في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَّا يَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمٗا} (147)

135

وأخيرا تجيء تلك اللمسة العجيبة ، الموحية المؤثرة العميقة . . أخيرا بعد ذكر العقاب المفزع ، والأجر العظيم . . لتشعر قلوب البشر أن الله في غنى عن عذاب العباد . فما به - سبحانه - من نقمة ذاتية عليهم يصب عليهم من أجلها العذاب . وما به - سبحانه - من حاجة لاظهار سلطانه وقوته عن هذا الطريق . وما به - سبحانه - من رغبة ذاتية في عذاب الناس . كما تحفل أساطير الوثنية كلها بمثل هذه التصورات . . وإنما هو صلاح العباد بالإيمان والشكر لله . . مع تحبيبهم في الإيمان والشكر لله . وهو الذي يشكر صالح العمل ويعلم خبايا النفوس :

( ما يفعل الله بعذابكم - إن شكرتم وآمنتم ؟ - وكان الله شاكرا عليما ) . .

نعم ! ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ؟ إن عذابه لجزاء على الجحود والكفران ؛ وتهديد لعله يقود إلى الشكر والإيمان . . إنها ليست شهوة التعذيب ، ولا رغبة التنكيل ؛ ولا التذاذ الآلام ، ولا إظهار البطش والسلطان . . تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا . . فمتى اتقيتم بالشكر والإيمان ؛ فهنالك الغفران والرضوان . وهناك شكر الله - سبحانه - لعبده . وعلمه - سبحانه - بعبده .

وشكر الله - سبحانه - للعبد ، يلمس القلب لمسة رفيقة عميقة . . إنه معلوم أن الشكر من الله - سبحانه - معناه الرضى ، ومعناه ما يلازم الرضى من الثواب . . ولكن التعبير بأن الله - سبحانه - شاكر . . تعبير عميق الإيحاء !

وإذا كان الخالق المنشى ء ، المنعم المتفضل ، الغني عن العالمين . . يشكر لعباده صلاحهم وإيمانهم وشكرهم وامتنانهم . . وهو غني عنهم وعن إيمانهم وعن شكرهم وامتنانهم . . إذا كان الخالق المنشى ء ، المنعم المتفضل ، الغني عن العالمين يشكر . . فماذا ينبغي للعباد المخلوقين المحدثين ؛ المغمورين بنعمة الله . . تجاه الخالق الرازق المنعم المتفضل الكريم ؟ !

ألا إنها اللمسة الرفيقة العميقة التي ينتفض لها القلب ويخجل ويستجيب .

ألا إنها الإشارة المنيرة إلى معالم الطريق . . الطريق إلى الله الواهب المنعم ، الشاكر العليم . .

وبعد . . فهذا جزء واحد ، من ثلاثين جزءا ، من هذا القرآن . . يضم جناحية على مثل هذا الحشد العجيب من عمليات البناء والترميم ؛ والتنظيف والتقويم . وينشى ء في عالم النفس ، وفي واقع المجتمع ، وفي نظام الحياة ، ذلك البناء الضخم المنسق العريض . ويعلن مولد الإنسان الجديد ؛ الذي لا تعرف له البشرية من قبل ولا من بعد مثيلا ولا شبيها ، في مثاليته وواقعيته . وفي نظافته وتطهره ، مع مزاولة نشاطه الإنساني في شتى الميادين . . هذا الإنسان الذي التقطه المنهج الرباني من سفح الجاهلية ، ودرج به في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة . في يسر . وفي رفق وفي لين . .

انتهى الجزء الخامس ويليه الجزء السادس مبدوءا بقوله تعالى : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول )

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَّا يَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمٗا} (147)

تذييل لكلتا الجملتين : جملة { إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار } مع الجملة المتضمنّة لاستثناء من يتوب منهم ويؤمن ، وما تضمّنته من التنويه بشأن المؤمنين من قوله : { وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً } [ النساء : 146 ] .

والخطاب يجوز أن يراد به جميع الأمّة ، ويجوز أن يوجّه إلى المنافقين على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ارتفاقاً بهم .

والاستفهام في قوله : { ما يفعل الله بعذابكم } أريد به الجواب بالنفي فهو إنكاري ، أي لا يفعل بعذابكم شيئاً .

ومعنى { يفْعَلُ } يصنع وينتفع ، بدليل تعديته بالباء . والمعنى أنّ الوعيد الذي تُوعِّد به المنافقون إنّما هو على الكفر والنفاق ، فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله غفر لهم العذاب ، فلا يحسبوا أنّ الله يعذّبهم لِكراهة في ذاتهم أو تشفّ منهم ، ولكنّه جزاء السوء ، لأنّ الحَكيم يضع الأشياء مواضعها ، فيجازي على الإحسان بالإحسان ، وعلى الإساءة بالإساءة ، فإذا أقلع المسيء عن الإساءة أبطل الله جزاءه بالسوء ، إذ لا ينتفع بعذاب ولا بثواب ، ولكنّها المسبّبات تجري على الأسباب . وإذا كان المؤمنون قد ثبتوا على إيمانهم وشُكرهم ، . وتجنّبوا موالاة المنافقين والكافرين ، فالله لا يعذّبهم ، إذ لا موجب لعذابهم .

وجملة { وكان الله شاكراً عليماً } اعتراض في آخر الكلام ، وهو إعلام بأنّ الله لا يعطّل الجزاء الحسن عن الذين يؤمنون به ويشكرون نعمَهُ الجمّة ، والإيمان بالله وصفاته أوّل درجات شكر العبد ربّه .