وتختم السورة بآيتين ورد أنهما مكيتان ، وورد أنهما مدنيتان . ونحن نأخذ بهذا الأخير ، ونلمح مناسبتهما في مواضع متفرقة في هذا الدرس وفي جو السورة على العموم . آيتين تتحدث إحداهما عن الصلة بين الرسول وقومه ، وعن حرصه عليهم ورحمته بهم . ومناسبتها حاضرة في التكاليف التي كلفتها الأمة المؤمنة في مناصرة الرسول ودعوته وقتال أعدائه واحتمال العسرة والضيق . والآية الثانية توجيه لهذا الرسول أن يعتمد على ربه وحده حين يتولى عنه من يتولى ، فهو وليه وناصره وكافيه :
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم ، فإن تولوا فقل حسبي الله ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم )
ولم يقل : جاءكم رسول منكم . ولكن قال : ( من أنفسكم ) وهي أشد حساسية وأعمق صلة ، وأدل على نوع الوشيجة التي تربطهم به . فهو بضعة من أنفسهم ، تتصل بهم صلة النفس بالنفس ، وهي أعمق وأحسن .
لا يلقي بكم في المهالك ، ولا يدفع بكم إلى المهاوي ؛ فإذا هو كلفكم الجهاد ، وركوب الصعاب ، فما ذلك من هوان بكم عليه ، ولا بقسوة في قلبه وغلظة ، إنما هي الرحمة في صورة من صورها . الرحمة بكم من الذل والهوان ، والرحمة بكم من الذنب والخطيئة ، والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة ، وحظ رضوان الله ، والجنة التي وعد المتقون .
كانت هذه السورة سورة شدة وغلظة على المشركين وأهل الكتاب والمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب ، وأمْراً للمؤمنين بالجهاد ، وإنحاء على المقصرين في شأنه . وتخلل ذلك تنويه بالمتصفين بضد ذلك من المؤمنين الذين هاجروا والذين نصروا واتبعوا الرسول في ساعة العسْرة .
فجاءت خاتمة هذه السورة آيتين بتذكيرهم بالمنة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم والتنويه بصفاته الجامعة للكمال . ومن أخصها حرصهُ على هداهم ، ورغبته في إيمانهم ودخولِهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفاً رحيماً بهم ليعلموا أن ما لقيه المعرضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل ما هو إلا استصلاح لحالهم . وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله تعالى مقارنة لبعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] ، بحيث جاء في هاتين الآيتين بما شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدة وعوملوا بالغلظة تعقيباً للشدة بالرفق وللغلظة بالرحمة ، وكذلك عادة القرآن . فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة ليدخلها من وفقه الله إليها .
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً . وفي وقوعها آخر السورة ما يكسبها معنى التذييل والخلاصة .
فالخطاب بقوله : { جاءكم } وما تبعه من الخطاب موجه إلى جميع الأمة المدعوة للإسلام . والمقصود بالخطاب بادىء ذي بدء هم المعرضون من المشركين والمنافقين من العرب بقرينة قوله عقب الخطاب { بالمؤمنين رءوف رحيم } وسيجيء أن المقصود العرب .
وافتتاحها بحرفَيْ التأكيد وهما اللام و ( قد ) مع كون مضمونها مما لا يتطرق إليه الإنكار لقصد الاهتمام بهذه الجملة لأهمية الغرض الذي سيقت لأجله وهو الذي سنذكره ، ولأن فيما تضمنته ما ينكره المنافقون وهو كونه رسولاً من الله ، ولأن في هذا التأكيد ما يجعل المخاطبين به منزَّلين منزلة المنكرين لمجيئه من حيث إنهم لم ينفعوا أنفسهم بهذا المجيء ، ولأن في هذا التأكيد تسجيلاً عليهم مراداً به الإيماء إلى اقتراب الرحيل ، لأنه لما أعيد الإخبار بمجيئه وهو حاصل منذ أعوام طويلة كان ذلك كناية عن اقتراب انتهائه ، وهو تسجيل منه على المؤمنين ، وإيداع للمنافقين ومن بقي من المشركين . على أن آيات أخرى خوطب بها أهل الكتاب ونحوهم فأكدت بأقل من هذا التأكيد كقوله تعالى : { يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } [ المائدة : 15 ] وكقوله تعالى : { يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } [ النساء : 174 ] فما زيدت الجملة في هذه السورة مؤكدة إلا لغرض أهم من إزالة الإنكار .
