ونأتي للصفحة الأخيرة من صحائف الأقوام المكذبة في تلك الحقبة من التاريخ . . صفحة مدين وأخيهم شعيب :
( وإلى مدين أخاهم شعيباً ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، قد جاءتكم بينة من ربكم ، فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس اشياءهم ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين . ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً ، واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم ، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين . . وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين ) . .
( قال الملأ الذين استكبروا من قومه : لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا . قال : أو لو كنا كارهين ؟ قد افترينا على اللّه كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا اللّه منها ، وما يكون لنا أن نعود فيها - إلا أن يشاء اللّه ربنا ، وسع ربنا كل شيء علماً - على اللّه توكلنا ، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الفاتحين . وقال الملأ الذين كفروا من قومه : لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون . فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين . الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها ، الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين ، فتولى عنهم وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ، فكيف آسى على قوم كافرين ؟ ) . .
إننا نجد شيئاً من الإطالة في هذه القصة ، بالقياس إلى نظائرها في هذا الموضع ، ذلك أنها تتضمن غير قضية العقيدة شيئاً عن المعاملات ، وإن كانت القصة سائرة على منهج الاستعراض الإجمالي في هذا السياق .
( وإلى مدين أخاهم شعيباً ، قال : يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره ) .
فهي قاعدة الدعوة التي لا تغيير فيها ولا تبديل . . ثم تبدأ بعدها بعض التفصيلات في رسالة النبي الجديد :
( قد جاءتكم بينة من ربكم ) . .
ولا يذكر السياق نوع هذه البينة - كما ذكرها في قصة صالح - ولا نعرف لها تحديداً من مواضع القصة في السور الأخرى . ولكن النص يشير إلى أنه كانت هناك بينة جاءهم بها ، تثبت دعواه أنه مرسل من عند اللّه . ويرتب على هذه البينة ما يأمرهم به نبيهم من توفية الكيل والميزان ، والنهي عن الإفساد في الأرض ، والكف عن قطع الطريق على الناس ، وعن فتنة المؤمنين عن دينهم الذي ارتضوه :
( فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين . ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ، وتصدون عن سبيل اللّه من آمن به ، وتبغونها عوجاً ، واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم ، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ) . .
وندرك من هذا النهي أن قوم شعيب ، كانوا قوماً مشركين لا يعبدون اللّه وحده ، إنما يشركون معه عباده في سلطانه ؛ وأنهم ما كانوا يرجعون في معاملاتهم إلى شرع اللّه العادل ؛ إنما كانوا يتخذون لأنفسهم من عند أنفسهم قواعد للتعامل - ولعل شركهم إنما كان في هذه الخصلة - وأنهم - لذلك - كانوا سيئي المعاملة في البيع والشراء ؛ كما كانوا مفسدين في الأرض ، يقطعون الطريق على سواهم . ظلمة يفتنون الذين يهتدون ويؤمنون عن دينهم ، ويصدونهم عن سبيل اللّه المستقيم ؛ ويكرهون الاستقامة التي في سبيل اللّه ؛ ويريدون أن تكون الطريق عوجاء منحرفة ، لا تمضي على استقامتها كما هي في منهج اللّه .
ويبدأ شعيب - عليه السلام - بدعوتهم إلى عبادة اللّه وحده وإفراده سبحانه بالألوهية ، وإلى الدينونة له وحده وإفراده من ثم بالسلطان في أمر الحياة كله .
يبدأ شعيب - عليه السلام - في دعوتهم من هذه القاعدة ؛ التي يعلم أنه منها تنبثق كل مناهج الحياة وكل أوضاعها ؛ كما أن منها تنبثق قواعد السلوك والخلق والتعامل . ولا تستقيم كلها إلا إذا استقامت هذه القاعدة .
ويستصحب في دعوتهم إلى الدينونة للّه وحده ، وإقامة حياتهم على منهجه المستقيم ، وترك الإفساد في الأرض بالهوى بعدما أصلحها اللّه بالشريعة . .
يستصحب في دعوتهم إلى هذا كله بعض المؤثرات الموحية . . يذكرهم نعمة اللّه عليهم :
( واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم ) .
