والباء في {بالحسنة} و {بالسيئة} للمصاحبة المجازية، ومعناها: أنه ذو الحسنة أو ذو السيئة. وليس هذا كقوله {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} في آخر الأنعام (160). فالمعنى هنا: من يجيء يومئذ وهو من فاعلي الحسنة ومن جاء وهو من أهل السيئة، فالمجيء ناظر إلى قوله {وكل أتوه داخرين} [النمل: 87] والحسنة والسيئة هنا للجنس وهو يحمل على أكمل أفراده في المقام الخطابي، أي من تمحضت حالته للحسنات أو كانت غالب أحواله كما يقتضيه قوله {وهم من فزع يومئذ ءامنون}، وكذلك الذي كانت حالته متمحضة للسيئات أو غالبة عليه، كما اقتضاه قوله {فكبت وجوههم في النار}.

و {خير منها} اسم تفضيل اتصلت به (من) التفضيلية، أي فله جزاء خير من حسنة واحدة لقوله تعالى في الآية الأخرى {فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] أو خير منها شرفاً لأن الحسنة من فعل العبد والجزاء عليها من عطاء الله.

وقوله {وهم من فزع يومئذ ءامنون} تبيين قوله آنفاً {إلا من شاء الله} [النمل: 87]. وهؤلاء هم الذين كانوا أهل الحسنات، أي تمحضوا لها أو غلبت على سيئاتهم غلبة عظيمة بحيث كانت سيئاتهم من النوع المغفور بالحسنات أو المدحوض بالتوبة ورد المظالم. وكذلك قوله {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار}، أي غلبت سيئاتهم وغطت على حسناتهم أو تمحضوا للسيئات بأن كانوا غير مؤمنين أو كانوا من المؤمنين أهل الجرائم والشقاء. وبين أهل هاتين الحالتين أصناف كثيرة في درجات الثواب ودركات العقاب. وجماع أمرها أن الحسنة لها أثرها يومئذ عاجلاً أو بالآخارة، وأن السيئة لها أثرها السيء بمقدارها ومقدار ما معها من أمثالها وما يكافئها من الحسنات أضدادها {فلا تظلم نفس شيئاً} [الأنبياء: 47].