والمجيء : مستعمل مجازاً في الخطاب بالدعوة إلى الدين . شبه توجهه إليهم بالخطاب الذي لم يكونوا يترقبونه بمجيء الوافد إلى الناس من مكان آخر .
والأنفس : جمع نفْس ، وهي الذات . ويضاف النفس إلى الضمير فيدل على قبيلة معاد الضمير ، أي هو معدود من ذوي نسبهم وليس عداده فيهم بحلف أو ولاء أو إلصاق . يقال : هو قريشي من أنفسهم ، ويقال : القريشي مولاهم أو حليفهم ، فمعنى { من أنفسكم } من صميم نسبكم ، فتعين أن الخطاب للعرب لأن النازل بينهم القرآن يومئذٍ لا يَعدون العربَ ومن حالفهم وتولاهم مثلَ سلمانَ الفارسي وبلالٍ الحبشي ، وفيه امتنان على العرب وتنبيه على فضيلتهم ، وفيه أيضاً تعريض بتحريضهم على اتباعه وترك مناواته وأن الأجدر بهم الافتخار به والالتفاف حوله كما قال تعالى في ذكر القرآن { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] أي يبقى منه لكم ذكر حسن .
والعزيز : الغالب . والعزة : الغلبة . يقال عزّه إذا غلبه . ومنه { وعزني في الخطاب } [ ص : 23 ] ، فإذا عُدي بعلى دل على معنى الثقل والشدة على النفس . قال بشر بن عوانة في ذكر قتله الأسد ومصارعته إياه :
فقلتُ له يعزُّ عليَّ أني *** قتلت مناسبي جلداً وقهراً
و { ما } مصدرية . و { عنتم } : تعبتم . والعنت : التعب ، أي شاق عليه حزنكم وشقاؤكم . وهذا كقوله : { لعلّك باخِع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] وذكرُ هذا في صفة الرسول عليه السلام يفيد أن هذا خُلق له فيكون أثر ظهوره الرفق بالأمة والحذر مما يلقي بهم إلى العذاب في الدنيا والآخرة . ومن آثار ذلك شفاعته للناس كلهم في الموقف لتعجيل الحساب . ثم إن ذلك يومىء إلى أن شرعه جاء مناسباً لخُلقه فانتفى عنه الحرج والعسر قال تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] وقال : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] .
والعدول عن الإتيان بلفظ العنت الذي هو المصدر الصريح إلى الإتيان بالفعل مع ( ما ) المصدرية السابكة للمصدر نكتة . وهي إفادة أنه قد عز عليه عنتهم الحاصل في الزمن الذي مضى ، وذلك بما لقوه من قتْل قومهم ، ومن الأسر في الغزوات ، ومن قوارع الوعيد والتهديد في القرآن . فلو أتي بالمصدر لم يكن مشيراً إلى عنتتٍ معيَّن ولا إلى عنت وقع لأن المصدر لا زمَان له بل كان محتملاً أن يعز عليه بأن يجنبهم إياه ، ولكن مجيء المصدر منسبكاً من الفعل الماضي يجعله مصدراً مقيداً بالحصول في الماضي ، ألا ترى أنك تقدره هكذا : عزيز عليه عنتكم الحاصل في ما مضى لتكون هذه الآية تنبيهاً على أن ما لقوه من الشدة إنما هو لاستصلاح حالهم لعلهم يخفضون بعدها من غلوائهم ويرعوون عن غيهم ويشعرون بصلاح أمرهم .
والحرص : شدة الرغبة في الشيء والجشعُ إليه . ولما تعدى إلى ضمير المخاطبين الدال على الذوات وليست الذوات هي متعلق الحرص هنا تعين تقدير مضاف فُهم من مقام التشريع ، فيقدر : على إيمانكم أو هَدْيكم .
والرؤوف : الشديد الرأفة . والرحيم : الشديد الرحمة ، لأنهما صيغتا مبالغة ، وهما يتنازعان المجرور المتعلق بهما وهو { بالمؤمنين } .
والرأفة : رقة تنشأ عند حدوث ضر بالمرءُوف به . يقال : رؤوف رحيم . والرحمة : رقة تقتضي الإحسان للمرحوم ، بينهما عموم وخصوص مطلق ، ولذلك جمع بينهما هنا ولوازمُهما مختلفة . وتقدمت الرأفة عند قوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم } في سورة البقرة ( 143 ) والرحمة في سورة الفاتحة ( 3 ) .