قوله : { ولا تقعدوا بكلّ صراط توعدون } هذا الأصل الثّالث من دعوته وهو النّهي عن التّعرّض للنّاس دون الإيمان ، فإنّه بعد أن أمرهم بالإيمان بالله وما يتطلّبه من الأعمال الصّالحة ، وفي ذلك صلاح أنفسهم ، أي أصلحوا أنفسكم ولا تمنعوا من يَرغب في إصلاح نفسه ذلك أنّهم كانوا يصدّون وفودَ النّاس عن الدّخول إلى المدينة التي كان بها شعيب عليه السّلام لئلا يؤمنوا به . فالمراد بالصّراط الطريق الموصلة إلى لقاء شعيب عليه السّلام .
والقعود مستعمل كناية عن لازمه وهو الملازمة والاستقرار ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { لأقْعُدَنّ لهم صراطك المستقيم } في هذه السّورة ( 16 ) .
و ( كُلّ ) للعموم وهو عموم عُرفي ، أي كلّ صراط مبلغ إلى القرية أو إلى منزل شعيب عليه السّلام ، ويجوز أن تكون كلمة ( كلّ ) مستعملة في الكثرة كما تقدّم .
والباء للإلصاق ، أو هي بمعنى ( في ) كشأنها إذا دخلت على أسماء المنازل . كقول امرىء القيس : بسِقْط اللِّوَى البيت .
وجملة : { توعدون } حال من ضمير { تقعدوا } والإيعاد : الوعد بالشرّ . والمقصود من الإيعاد الصدّ ، فيكون عطف جملة { وتصدون } عطفَ علّة على معلول ، أو أريد توعدون المصمّمين على اتِّباع الإيمان ، وتصدّون الذين لم يصمّموا فهو عطف عام على خاص .
و { من آمن } يتنازعه كلٌ من { توعدون } وتصدّون .
والتّعبير بالماضي في قوله : { مَن آمن به } عوضاً عن المضارع ، حيث المراد بمن آمن قاصدُ الإيمان ، فالتعبير عنه بالماضي لتحقيق عزم القاصد على الإيمان فهو لولا أنّهم يصدّونه لكان قد آمن .
و { سبيل الله } الدّين لأنّه مِثل الطريق الموصل إلى الله ، أي إلى القرب من مرضاته .
ومعنى { تبغونها عوجا } تبغون لسبيل الله عوجاً إذ كانوا يزعمون أن ما يدعو إليه شعيب باطل ، يقال : بغاه بمعنى طلب له ، فأصله بغى له فحذفوا حرف الجر لكثرة الاستعمال أو لتضمين بغى معنى أعطى .
والعِوَج بكسر العين عدم الاستقامة في المعاني ، وبفتح العين : عدم استقامة الذات ، والمعنى : تحاولون أن تصفوا دعوة شعيب المستقيمة بأنها باطل وضلال ، كمن يحاول اعوجاج عود مستقيم . وتقدم نظير هذا في هذه السورة في ذكر نداء أصحاب الجنة أصحاب النار .
وإنما أَخَّر النهي عن الصد عن سبيل الله ، بعد جملة { ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين } ولم يجعله في نسق الأوامر والنواهي الماضية ثم يعقبه بقوله : { ذلكم خير لكم } لأنه رتّب الكلام على الابتداء بالدعوة إلى التوحيد ، ثم إلى الأعمال الصالحة لمناسبة أن الجميع فيه صلاح المخاطبين ، فاعقبها ببيان أنها خير لهم إن كانوا مؤمنين فاعاد تنبيههم إلى الإيمان وإلى أنه شرط في صلاح الأعمال ، وبمناسبة ذكر الإيمان عاد إلى النهي عن صد الراغبين فيه ، فهذا مثل الترتيب في قول امرىء القيس :
كأنّيَ لم اركَبْ جواداً للذّةٍ *** ولم أتبطّنْ كاعباً ذات خلْخالٍ
ولم أسْبَأ الراحَ الكُميتَ ولم أقل *** لخَيْلِي كُري كَرّةً بعد إجفال
روى الواحدي في « شرح ديوان المتنبي » أن المتنبي لما أنشد سيف الدولة قوله فيه :
وقَفْتَ وما في الموْت شكّ لوَاقِفٍ *** كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم
