البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَا تَقۡعُدُواْ بِكُلِّ صِرَٰطٖ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَتَبۡغُونَهَا عِوَجٗاۚ وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ كُنتُمۡ قَلِيلٗا فَكَثَّرَكُمۡۖ وَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (86)

{ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً } الظاهر النهي عن القعود بكل طريق لهم عن ما كانوا يفعلونه من إيعاد الناس وصدّهم عن طريق الدّين ، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدّي : كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون : إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت تفعله قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال السدّي : هذا نهي العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل ، وقال أبو هريرة : هو نهي عن السّلب وقطع الطريق وكان ذلك من فعلهم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبريل فقال هذا مثل لقوم من أمّتك يقعدون على الطريق فيقطعونه » ثم تلا { ولا تقعدوا بِكل صراط توعدون } وفي هذا القول والقول الذي قبله مناسبة لقوله { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } لكن لا تظهر مناسبة لهما بقوله { وتصدون عن سبيل الله من آمن به } بل ذلك يناسب القول الأول قال القرطبي : قال علماؤنا ومثلهم اليوم هؤلاء المكاسون الذين يأخذون من الناس ما لا يلزمهم شرعاً من الوظائف الماليّة بالقهر والجبر وضمنوا ما لا يجوز ضمان أصله من الزكاة والمواريث والملاهي والمترتّبون في الطرق إلى غير ذلك مما قد كثر في الوجود وعمل به في سائر البلاد وهو من أعظم الذنوب وأكبرها وأفحشها فإنه غضب وظلم وعسف على الناس وإذاعة للمنكر وعمل به ودوام عليه وإقرار له وأعظمه تضمين الشرع والحكم للقضاء فإنا لله وإنا إليه راجعون ، لم يبق من الإسلام إلا رسمه ولا من الدّين إلا اسمه انتهى كلامه .

وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال والأعراض بالدماء في قوله في حجة الوداع : « ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حراماً » وما أكثر ما تساهل الناس في أخذ الأموال وفي الغيبة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قتل دون ماله فهو شهيد » والعجب إطباق من يتظاهر بالصلاح والدين والعلم على عدم إنكار هذه المكوس والضمانات وادعاء بعضهم أنه له تصرف في الوجود ودلال على الله تعالى بحيث إنه يدعو فيستجاب له فيما أراد ويضمن لمن كان من أصحابه وأتباعه الجنة وهو مع ذلك يتردّد لأصحاب المكوس ويتذلل إليهم في نزع شيء حقير وأخذه من المكس الذي حصّلوه وهذه وقاحة لا تصدر ممن شمّ رائحة الإيمان ولا تعلق بشيء من الإسلام ، وقال بعض الشعراء :

تساوى الكلّ منا في المساوي *** فأفضلنا فتيلاً ما يساوي

وعلى الأقوال السابقة يكون القعود بكل صراط حقيقة وحمل القعود والصراط الزمخشري على المجاز ، فقال ولا تقتدوا بالشيطان في قوله { لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم } فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدّين والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله { وتصدون عن سبيل الله } ، فإن قلت : صراط الحقّ واحد { وإنّ هذا صراطي مستقيماً فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } فكيف قيل بكل صراط ، ( قلت ) : صراط الحقّ واحد ولكنه يتشعّب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة فكانوا إذا رأوا واحداً يشرع في شيء منه منعوه وصدّوه انتهى .

ولا تظهر الدلالة على أن المراد بالصراط سبيل الحق من قوله { وتصدون عن سبيل اللهِ } كما ذكر بل الظاهر التغاير لعموم كل صراط وخصوص سبيل الله فيكون { بكل صراط } حقيقة في الطرق ، و { سبيل الله } مجاز عن دين الله والباء في { بكل صراط } ظرفية نحو زيد بالبصرة أي في كل صراط وفي البصرة والجمل من قوله { توعدون } { وتصدون } { وتبغونها } أحوال أي موعدين وصادّين وباغين والإيعاد ذكر إنزال المضار بالموعد ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس فيه كل مذهب من الشرّ لأن أوعد لا يكون إلا في الشر وإذا ذكر تعدى الفعل إليه بالباء .