وتقديم المتعلِّق على عامليه المتنازِعَيْنه في قوله : { بالمؤمنين رءوف رحيم } للاهتمام بالمؤمنين في توجه صفتيْ رأفته ورحمته بهم . وأما رحمته العامة الثابتة بقوله تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] فهي رحمة مشوبة بشدة على غير المؤمنين فهو بالنسبة لغير المؤمنين رائف وراحم ، ولا يقال : بهم رؤوف رحيم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للعرب:"لَقَدْ جاءَكُمْ" أيها القوم "رَسُولٌ "الله إليكم "مِنْ أنْفُسِكُمْ" تعرفونه لا من غيركم، فتتهموه على أنفسكم في النصيحة لكم. "عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنتّمْ": أي عزيز عليه عنتكم، وهو دخول المشقة عليهم والمكروه والأذى. "حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ" يقول: حريص على هدى ضلاّلكم وتوبتهم ورجوعهم إلى الحقّ. "بالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ": أي رفيق "رَحِيمٌ"...
وأما قوله: "عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم: معناه: ما ضللتم...
[عن ابن عباس] وقال آخرون: بل معنى ذلك: عزيز عليه عنت مؤمنكم... وأولى القولين في ذلك بالصواب قول ابن عباس، وذلك أن الله عمّ بالخبر عن نبيّ الله أنه عزيز عليه ما عنت قومه، ولم يخصص أهل الإيمان به، فكان صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله به عزيزا عليه عنت جميعهم.
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان عزيزا عليه عنت جميعهم وهو يقتل كفارهم ويسبي ذراريهم ويسلبهم أموالهم؟ قيل: إن إسلامهم لو كانوا أسلموا كان أحبّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه حتى يستحقوا ذلك من الله، وإنما وصفه الله جلّ ثناؤه بأنه عزيز عليه عنتهم، لأنه كان عزيزا عليه أن يأتوا ما يعنتهم وذلك أن يضلوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي...
وأما قوله: "حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ"... عن قتادة: "حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ" حريص على ضالِّهم أن يهديه الله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي: من البشر وهو امتنان منه عليهم؛ حيث بعث الرسول من البشر وله أن يبعث من غير البشر، لكنه بعث من البشر؛ ليعرفوا الآيات التي يأتي بها من التمويهات؛ لأنهم يعرفون مبلغ وسع البشر في الأشياء وقدر إمكانهم بعلم الأشياء، فإذا جاء بالأشياء التي هي خارجة عن الطباع ووسع البشر في التعليم، عرفوا أنها آيات لا تمويهات، مع ما يألف كل ذي جنس بجنسه وينفر من غير جنسه، هذا ظاهر في الخلائق أن كل ذي جنس يألف بجنسه ولا يألف بغير جنسه، فبعث الرسول من البشر ومن جنسهم؛ ليألفوا به، ويقبلوا منه ما يأتيهم به ويجيبوه إلى ما يدعوهم إليه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)، أي: من المكان الذي أنتم فيه وهو الحرم.
وقال آخرون: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ)، أي: من أنسابكم، وهو أيضًا موضع الامتنان عليهم؛ حيث بعثه من أنسابهم يعرفون نسبه ومولده ومنشأه من بين أظهرهم سليمًا عن جميع الآفات بريئا عن جميع المطاعن والعيوب؛ لأن المرء إذا كان مولده ومنشؤه من غير أظهرهم في قبيلة أو في مكان لا يعرف له النسب، ربما يتمكن فيه الطعن والعيب، ويقع التناكر في نسبه؛ لجهلهم بنسبه ومولده ومنشئه على السلامة والصحة والبراءة من العيوب، فبعث رسوله محمدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لئلا يتمكن فيه ما ذكرنا من المطاعن، ولا يعرف شيء من العيوب والآفات التي ذكرنا فيه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ)،أي: من العرب أميًّا كما هم، لا يكتب ولا يقرأ ولا يخطه بيمينه على ما وصفه في كتابه: (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ...) الآية، وقال: (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)، وذلك أن العرب تتمنى أن يبعث رسول منهم بقوله: (لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ)، ذكر مجيء الرسول من أنفسهم؛ ليكون أبعد من المطاعن التي طعنوا فيه والآفات التي ذكروا فيه، وأبرأه من العيوب التي رموه بها من نحو السحر والكهانة والجنون والافتراء على اللَّه، وليكون أقرب إلى المعرفة بأنه رسول؛ لأن ما يأتي به من الآيات والحجج يعرفون أنها سماوية؛ لما عرفوا أنه لم يتعلم السحر ولا أخذوا عليه بكذب قط ولا جن قط بما كان منشؤه فيما بين أظهرهم.