تَمُر بك الأبطال كَلْمَي حزينة *** ووجهك وضَّاح وثَغْرُك باســـم
أنكر عليه سيف الدولة تطبيق عَجُزي البيتين على صدريهما ، وقال له كان ينبغي أن تجعل العجز الثاني عَجُزاً اللأول والعكس وأنت في هذا مِثْل امرىء القيس في قوله : كأنّي لم أركب جواداً للذة البيتين ،
ووجه الكلام على ما قاله العلماء بالشّعر : أن يكون عجز البيت الأوّل للثّاني وعجز البيت الثّاني للأوّل ؛ ليكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكَر ، ويكون سباء الخمر مع تبطّن الكاعب ، فقال أبو الطّيّب : « إن صحّ أن الذي استدرك على امرىء القيس هذا أعلَمُ منه بالشّعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأتُ أنا ، ومولانا الأميرُ يعلم أنّ الثّوب لا يعرفه البزّاز معرفة الحائك ، لأنّ البزّاز لا يعرف إلاّ جملته ، والحائكَ يعرف جملتَه وتفصيله ، لأنّه أخرجه من الغَزْليَّة إلى الثَّوْبيَّة ، وإنَّما قَرن امرؤ القيس لذة النّساء بلذّة الرّكوب للصّيد وقرن السّماحة في شراء الخمر للأضياف بالشّجاعة في منازلة الأعداء ، وأنا لمّا ذكرت الموت في أوّل البيت أتبعتُه بذكر الردَى لتجانسه ، ولمّا كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوساً وعينُه من أن تكون باكية قلتُ : « ووجهك وضّاح وثَغرك باسم » لأجمع بين الأضداد في المعنى .
وهو يعني بهذا أن وجوه المناسبة في نظم الكلام تختلف وتتعدّد ، وإنّ بعضاً يكون أرجح من بعض .
وذَكَّرَهُم شُعيبٌ عليه السّلام عقب ذلك بتكثير الله إياهم بعد أن كانوا قليلاً ، وهي نعمة عليهم ، إذ صاروا أمّة بعد أن كانوا معشراً .
ومعنى تكثير الله إياهم تيسيره أسباب الكثرة لهم بأن قوّى فيهم قوّة التّناسل ، وحفظهم من أسباب المَوتَان ، ويَسَّر لنسلهم اليفاعة حتّى كثُرت مواليدهم وقلّت وفياتُهم ، فصاروا عدداً كثيراً في زمن لا يعهد في مثله مصير أمّة إلى عددهم ، فيُعد منعهم النّاس من الدّخول في دين الله سعياً في تقليل حزب الله ، وذلك كفران لنعمة الله عليهم بأنّ كثَّرهم ، وليقابلوا اعتبار هذه النّعمة باعتبار نقمته تعالى من الذين غضب عليهم ، إذْ استأصلهم بعد أن كانوا كثيراً فذلك من تمايز الأشياء بأضدادها .
فلذلك أعقبه بقوله : { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } . وفي هذا الكلام جمع بين طريقي التّرغيب والتّرهيب .
وقليل وصْف يلزم الإفرادَ والتّذكير ، مثل كثير ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { وكأيِّن من نبيء قتل معه ربّيون كثير } في سورة آل عمران ( 146 ) .
والمراد { بالمفسدين } الذين أفسدوا أنفسهم بعقيدة الشّرك وبأعمال الضّلال ، وأفسدوا المجتمع بخالفة الشّرائع ، وأفسدوا النّاس بإمدادهم بالضّلال وصدّهم عن الهدى ، ولذلك لم يؤت : ل { المفسدين } بمتعلِّق لأنّه اعتبر صفة ، وقطع عن مشابهة الفعل ، أي الذين عرفوا بالإفساد . وهذا الخطاب مقصود منه الكافرون من قومه ابتداء ، وفيه تذكير للمؤمنين منهم بنعمة الله ، فإنّها تشملهم وبالاعتبار بمن مضَوا فإنّه ينفعهم ، وفي هذا الكلام تعريض بالوعد للمسلمين وبالتّسلية لهم على ما يلاقونه من مفسدي أهل الشّرك لانطباق حال الفريقين على حال الفريقين من قوم شُعيب عليه السّلام .