قال أبو منصور الجواليقي : إذا أرادوا أن يذكروا ما يهددوا به مع أوعدت جاؤوا بالباء فقالوا : أوعدته بالضرب ولا يقولون أعدته الضرب والصدّ يمكن أن يكون حقيقة في عدم التمكين من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه ويمكن أن يكون مجازاً عن الإيعاد من الصادّ بوجه ما أوعن وعد المصدود بالمنافع على تركه و { من آمن } مفعول بتصدون على إعمال الثاني ومفعول { توعدون } ضمير محذوف والضمير في { به } الظاهر أنه على { سبيل الله } وذكره لأن السبيل تذكر وتؤنث ، وقيل عائد على الله ، وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : إلام يرجع الضمير في آمن به ، ( قلت ) : إلى كلّ صراط تقديره توعدون من آمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم دلالة على عظم ما يصدّون عنه انتهى وهذا تعسّف في الإعراب لا يليق بأن يحمل القرآن عليه لما فيه من التقديم والتأخير ووضع الظاهر موضع المضمر من غير حاجة إلى ذلك وعود الضمير على أبعد مذكور مع إمكان عوده على أقرب مذكور الإمكان السائغ الحسن الراجح وجعل { من آمن } منصوباً بتوعدون فيصير من إعمال الأوّل وهو قليل .

وقد قال النحاة أنه لم يرد في القرآن لقلته ولو كان من إعمال الأول للزم ذكر الضمير في الفعل الثاني وكان يكون التركيب { وتصدونه } أو وتصدونهم إذ هذا الضمير لا يجوز حذفه على قول الأكثرين إلا ضرورة على قول بعض النحاة يحذف في قليل من الكلام ويدلّ على { من آمن } منصوب بتصدون الآية الأخرى وهي قوله :

{ قل يا أهل الكتاب لمَ تصدون عن سبيل الله من آمن } ولا يحذف مثل هذا الضمير إلا في شعر وأجاز بعضهم حذفه على قلة مع هذه التكليفات المضافة إلى ذلك فكان جديراً بالمنع لما في ذلك من التعقيد البعيد عن الفصاحة وأجاز ابن عطية أن يعود على شعيب في قول من رأى القعود على الطريق للرد عن شعيب وهذا بعيد لأن القائل { ولا تقعدوا } وهو شعيب فكان يكون التركيب من آمن بي ولا يسوغ هنا أن يكون التفافاً لو قلت : يا هند أنا أقول لك لا تهيني من أكرمه تريد من أكرمني لم يصحّ وتقدم تفسير مثل قوله { وتبغونها عوجاً } في آل عمران .

{ واذكروا إذا كنتم قليلاً فكثركم } قال الزمخشري { إذ } مفعول به غير ظرف أي { واذكروا } على جهة الشكر وقت كونكم { قليلاً } عددكم { فكثركم } الله ووفر عددكم انتهى ؛ وذكر غيره أنه منصوب على الظرف فلا يمكن أن يعمل فيه { واذكروا } لاستقبال اذكروا وكون { إذ } ظرفاً لما مضى والقلّة والتكثير هنا بالنسبة إلى الأشخاص أو إلى الفقر والغنى أو إلى قصر الأعمار وطولها أقوال ثلاثة أظهرها الأول .

قيل : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا ، وقال الزمخشري : إذ كنتم أقلة أذلّة فأعزّكم بكثرة العدد والعدد انتهى ولا ضرورة تدعو إلى حذف صفة وهي أذلّة ولا إلى تحميل قوله { فكثركم } معنى بالعدد ألا ترى أنّ القلة لا تستلزم الذلّة ولا الكثرة تستلزم العزّ ، وقال الشاعر :

تعيّرنا أنّا قليل عديدنا *** فقلت لها إنّ الكرام قليل

وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا *** عزيز وجار الأكثرين ذليل

وقيل : المراد مجموع الأقوال الأربعة فإنه تعالى كثّر عددهم وأرزاقهم وطوّل أعمارهم وأعزّهم بعد أن كانوا على مقابلاتها .

{ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } هذا تهديد لهم وتذكير بعاقبة من أفسد قبلهم وتمثيل لهم بمن جلّ به العذاب من قوم نوح وهود وصالح ولوط وكانوا قريبي عهد بما أجاب المؤتفكة .