وقوله: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ). قيل: شديد عليه ما أعنتكم، أي: ما ضيق عليكم وضركم. وقَالَ الْقُتَبِيُّ: العنت: الضيق. وقَالَ بَعْضُهُمْ: العنت: الإثم، أي: شديد عليه ما أثمتم. وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو إلى الإثم أقرب، وهو يحتمل كل إثم: الكفر وغيره.
قال الشيخ أبو منصور -رحمه اللَّه- في قوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ): سماه بفعله العمل الحسن وبرأفته ورحمته بذلك، أي: استحق ذلك الاسم بفعله، وإنما سماه بذلك؛ لأن عمله كان لله لم يكن عمل لنفسه شيئًا، وكذلك ماله وأكسابه؛ فلذلك لم يكن ماله ميراثًا بين ورثته.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}... قرأ ابن عباس وابن ثعلبة: عبد الله بن فسيط المكي وابن محيصن والزهري {مِّنْ أَنفَسِكُمْ} بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم من قولك: شيء نفيس إذا كان مرغوباً فيه. قال يمان: من أعلاكم نسباً...
وقال الفراء: الحريص الشحيح أن تدخلوا النار. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ} رفيق {رَّحِيمٌ} قيل: رؤوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين رؤوف بعباده رحيم بأوليائه. رؤوف بمن يراه رحيم بمن لم يره.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} فيه قراءتان: إحداهما: من أنفسكم بفتح الفاء ويحتمل تأويلها ثلاثة أوجه: أحدها: من أكثركم طاعة لله تعالى. الثاني: من أفضلكم خلقاً.
والقراءة الثانية: بضم الفاء، وفي تأويلها أربعة أوجه: أحدها: يعني من المؤمنين لم يصبه شيء من شرك، قاله محمد بن علي. الثاني: يعني من نكاح لم يصبه من ولادة الجاهلية، قاله جعفر بن محمد. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خَرَجْتُ مِن نِكَاحٍ وَلَمْ أَخَرُجْ مِنْ سِفَاحٍ"
{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فيه وجهان: أحدهما: بما يأمرهم به من الهداية ويؤثره لهم من الصلاح. الثاني: بما يضعه عنهم من المشاق ويعفو عنهم من الهفوات، وهو محتمل.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أقسم الله تعالى في هذه الآية بأنه قد "جاءكم رسول من أنفسكم "لأن لام (لقد) هي اللام التي يتلقى بها القسم. والخطاب متوجه إلى جميع الخلق. ومعنى "من أنفسكم" أي أنكم ترجعون إلى نفس واحدة كما قال "قل إنما أنا بشر مثلكم" ويحتمل أن يكون المراد به من العرب أنكم كذلك، ويكون -على هذا- الخطاب متوجها إلى العرب خاصة، فأنتم تخبرونه قبل مبعثه.
وقوله "عزيز عليه" أي شديد عليه لأنه لا يقدر على إزالته... والعزة امتناع الشيء بما يتعذر معه ما يحاول منه، وهو على ثلاثة أوجه: امتناع الشيء بالقدرة أو بالقلة أو بالصعوبة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
جاءكم رسولٌ يشاكِلُكم في البشرية، فَلمَا أفردناه به من الخصوصية ألبسناه لباسَ الرحمة عليكم، وأقمناه بشواهد العطف والشفقة على جملتكم، قد وَكَلَ هِمَمَه بشأنكم، وأكبرُ هَمِّه إيمانُكم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسكم ومن نسبكم عربي قرشي مثلكم، ثم ذكر ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي شديد عليه شاق -لكونه بعضاً منكم- عنتكم ولقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} حتى لا يخرج أحد منكم عن اتباعه والاستسعاد بدين الحقّ الذي جاء به...
وقيل: لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {رَءوفٌ رَّحِيمٌ}.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {لقد جاءكم} مخاطبة للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديد النعمة عليهم في ذلك، إذ جاء بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به غابر الأيام، وقال الزجّاج: هي مخاطبة لجميع العالم، والمعنى لقد جاءكم رسول من البشر، والأول أصوب..
وقوله {ما عنتم} معناه عنتكم ف {ما} مصدرية وهي ابتداء، و {عزيز} خبر مقدم، ويجوز أن يكون {ما عنتم} فاعلاً ب {عزيز} و {عزيز} صفة للرسول، وهذا أصوب من الأول..