و ( إذ ) في قوله : { إذْ كنتم قليلاً } اسم زمان ، غيرُ ظرف فهو في محل المفعول به أي اذكروا زمانَ كنتم قليلاً فأعقبه بأن كثّركم في مدّة قريبة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تقعدوا بكل صراط توعدون}، يعني ولا ترصدوا بكل طريق توعدون أهل الإيمان بالقتل، {وتصدون عن سبيل الله}، يعني عن دين الإسلام، {من آمن به}، يعني من صدق بالله وحده لا شريك له، {وتبغونها عوجا}، يعني تريدون بملة الإسلام زيفا، {واذكروا إذ كنتم قليلا}، عددكم بعد عذاب الأمم الخالية، ثم ذكرهم النعم، فقال: {فكثركم}، يعني فكثر عددكم، ثم وعظهم وخوفهم بمثل عذاب الأمم الخالية، فقال: {وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين} في الأرض بالمعاصي بعد عذاب قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط في الدنيا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بقوله:"وَلا تَقْعُدُوا بِكُلّ صِراطٍ تُوعِدُونَ": ولا تجلسوا بكلّ طريق وهو الصراط، توعدون المؤمنين بالقتل. وكانوا فيما ذكر يقعدوه على طريق من قصد شعيبا وأراده ليؤمن به، فيتوعدونه ويخوّفونه ويقولون: إنه كذّاب...
وأما قوله: "وَتَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ": فإنه يقول: وتردّون عن طريق الله وهو الردّ عن الإيمان بالله والعمل بطاعته من آمن به، يقول: تردّون عن طريق الله من صدّق بالله ووحده.
"وتَبْغُونَها عِوَجا" يقول: وتلتمسون لمن سلك سبيل الله وآمن به وعمل بطاعته، عوجا عن القصد والحقّ إلى الزّيغ والضلال...
وقوله: "وَاذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثّرَكُمْ": يذكرهم شعيب نعمة الله عندهم بأن كثر جماعتهم بعد أن كانوا قليلاً عددهم، وأن رفعهم من الذلة والخساسة. يقول لهم: فاشكروا الله الذي أنعم عليكم بذلك وأخلصوا له العبادة، واتقوا عقوبته بالطاعة، واحذروا نقمته بترك المعصية.
" وَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِينَ": يقول: وانظروا ما نزل بمن كان قبلكم من الأمم حين عتوا على ربهم وعصوا رسله من المثلات والنقمات، وكيف وجدوا عقبى عصيانهم إياه، ألم يهلك بعضهم غرقا بالطوفان وبعضهم رجما بالحجارة وبعضهم بالصيحة؟ والإفساد في هذا الموضع معناه: معصية الله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا تقعدوا بكل صراط توعدون} يحتمل ما قاله أهل التأويل: إن كبراء أهل الشرك ورؤساءهم كانوا يقعدون في الطرق أناسا يصدّون الذين يأتون شعيبا للإيمان [ويمنعونهم] من الإيمان من الآفاق والنواحي. ويكون معنى {من آمن به} على هذا التأويل: أي من أراد أن يؤمن...
ويحتمل قوله تعالى: {ولا تقعدوا} ليس على القعود نفسه، ولكن على المنع من إقامة الشرائع التي شرع الله لشعيب كقول إبليس {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] ليس هو على القعود نفسه ولكن على المنع؛ ويمنعهم عن صراطه المستقيم. فعلى قوله {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون} كانوا يمنعون {من آمن به} عن إقامة الشرائع والعبادات التي دعوا إلى إقامتها، ويوعدون على ذلك، ويخوّفونهم. فعلى هذا التأويل يكون معنى قوله: {من آمن به} على وجود الإيمان. وعلى التأويل الأول يكون من أراد أن يؤمن به، والله أعلم...
{وتبغونها عوجا} قيل: تلتمسون لها أهل الزيغ، وقيل: تبغون هلاكا للإسلام وإبطالا، وقيل: تبغون السبيل عوجا عن الحق، وكله واحد. وقوله تعالى: {واذكروا إذ كنتم قليلا فكثّركم} أي كثّر لكم الأموال، ووسّع عليكم الدنيا...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ}: قال عبد الرحمن بن زيد: كانوا يقطعون الطريق.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" ولا تقعدوا بكل صراط توعدون "معنى الإيعاد: الإخبار بالعذاب على صفة من الصفات، وهو الوعيد والتهديد.
"وتصدون عن سبيل الله" الصد هو: الصرف عن الفعل بالإغواء.
" وتبغونها عوجا" فالهاء راجعة إلى السبيل، ومعنى "تبغون" تطلبون، والبغية: الطلبة...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {ولا تقعدوا بكل صراط}، أي: على كل طريق.
قوله تعالى: {وتصدون عن سبيل الله}، دين الله.
