الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَا وَهُم مِّن فَزَعٖ يَوۡمَئِذٍ ءَامِنُونَ} (89)

ثم لخص ذلك بقوله : { مَن جآءَ بالحسنة } إلى آخر الآيتين ، فانظر إلى بلاغة هذا الكلام ، وحسن نظمه وترتيبه ، ومكانة إضماده ، ورصانة تفسيره وأخذ بعضه بحجزة بعض ، كأنما أفرغ إفراغاً واحداً ولأمر مّا أعجز القوي وأخرس الشقاشق . ونحو هذا المصدر إذا جاء عقيب كلام ، جاء كالشاهد بصحته والمنادي على سداده ، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان . ألا ترى إلى قوله : { صُنْعَ الله } ، و { صِبْغَةَ الله } [ البقرة : 138 ] ، و { وَعَدَ الله } [ النساء : 95 ] و { فِطْرَةَ الله } [ الروم : 30 ] : بعدما وسمها بإضافتها إليه بسمة التعظيم ، كيف تلاها بقوله : { الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ } ، { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } [ البقرة : 138 ] { لا يخلف الله الميعاد } [ الزمر : 20 ] { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } [ الروم : 30 ] وقرىء : «تفعلون » ، على الخطاب . { فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } يريد الإضعاف وأنّ العمل يتقضى والثواب يدوم ، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد . وقيل : فله خير منها ، أي : له خير حاصل من جهتها وهو الجنة ، وعن ابن عباس ؛ الحسنة كلمة الشهادة . وقرىء : { يَوْمَئِذٍ } مفتوحاً مع الإضافة ؛ لأنه أضيف إلى غير متمكن . ومنصوباً مع تنوين فزع .

فإن قلت : ما الفرق بين الفزعين ؟ قلت : الفزع الأوّل : هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع وهول يفجأ ، من رعب وهيبة ، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به ؛ كما يدخل الرجل على الملك بصدر هياب وقلب وجاب وإن كان ساعة إعزاز وتكرمة وإحسان وتولية . وأمّا الثاني : فالخوف من العذاب .

فإن قلت : فمن قرأ { مِّن فَزَعٍ } بالتنوين ما معناه ؟ قلت : يحتمل معنيين . من فزع واحد وهو خوف العقاب ، وأمّا ما يلحق الإنسان من التهيب والرعب لما يرى من الأهوال والعظائم ، فلا يخلون منه ؛ لأن البشرية تقتضي ذلك . وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه . ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف : وهو خوف النار . أمن : يعدي بالجار وبنفسه ، كقوله تعالى : { أفأمنوا مَكْرَ الله } [ الأعراف : 99 ] .