وقوله: {رؤوف} معناه مبالغ في الشفقة، قال أبو عبيدة: الرأفة أرق الرحمة...
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله عليه السلام أن يبلغ في هذه السورة إلى الخلق تكاليف شاقة شديدة صعبة يعسر تحملها، إلا لمن خصه الله تعالى بوجوه التوفيق والكرامة، ختم السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف، وهو أن هذا الرسول منكم، فكل ما يحصل له من العز والشرف في الدنيا فهو عائد إليكم. وأيضا فإنه بحال يشق عليه ضرركم وتعظم رغبته في إيصال خير الدنيا والآخرة إليكم، فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم في حقكم، والطبيب المشفق ربما أقدم على علاجات صعبة يعسر تحملها، والأب الرحيم ربما أقدم على تأديبات شاقة، إلا أنه لما عرف أن الطبيب حاذق، وأن الأب مشفق، صارت تلك المعالجات المؤلمة متحملة، وصارت تلك التأديبات الشاقة لتفوزوا بكل خير،ثم قال للرسول عليه السلام: فإن لم يقبلوها بل أعرضوا عنها وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وعول على الله وارجع في جميع أمورك إلى الله {فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} وهذه الخاتمة لهذه السورة جاءت في غاية الحسن ونهاية الكمال.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمسة أنواع من الصفات: الصفة الأولى: قوله: {من أنفسكم} وفي تفسيره وجوه: الأول: يريد أنه بشر مثلكم كقوله: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم} وقوله: {إنما أنا بشر مثلكم} والمقصود أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على الناس، على ما مر تقريره في سورة الأنعام. والثاني: {من أنفسكم} أي من العرب، قال ابن عباس: ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي عليه السلام بسبب الجدات، مضرها وربيعها ويمانيها، فالمضريون والربيعيون هم العدنانية، واليمانيون هم القحطانية ونظيره قوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} والمقصود منه ترغيب العرب في نصرته، والقيام بخدمته، كأنه قيل لهم: كل ما يحصل له من الدولة والرفعة في الدنيا فهو سبب لعزكم ولفخركم، لأنه منكم ومن نسبكم.
والثالث: {من أنفسكم} خطاب لأهل الحرم، وذلك لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته، وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل للعرب: كنتم قبل مقدمه مجدين مجتهدين في خدمة أسلافه وآبائه، فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف والرفعة إلا إلى أسلافه؟
والقول الرابع: أن المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته، كأنه قيل: هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة...
الصفة الثانية: قوله تعالى: {عزيز عليه ما عنتم}...
والصفة الثالثة: {حريص عليكم} والحرص يمتنع أن يكون متعلقا بذواتهم، بل المراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة. واعلم أن على هذا التقدير يكون قوله: {عزيز عليه ما عنتم} معناه: شديدة معزته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم، وبهذا التقدير لا يحصل التكرار...
والصفة الرابعة والخامسة: قوله: {بالمؤمنين رءوف رحيم}... يفيد الحصر بمعنى أنه لا رأفة ولا رحمة له إلا بالمؤمنين. فأما الكافرون فليس له عليهم رأفة ورحمة، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التغليظ كأنه يقول: إني وإن بالغت في هذه السورة في التغليظ إلا أن ذلك التغليظ على الكافرين والمنافقين. وأما رحمتي ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين فقط، فلهذه الدقيقة عدل على ذلك النسق.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وصف الله نبيه عليه السلام بستة: أوصاف الرسالة وهي صفة كمال الإنسان لما احتوت عليه من كمال ذات الرسول وطهارة نفسه الزكية، وكونه من الخيار بحيث أهل أنْ يكون واسطة بين الله وبين خلقه، ولما كانت هذه الصفة أشرف الأشياء بدئ بذكرها وكونه من أنفسهم وهي صفة مؤثرة في البليغ والفهم عنه والتآنس به، فإن كان خطاباً للعرب ففي هذه الصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيه التنويه بهم واللطف في إيصال الخبر إليهم، وأنه معروف بينهم بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة. وكونه يعز عليه ما يشق عليكم، فهذا الوصف من نتائج الرسالة. ومن كونه من أنفسهم، لأنّ من كان منك وادّلك الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك وكونه حريصاً على هدايتهم، وهو أيضاً من نتائج الرسالة، لأنه بعث ليعبد الله ويفرد بالألوهية. وكونه رءُوفاً رحيماً بالمؤمنين، وهما وصفان من نتائج التبعية له، والدخول في دين الله. {إنما المؤمنون إخوة} « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً حتى تحب لأخيك المؤمن ما تحب لنفسك»...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ختم الله تعالى هذه السورة بهاتين الآيتين اللتين قال أبي بن كعب رضي الله عنه إنهما آخر ما نزل، وبينا في الكلام على السورة قبل الشروع في تفسيرها ما يعارضه، وسنحقق المسألة بعد الفراغ من تفسير الآيتين.