قوله تعالى: {من آمن به وتبغونها عوجاً}، زيغاً، وقيل: تطلبون الاعوجاج في الدين، والعدول عن القصد، وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطريق فيقولون لمن يريد الإيمان بشعيب: إن شعيب كذاب فلا يفتننك عن دينك، ويتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوفونهم، وقال السدي: كانوا عشارين. {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم}، فكثر عددكم.
قوله تعالى: {وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين}، أي: آخر أمر قوم لوط.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط} ولا تقتدوا بالشيطان في قوله: {لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدين...
والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}: ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل الله، وباغيها عوجاً. فإن قلت: صراط الحق واحد، {وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فكيف قيل: بكل صراط؟ قلت: صراط الحق واحد، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة، فكانوا إذا رأوا أحداً يشرع في شيء منها أوعدوه وصدّوه. فإن قلت؛ إلام يرجع الضمير في {ءَامَنَ بِهِ}؟ قلت: إلى كل صراط. تقديره: توعدون من آمن به وتصدّون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير، زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدّون عنه...
{ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا}: نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأمور الثلاثة. واعلم أنه تعالى لما عطف بعض هذه الثلاثة على البعض. وجب حصول المغايرة بينها؛ فقوله: {توعدون} يحصل بذلك إنزال المضار بهم. وأما الصد، فقد يكون بالإيعاد بالمضار، وقد يكون بالوعد بالمنافع بما لو تركه، وقد يكون بأن لا يمكنه من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه.
أما قوله: {وتبغونها عوجا}: فالمراد إلقاء الشكوك والشبهات، والمراد من الآية أن شعيبا منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاثة. وإذا تأملت علمت أن أحدا لا يمكنه منع غيره من قبول مذهب أو مقالة إلا بأحد هذه الطرق الثلاثة.
{وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين}: المقصود منه أنهم إذا عرفوا أن عاقبة المفسدين المتمردين ليست إلا الخزي والنكال، احترزوا عن الفساد والعصيان وأطاعوا، فكان المقصود من هذين الكلامين حملهم على الطاعة بطريق الترغيب أولا والترهيب ثانيا.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ينهاهم شعيب، عليه السلام، عن قطع الطريق الحسي والمعنوي، بقوله: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} أي: توعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم ...
... قوله: {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي: وتودون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة. {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ} أي: كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة عَدَدكم، فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك، {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي: من الأمم الخالية والقرون الماضية، ما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت أفعالهم نقص الناس إما في الأموال بالبخس وإما في الإيمان والنصرة بالصد، ذكرهم أن الله تعالى فعل معهم ضد ذلك من التكثير بعد القلة في سياق منذر باجتثاثهم عن وجه الأرض وخصهم فضلاً عن تقليلهم ونقصهم، فقال عطفاً على قوله {اعبدوا الله} وما بعده من الأوامر والنواهي: {واذكروا إذ} أي حين {كنتم قليلاً} أي في العدد والمدد {فكثركم} أي كثر عددكم وأموالكم وكل شيء ينسب إليكم، فلا تقابلوا النعمة بضدها، فإن ذكر النعمة مرغب في الشكر.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} قلنا إنه عليه السلام قد بدأ بدعوتهم إلى توحيد العبادة لأنه ركن الدين الأعظم الذي هدمته الوثنية، وثنى بالأوامر والنواهي المتعلقة بحالهم الغالبة عليهم. وأما هذا النهي عن قطعهم الطرق على من يغشى مجلسه عليه السلام ويسمع دعوته ويؤمن به فلم يؤخره لأن اقترافه دون اقتراف التطفيف في الكيل والميزان وبخس الحقوق، بل لأنه متأخر عنها في الزمن، فالدعوة قد وجهت أولا إلى أقرب الناس إليه في بلده ثم إلى الأقرب فالأقرب منهم وممن يزور أرضهم، وقد كان الأقربون دارا هم الأبعدين استجابة له في الأكثر وتلك سنة الله في الخلق. فلما رأوا غيرهم يقبل دعوته ويعلقها ويهتدي بها شرعوا يصدون الناس عنه فلا يدعون طريقا توصل إليه إلا قعد بها من توعد سالكيها إليه ويصدونهم عن سبيل الله يدعوهم إليها، ويطلبون بالتمويه والتضليل أن يجعلوا استقامتها عوجا وهداها ضلالا، وتقدم مثل هذه الجملة (في الآية 44 من هذه السورة فيراجع).