{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} جمهور المفسرين على أن الخطاب هنا للعرب، فهو في معنى قوله: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} [الجمعة: 2]، فالمنة به صلى الله عليه وسلم على قومه أعظم، والحجة عليهم به وبكتابه أنهض، وأخص قومه به قبيلة قريش، فعشيرته الأقربون بنو هاشم وبنو المطلب، ولو لم يؤمن به وبكتابه العرب لما آمن العجم، وهو مبعوث إلى جميع الناس كما تقدم في قوله: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} [الأعراف: 158، ولكنه وجه دعوته إلى الأقرب فالأقرب على القاعدة التي بيناها آنفا في قتال الأقرب فالأقرب، فالعرب آمنوا بدعوته مباشرة، والعجم آمنوا بدعوة العرب، العرب آمنوا بفهم القرآن وبيانه صلى الله عليه وسلم له بالتبليغ والعمل، وبما شاهدوا من آيات الله تعالى في شخصه، والعجم آمنوا بدعوة العرب، وما شاهدوا من عدلهم وفضائلهم، ثم بدعوة بعضهم لبعض بعد انتشار الإسلام فيهم.
وقال الزجاج: إن الخطاب للعالم كله لعموم بعثته، فيكون بمعنى ما يأتي في أول السورة التالية {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم} [يونس: 2] الخ، ولكن آية أول سورة يونس هذه في الرد على منكري كون البشر رسولا من الله، وهو المحكي عن جميع كفار الأمم، وآية آخر سورة براءة في امتنان الله عزّ وجلّ على من أرسل إليهم الرسول من أنفسهم وصميم قومهم، لتأييد الحجة بالمنة، والترغيب في إجابة الدعوة، فإن من طبع كل قوم حب الاختصاص بالفضل والشرف على غيرهم، كما قال تعالى في امتنانه عليه بالقرآن المجيد {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44]، أي شرف لك ولهم، تذكرون به في العالم، ويدوّن لكم في التواريخ، وإنما قاومه وعانده أكابر قومه حتى من بني هاشم أنفة واستكبارا عن اتباعه، وهم يرونه دونهم، ولما يتضمن اتباعه من الإقرار بكفرهم وكفر آبائهم وأجدادهم الذين يفاخرون بهم، مع عدم ثقتهم بفوزه وبأنهم ينالون باتباعه من مجد الدنيا فوق ما كانوا عليه بمسافات تطاول السماء رفعة وشرفا، دع ما هو فوق مجد الدنيا من سعادة الآخرة، ثم إنهم صاروا يفتخرون بكونه صلى الله عليه وسلم منهم، بأكثر مما يبيحه دينه لهم، حتى صار أقربهم يتكل على نسبه فيقصر في العلم والعمل.
وقد أكد تعالى هذه المنة الخاصة بوصفه هذا الرسول بقوله: {عزيز عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ...} العنت المشقة ولقاء المكروه الشديد، وقيده الراغب بما يخاف منه الهلاك، وعزّ على فلان الأمر: ثقل واشتد عليه، وقالوا: هو كناية عن الأنفة عنه، وما مصدرية، أي شديد على طبعه وشعوره القومي عنتكم؛ لأنه منكم، وهذا يشمل ما يكون في الدنيا وما يكون في الآخرة، فلا يهون عليه أن يكونوا في دنياهم أمة ضعيفة ذليلة يعنتها أعداؤها بسيادتهم عليها وتحكمهم فيها، ولا أن يكونوا في الآخرة من أصحاب النار.
{حَرِيصٌ عَلَيْكُم} الحرص شدة الرغبة في الحصول على المفقود، وشدة العناية بحفظ الموجود، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على اهتداء قومه به بإيمان كافرهم وثبات مؤمنهم في دينه، كما قال تعالى له: {إن تحرص على هداهم} [النحل: 37]، وقال: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف: 103].
{بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} أي شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين، فكل ما يدعوهم إليه من العمل بشرائع الله تعالى فهو دليل على ثبوت هذه الصفات الكاملة والعواطف السامية له صلى الله عليه وسلم بنص الله تعالى، وهو أرحم بالمؤمنين وأرأف، وكل شاق منها كالجهاد فهو منجاة مما هو أشق منه، ولا شيء من الشاق منها ببالغ حد العنت، للقطع في هذا الدين بنفي العسر والحرج.
وصف الله تعالى رسوله بصفتين من صفاته العلى، وسماه باسمين من أسمائه الحسنى، بعد وصفه بوصفين هما أفضل نعوت الرؤساء والزعماء المدبرين لأمور الأمم بالحق والعدل والفضل، وفي الصحاح والقاموس أن الرأفة أشد الرحمة. وجعلهما بعض اللغويين والمفسرين بمعنى واحد. وقال بعضهم: إن الرأفة أخص، لا تكاد تقع في الكراهية، والرحمة قد تقع في الكراهية للمصلحة، واختار الرازي أنها مبالغة في رحمة مخصوصة من دفع المكروه وإزالة الضرر. وقال أستاذنا إنها لا تستعمل إلا في حق من وقع في بلاء، اختيارا لقول الرازي (ج 2 تفسير)، وأصح منه أنها تستعمل في مكان الضعف والشفقة والرقة كقولهم: رأف بولده وترأف به، وتقديمه على الرحيم هو الواجب، كأنه قال: رؤوف بضعفاء المؤمنين وأولي القربى منهم، ورحيم بهم كلهم، وتخصيص رأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين، في مقابلة ما أمر به هو الغلظة على الكفار والمنافقين، لا يعارض كون رسالته رحمة للعالمين، كما هو ظاهر، فإن هذه الرحمة مبذولة لجميع الأمم، لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم، ولكن منهم من قبلها ومنهم من ردها، وقد بينا في تفسير (وأغلظ عليهم) أنه إنما أمر بذلك صلوات الله تعالى عليه لأن الغالب على طبعه الشريف الرقة والرحمة والأدب في المقابلة والمعاشرة. وقد قال تعالى: {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159].
وفي التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه في الآية {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} قال: ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريها وربيعيها ويمانيها، يعني أن نسبه متشعب في جميع قبائل العرب وبطونها. وعنه في {عزيز عليه ما عنتم} قال: شديد عليه ما شق عليكم. {حريص عليكم} أن يؤمن كفاركم.
ومن القراءة الشاذة في الآية {أنفسكم} بفتح الفاء من النفاسة، رواها ابن مردويه من حديث علي مرفوعا، وقرأ بها ابن عباس والزهري وابن محيصن، ورويت عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد الباقر، وهي خبر واحد لا يثبت بها القرآن، وفيها أن المعهود في فصيح الكلام أن النفيس والأنفس مما يوصف به الأشياء لا الأشخاص.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتختم السورة بآيتين ورد أنهما مكيتان، وورد أنهما مدنيتان. ونحن نأخذ بهذا الأخير، ونلمح مناسبتهما في مواضع متفرقة في هذا الدرس وفي جو السورة على العموم. آيتين تتحدث إحداهما عن الصلة بين الرسول وقومه، وعن حرصه عليهم ورحمته بهم. ومناسبتها حاضرة في التكاليف التي كلفتها الأمة المؤمنة في مناصرة الرسول ودعوته وقتال أعدائه واحتمال العسرة والضيق. والآية الثانية توجيه لهذا الرسول أن يعتمد على ربه وحده حين يتولى عنه من يتولى، فهو وليه وناصره وكافيه... (لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تولوا فقل حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم) ولم يقل: جاءكم رسول منكم. ولكن قال: (من أنفسكم) وهي أشد حساسية وأعمق صلة، وأدل على نوع الوشيجة التي تربطهم به. فهو بضعة من أنفسهم، تتصل بهم صلة النفس بالنفس، وهي أعمق وأحسن...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمجيء: مستعمل مجازاً في الخطاب بالدعوة إلى الدين. شبه توجهه إليهم بالخطاب الذي لم يكونوا يترقبونه بمجيء الوافد إلى الناس من مكان آخر. وهو استعمال شائع في القرآن. والأنفس: جمع نفْس، وهي الذات. ويضاف النفس إلى الضمير فيدل على قبيلة معاد الضمير، أي هو معدود من ذوي نسبهم وليس عداده فيهم بحلف أو ولاء أو إلصاق. يقال: هو قريشي من أنفسهم، ويقال: القريشي مولاهم أو حليفهم، فمعنى {من أنفسكم} من صميم نسبكم، فتعين أن الخطاب للعرب لأن النازل بينهم القرآن يومئذٍ لا يَعدون العربَ ومن حالفهم وتولاهم مثلَ سلمانَ الفارسي وبلالٍ الحبشي، وفيه امتنان على العرب وتنبيه على فضيلتهم، وفيه أيضاً تعريض بتحريضهم على اتباعه وترك مناوأته وأن الأجدر بهم الافتخار به والالتفاف حوله كما قال تعالى في ذكر القرآن {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44] أي يبقى منه لكم ذكر حسن.