والحاصل أنه نهاهم هنا عن ثلاثة أشياء: أولها: قعودهم على الطرقات التي توصل إليه يخوفون من يجيئه ليرجع عنه قبل أن يراه ويسمع دعوته.
ثانيها: صدهم من وصل إليه وآمن بصرفه عن الثبات على الإيمان والإسلام والاستقامة على سبيل الله تعالى الموصلة إلى سعادة الدارين.
ثالثها: ابتغاؤهم جعل سبيل الله المستقيمة ذات عوج بالطعن وإلقاء الشبهات المشككة فيها أو المشوهة لها كقولهم له عليه السلام الذي حكاه الله تعالى عنهم في سورة هود (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} (هود 62). {أو نفعل في أموالنا ما نشاء} (هود 87).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {ولا تقعدوا بكلّ صراط توعدون} هذا الأصل الثّالث من دعوته وهو النّهي عن التّعرّض للنّاس دون الإيمان، فإنّه بعد أن أمرهم بالإيمان بالله وما يتطلّبه من الأعمال الصّالحة، وفي ذلك صلاح أنفسهم، أي أصلحوا أنفسكم ولا تمنعوا من يَرغب في إصلاح نفسه ذلك أنّهم كانوا يصدّون وفودَ النّاس عن الدّخول إلى المدينة التي كان بها شعيب عليه السّلام لئلا يؤمنوا به. فالمراد بالصّراط الطريق الموصلة إلى لقاء شعيب عليه السّلام.
والقعود مستعمل كناية عن لازمه وهو الملازمة والاستقرار، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {لأقْعُدَنّ لهم صراطك المستقيم} في هذه السّورة (16)
... و {سبيل الله} الدّين لأنّه مِثل الطريق الموصل إلى الله، أي إلى القرب من مرضاته.
ومعنى {تبغونها عوجا} تبغون لسبيل الله عوجاً إذ كانوا يزعمون أن ما يدعو إليه شعيب باطل، يقال: بغاه بمعنى طلب له، فأصله بغى له فحذفوا حرف الجر لكثرة الاستعمال أو لتضمين بغى معنى أعطى.
والعِوَج بكسر العين عدم الاستقامة في المعاني، وبفتح العين: عدم استقامة الذات، والمعنى: تحاولون أن تصفوا دعوة شعيب المستقيمة بأنها باطل وضلال، كمن يحاول اعوجاج عود مستقيم. وتقدم نظير هذا في هذه السورة في ذكر نداء أصحاب الجنة أصحاب النار.
وإنما أَخَّر النهي عن الصد عن سبيل الله، بعد جملة {ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين} ولم يجعله في نسق الأوامر والنواهي الماضية ثم يعقبه بقوله: {ذلكم خير لكم} لأنه رتّب الكلام على الابتداء بالدعوة إلى التوحيد، ثم إلى الأعمال الصالحة لمناسبة أن الجميع فيه صلاح المخاطبين، فأعقبها ببيان أنها خير لهم إن كانوا مؤمنين فأعاد تنبيههم إلى الإيمان وإلى أنه شرط في صلاح الأعمال، وبمناسبة ذكر الإيمان عاد إلى النهي عن صد الراغبين فيه...
... وذَكَّرَهُم شُعيبٌ عليه السّلام عقب ذلك بتكثير الله إياهم بعد أن كانوا قليلاً، وهي نعمة عليهم، إذ صاروا أمّة بعد أن كانوا معشراً.
ومعنى تكثير الله إياهم تيسيره أسباب الكثرة لهم بأن قوّى فيهم قوّة التّناسل، وحفظهم من أسباب المَوتَان، ويَسَّر لنسلهم اليفاعة حتّى كثُرت مواليدهم وقلّت وفياتُهم، فصاروا عدداً كثيراً في زمن لا يعهد في مثله مصير أمّة إلى عددهم، فيُعد منعهم النّاس من الدّخول في دين الله سعياً في تقليل حزب الله، وذلك كفران لنعمة الله عليهم بأنّ كثَّرهم، وليقابلوا اعتبار هذه النّعمة باعتبار نقمته تعالى من الذين غضب عليهم، إذْ استأصلهم بعد أن كانوا كثيراً فذلك من تمايز الأشياء بأضدادها.