والعزيز: الغالب. والعزة: الغلبة. يقال عزّه إذا غلبه. ومنه {وعزني في الخطاب} [ص: 23]، فإذا عُدي بعلى دل على معنى الثقل والشدة على النفس.
والحرص: شدة الرغبة في الشيء والجشعُ إليه. ولما تعدى إلى ضمير المخاطبين الدال على الذوات وليست الذوات هي متعلق الحرص هنا تعين تقدير مضاف فُهم من مقام التشريع، فيقدر: على إيمانكم أو هَدْيكم. والرؤوف: الشديد الرأفة. والرحيم: الشديد الرحمة، لأنهما صيغتا مبالغة، وهما يتنازعان المجرور المتعلق بهما وهو {بالمؤمنين}. والرأفة: رقة تنشأ عند حدوث ضر بالمرءُوف به. يقال: رؤوف رحيم.
والرحمة: رقة تقتضي الإحسان للمرحوم، بينهما عموم وخصوص مطلق، ولذلك جمع بينهما هنا ولوازمُهما مختلفة.
وتقديم المتعلِّق على عامليه المتنازِعَيْن في قوله: {بالمؤمنين رءوف رحيم} للاهتمام بالمؤمنين في توجه صفتيْ رأفته ورحمته بهم. وأما رحمته العامة الثابتة بقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] فهي رحمة مشوبة بشدة على غير المؤمنين فهو بالنسبة لغير المؤمنين رائف وراحم، ولا يقال: بهم رؤوف رحيم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
القرآن يتحدث عن صفات الرسول وتلك هي صورة النبي الإنسان في مشاعره الحلوة الرقيقة التي تنساب بالحنان والعاطفة على الناس من حوله، فيضمّ المؤمنين إليه في حرصٍ كبيرٍ وخوفٍ شديدٍ من أن يمسّهم سوء، أو يعرض لهم مكروهٌ، أو يصيبهم جهدٌ أو مشقةٌ وعذابٌ، في جوٍّ حميمٍ من الرأفة والرحمة التي تغمر القلوب وتملأ النفوس غبطةً وسروراً، وذلك هو الذي يفسح المجال للسائلين أن يجدوا لديه القلب المفتوح الذي ينفتح لكل علامة استفهام تدور في أفكارهم، ليجيب عنها بكل محبةٍ وعمقٍ وانفتاحٍ، وهو الذي يتيح الفرصة للضالّين أن يلتمسوا الهدى عنده، فلا يتعقّدون من أسلوب ولا يتشنّجون من نظرةٍ، بل يواجهون بدلاً من ذلك النظرة الحنونة، والابتسامة المشرقة، والكلمة الطيبة، واللفتة الحلوة، فيقتربون إليه بالجوّ الحميم، قبل أن يقتربوا بالفكرة العميقة الموحية بل يكون هذا الجوّ هو المدخل الذي يتيح للفكرة أن تلج إلى القلب وتتحرك في العقل، فتتحول إلى حركة إيمان في النفس. وهذا هو ما يحتاجه الداعية الذي يتحمل مسؤولية الدعوة إلى الله، فإن عليه أن يعيش الخلق العظيم قبل أن يعيش الفكرة، أو وهو يعيش الفكرة على الأقل، فيحب الناس من عمق العاطفة ويحرص عليهم، ويرحمهم ويرأف بهم ولا يتعقّد منهم، ليسهل عليه أمر الوصول إلى قلوبهم وعقولهم من أقرب طريق. وربما ساهمت ابتسامةٌ حلوةٌ وكلمة طيّبة من داعية في انفتاح إنسان ما على الهداية، كما قد تساهم حالةٌ تشنّجيةٌ وكلمةٌ قاسيةٌ في انغلاق الإنسان وابتعاده عن الخط المستقيم، تبعاً للعقدة التي تنحلّ بكلمة وابتسامةٍ، أو تتعقّد بكلمةٍ وقساوةٍ ونظرة حقدٍ.